﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾: أي أنّ الّذي ربّى وأعطى وأنعم هو الّذي كلّف، ويجب أن تستمعوا إلى منهجه.
﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ : بيّن سبحانه وتعالى الحيثيّات، قال الله تعالى لنا أنّه خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام، وهناك آياتٌ في سورة (فصّلت) جاء فيها تفصيلٌ، ويظهر من أسلوبها أنّ الخلق استغرق ثمانية أيّامٍ هكذا يعتقد بعض النّاس، وهي قوله سبحانه وتعالى :﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ ]فصّلت[، ولكنّها حقيقةً ستّة أيّامٍ، ونحن نعلم أنّ المجمل يفسّره المفصّل، إلّا العدد فإنّ مفصّله محمولٌ على مجمله، فالأرض خلقها الله سبحانه وتعالى في يومين، وجعل فيها رواسي وبارك فيها، وكلّ مخلوقٍ ثانٍ هو تتمّةٌ للأوّل، فاليومان الأوّلان إنّما يدخلان في الأيّام الأربعة، وخلق السّماوات أخذ اليومين الأخيرين فصار المجموع ستّة أيّامٍ، سنتوقّف عند استثنائيّات الزّمن، فمثلاً اليوم على كوكب الزّهرة أطول من العام الزّهريّ؛ لأنّ العام الزّهريّ على توقيت الأرض مئتان وخمسةٌ وعشرون يوماً، أمّا طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مئتان وأربعةٌ وأربعون يوماً، وما أظهره الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم من الأزمنة إنّما يدلّ على اختلافها لا على التّعارض والتّناقض، وعندما يقول سبحانه وتعالى :﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ]الحجّ: من الآية 47[، أو: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ]السّجدة: من الآية 5[، الزّمان والمكان مخلوقان لله سبحانه وتعالى ، ونحن لا نطبّق على قدرة الله سبحانه وتعالى ما يتعلّق بقدرة البشر، فالحدث يحتاج إلى زمانٍ ومكانٍ، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو خالق الكون، فلا نقول عنه سبحانه وتعالى: أين وكيف؟ فهو تبارك وتعالى لا يخضع لمعيار الزّمان والمكان، والزّمن عنده جل جلاله يختلف ببيان اختلافه.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: وقف العلماء عند كلمة استوى طويلاً، فوجدوها قد جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى في اثنتي عشرة سورة: البقرة والأعراف ويونس والرّعد وطه والفرقان والقصص والسّجدة وفصّلت والفتح والنّجم والحديد، وأوّل سورةٍ جاء فيها ذكر استواء الله عز وجل على العرش هي (الأعراف) في قوله سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ]الأعراف: من الآية 54[، إنّ الصّفات الّتي توجد في البشر ووصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه مثل: قويّ، عالم، عليم، غنيّ، كريم..، لا تؤخَذ على مقتضى ما هي عند البشر، فكلّ إنسانٍ ممكن الوجود، لكنّ الحقّ سبحانه وتعالى واجب الوجود ليس كمثله شيءٌ، وما يُفسد الفهم أن يُقال: استوى، بمعنى جلس أو قعد، أو نأخذ الاستواء كتمثيلٍ للسّيطرة، وسبحانه مسيطرٌ على كلّ شيءٍ من غير كلمة الاستواء، والاستواء تعني التّمكّن، قال سبحانه وتعالى :﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ]القصص: من الآية 14[، استوى: تعني بلوغ الكمال في الذّات، أمّا بالنّسبة لله سبحانه وتعالى فلا نقول ذلك بحقّه سبحانه وتعالى ، فكلّ استواءٍ لله سبحانه وتعالى يجب أن يؤخذ على أنّه استواءٌ يليق بذاته وصفاته، فهي صفاتٌ مطلقةٌ في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ]الشّورى: من الآية 11[، وفعل الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتساوى مع فعل البشر، لذلك قلنا في حديث الإسراء: إنّ الكفّار عندما كذّبوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّه قد أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السّماء، قال سبحانه وتعالى بالآية ذاتها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ]الإسراء: من الآية 1[، أي تنزّه الله سبحانه وتعالى في صفاته وقدرته عن الخلق، وهناك فرقٌ بين تمثيل الشّيء وبين حقيقته، فحين يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ ]النّور: من الآية 35[، فهذا مثلٌ توضيحيٌّ للبشر، فالأمر واضحٌ الآن إن سأل أحدهم: كيف استوى على العرش؟ هل له عرشٌ؟ فنقول له: بما يليق بذات الله سبحانه وتعالى ، ولا نأخذ الاستواء على المعنى الّذي يدلّ على المكان الـمُحيَّز؛ لأنّه سبحانه وتعالى منزّهٌ عن ذلك، فذاته جل جلاله ليست كالذّوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصّفات، أمّا كيفيّة الاستواء فهي مجهولةٌ، ومعرفتها لا تُقدِّم ولا تؤَخِّر بالنّسبة للتّشريع والأوامر والنّواهي، ولا يجب إدخال النّاس بهذه المتاهات وهذه النّقاشات السّفسطائيّة.
﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: أي يرتّب الوجود ترتيباً يجعل كلّ شيءٍ موضوعاً في مكانه بحكمةٍ، والحقّ سبحانه وتعالى له صفة علمٍ وصفة إرادةٍ وصفة قدرةٍ، فصفة العلم هي الّتي تضع كلّ شيءٍ في مكانه بحكمةٍ، وصفة الإرادة هي الّتي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وصفة القدرة تبرز مراد الله سبحانه وتعالى ، فعندما يقول الله Y:﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي جاء ليؤكّد نفي التّعجّب من أن يكون الوحي للنّبيّ ﷺ عندما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ ]يونس: من الآية 2[، وعلّتها أنّ الله سبحانه وتعالى هو الرّبّ وهو الّذي خلق، وإذا استقرأنا الأفعال والأحداث سنجد الأمور المحرّمة قليلةً، والأمور الـمُباحة كثيرةً جدّاً، فالله سبحانه وتعالى أباح لنا شرب الماء والعصير والمشروبات بأنواعها ما عدا الخمر، فالمحظور واحدٌ، والله سبحانه وتعالى هو الّذي شاء أن نفعل ذلك، أو ألّا نفعل، والكون المادّيّ المخلوق لله جل جلاله في غاية الدّقّة والنّظام، فلن تمتنع الشّمس من أن تشرق أو أن تعطي ضوءها وحرارتها للنّاس، وما امتنع القمر أن يعطي نوره لأحدٍ، وإذا نظرنا إلى معنى كلمة: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ نجد أنّ كلّ شيءٍ ينشأ عن قوله: ﴿يإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ]يس[، فسبحانه يدبّر الأمر في السّنن المادّيّة الّتي لا تتناولها يد الإنسان، فإن أراد الإنسان أن يضبط أمور حياته فليأخذ المنهج الّذي أنزله الله جل جلاله: (افعل ولا تفعل)، والمباحات -كما قلنا- كثيرةٌ، والإنسان حرٌّ في الاختيار بين البدائل، لكنّه ليس حرّاً بأن يقول للشّمس: اغربي ولا تشرقي، أو يقول للهواء: امتنع عن فلانٍ؛ لأنّني أكرهه، أو يقول: لا أريد أن أتنفّس، أو: لا أريد النّور…، فهذا الأمر يدبّره الله سبحانه وتعالى ووضع للبشر نظاماً مستقيماً محكماً لا يتخلّف، ونواميس الكون تعمل بدقّةٍ ينتفع بها المؤمن والكافر، حتّى بعض العلماء الّذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ومنهجه حدّدوا مواعيد الكسوف والخسوف الجزئيّ أو الكلّي للشّمس أو القمر بدقّةٍ متناهيةٍ؛ ذلك لأنّ هناك استقراراً لمعطيات الكون.
﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾: جاء الحقّ سبحانه وتعالى بمسألة الشّفاعة بعد مسألة تدبير الأمر؛ لأنّ هؤلاء المشركين الّذين تعجّبوا من إرسال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم كانوا يعبدون ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، ويقولون: إنّ تلك الأصنام تشفع لهم عند الله عز وجل، ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ﴾ ]يونس: من الآية 18[، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ]البقرة: من الآية 255[، وفي آيةٍ أخرى يقول جلّ وعلا : ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ]طه[، فالشّفيع لا بدّ له من إذنٍ ورضاً من الله جل جلاله.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُو﴾: فسبحانه خلق الكون، واستتبّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون.
﴿ذَلِكُمُ﴾: أي إشارةٌ إلى ما تقدّم من خلق السّماوات والأرض والاستواء على العرش وتدبير الأمر كلّه، وأنّه لا أحد يشفع عنده إلّا بإذنه، هذا هو الله ربّكم عز وجل، وما دام هو ربّكم فاعبدوه؛ لأنّه هو الّذي خلق من عدمٍ وأمدّ من عدمٍ، وله صفات الكمال المطلق، والعبادة لا تعود عليه بمنفعةٍ أو فائدةٍ فهو منزّهٌ عن ذلك، فأنتم تعبدونه لمصلحتكم، ولا تزيدوا في مُلكه شيئاً إذا عبدتموه، كما جاء في الحديث الشّريف: «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضُرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً»([1]).
﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾: المخّ فيه ملكاتٌ متعدّدةٌ مثل مَلَكة التّخيّل، والحفظ والاختزان، والكثير من الـمَلَكات الأخرى، ومنها ملَكَة التّذكّر، ومعنى التّذكّر: أنّ شيئاً سبق لك به إلفٌ أو فطرةٌ، ونسيت هذه الفطرة فيذكّرك بها، وقد قال سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ ]الأعراف[، وقد نسي الإنسان هذه الفطرة فأرسل الله سبحانه وتعالى الرّسل مبشّرين ومنذرين ومذكّرين، قال سبحانه وتعالى : ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ الغاشية[، مذكِّرٌ يذكّر بعالم الفطرة الأولى، وكلّ ما في الكون يدلّ على وجود اللّطيف الخبير.
([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).