بعد أن وثّق الحقّ سبحانه وتعالى مسألة كتابة الأعمال وإحصائها على أصحابها، رتّب على ذلك حكماً واسعاً، فالأمر سيؤول إلى حسابٍ وجزاءٍ يُناسِب الخير والشّرّ الّذي سجّلته الملائكة، وهذا المصير مُعَدٌّ ومُجهَّزٌ ينتظر أصحابه الأبرار في نعيمٍ، والفجّار في جحيمٍ، وقد أكّد الكلام هنا بأكثر من أداةٍ للتّوكيد، فقد استخدم الأسلوب المؤكَّد باللّام ليقطع الطّريق على أصحاب الارتياب في هذا المصير.
﴿الأَبْرَارَ﴾: جمع بارّ، والمصدر: البِرُّ، وهي كلمةٌ تجمع خصال الخير كلّها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: من الآية 189]، جاءت كلمةٌ موجزةٌ وشاملةٌ، فالبرّ ليس أمراً شكليّاً، لكنّه قائمٌ على الشّكل والموضوع، فلو قرأنا مثلاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: من الآية 45]، فإن جاء من يقول لنا: ماذا لو أنّني لا أعمل الفحشاء والمنكر، والأمر قد تحقّق موضوعه، فالشّكل إذاً لم يَعُد ضروريّاً، فسنقول له: أنت فرّقت بين الشّكل والموضوع، وهما متلازمان، والحقّ سبحانه وتعالى يردّ على هؤلاء ببيان وجوه البرّ: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ _ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة]، فعدّد ألوان البرّ، وأنّها تقوم على الشّكل والمضمون معاً، وتبدأ بالعقائد، فالقمّة من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين..