الآية رقم (11) - إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ

﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾: من الّذي ينتفع بالإنذار؟ من اتّبع الذّكر، والذّكر هو القرآن الكريم، ومَن ينتفع بالذّكر والإنذار هو مَن آمن بالله سبحانه وتعالى وبالجنّة والنّار، وهو من يذكر الله سبحانه وتعالى.

﴿ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾: وهذه نقطةٌ مهمّةٌ، فنحن نخشى الرّحمن بالعلن، بالمشهد، لكن هل يا ترى كلّنا يخشى الرّحمن بالغيب؟ هل يا ترى في سرّنا نعلم بأنّ الله سبحانه وتعالى يرانا؟ فأصل الخشية أن تكون في الغيب؛ أي في السّرّ وليس في العلن، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»([1])، فهناك رقيبٌ مستمرٌّ عليك، هذا الرّقيب ليس إنساناً مثلك، وليس قانوناً فقط، وإنّما هو رقيبٌ بالغيب، تعلم بأنّ الله سبحانه وتعالى يرى، فلا تستطيع أن تعصيه، وإذا أردت أن تعصيه فاذهب إلى مكانٍ لا يراك فيه جل جلاله.

رُوِي أنّ المعتضد وهو أحد ملوك دولة بني بُوَيْه أيّام الخلافة العبّاسيّة، وكان مشهوراً بالذّكاء والعدل، وحدث أن جاء رجلٌ إلى سوق بغداد ليبيع عِقْداً نفيساً ليحجّ بثمنه، فلم يجد في السّوق مشترياً لنفاسة العِقد، ومرَّ الرّجل بشيخٍ وقور عليه علامات الصّلاح، فقال: هذا رجلٌ أمينٌ أُودع عنده هذا العِقد أمانة حتّى أعود من الحجّ، فلمّا عاد من الحجّ سأل الشّيخ عن العِقد الّذي تركه عنده، فأنكره الشّيخ، وخابت محاولاته كلّها لاستعادة العِقد، وعندما سمعه أحد المارّة قال: يا هذا، إنّه رجلٌ مخادعٌ كذّاب، اذهب إلى المعتضد، وسوف يُعيد لك العِقد بذكائه وحيلته، فذهب الرّجل إلى المعتضد وقصَّ عليه القصّة، فقال له: اذهب في الغد واجلس بجوار هذا الرّجل، وسوف أمرُّ عليك في موكبي، فلا تَقُمْ لي، وإنْ كلَّمتُك فرُدّ وأنت جالس، ودَعْني أتصرّف في هذه المسألة.

وفي الغد مَرَّ المعتضد في موكبه المهيب، وحوله الحاشية والصّولجان فنظر إلى صاحب العقد، وقال: يا فلان، منذ متى وأنت هنا؟ وكيف لا تخبرني بوجودك لأقابلك وأؤدّي لك حقّك؟!

سمع الشّيخ هذا الكلام فظنَّ أنّ الرّجل من معارف الملك ومن أتباعه، فارتعد ونادى صاحب العِقْد، وقال له: أرجوك لا تذكرني أمام الملك بحكاية العِقْد هذه، وقَام إلى العِقْد فردّه إلى صاحبه، فلقد خاف هذا الرّجل من المعتضد ولم يخف من الله سبحانه وتعالى، فقد خشي الرّحمن بالشّهود وليس بالغيب، وهذا الملحظ مهمٌّ جدّاً؛ لأنّه سرّ الإيمان.

وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾: نجد أنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿الرَّحْمَنَ﴾، ولم يقل: (القويّ)، الرّحمن من الرّحمة، وهي الّتي يغفر الله سبحانه وتعالى بها الذّنوب.

﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾: الأجر هو نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، والأجر لا يكون كريماً، وإنّما الّذي يعطي الأجر هو الكريم، والمعنى أنّ كرم المعطي تعدَّى إلى العطيّة، فصارت العطيّة كريمة، فالأجر عند الله سبحانه وتعالى كريمٌ، فكيف بأكرم الأكرمين؟

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النّبيّ , عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم السّاعة، الحديث رقم (50).

«إِنَّما» كافة مكفوفة

«تُنْذِرُ» مضارع فاعله مستتر والجملة مستأنفة

«مَنِ» اسم موصول مفعول به

«اتَّبَعَ الذِّكْرَ» ماض ومفعوله وفاعله مستتر والجملة صلة

«وَخَشِيَ الرَّحْمنَ» ماض ومفعوله والجملة معطوفة

«بِالْغَيْبِ» متعلقان بمحذوف حال

«فَبَشِّرْهُ» الفاء الفصيحة وأمر ومفعوله وفاعله مستتر

«بِمَغْفِرَةٍ» متعلقان بالفعل قبلهما

«وَأَجْرٍ» معطوف

«كَرِيمٍ» صفة