الآية رقم (3) - إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا

السّبيل: الطّريق وهو الصّراط، وسبيل الله المستقيم هو عبادة الله الحقّ وحده، والحقّ تعالى يدلّ النّاس على الطّريق المستقيم فيقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام]، وسبيل الله تعالى هو الطّريق المستقيم، فالطّريق المعوجّ يطيل المسافة، أمّا الخطّ المستقيم فهو أقصر الخطوط للوصول إلى الغاية، وكلمة: (السّبيل) و(الطّريق) كلّها أمور حسّيّة تدلّ على المعاني العقديّة المعنويّة، فيوضّحها الله تعالى بأمورٍ حسّيّة أمامنا.

والهداية هنا في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ﴾؛ أي: الدّلالة على السّبيل الموصل إلى الجنّة، وليست هداية التّوفيق والإعانة، لذلك قال تعالى: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، فالله تعالى أنعم علينا بإيجادنا من العدم، وأعدّ لنا الكون لاستقبالنا، وهيّأ لنا الرّزق وأسبابه ولا حيلة لنا فيه، وهذا إنّما يستحقّ الشّكر منّا، ومن رحمته تعالى أنّه علَّمنا صيغة الحمد، وجعل الشّكر له في كلمتين اثنتين هما: (الحمد لله)، فلو أنّه تركها من غير أن يحدّدها بكلمتين لكان من الصّعب على البشر أن يجدوا الصّيغة المناسبة ليحمدوا الله تعالى على هذا الكمال الإلهيّ، فمهما أوتي النّاس من بلاغة وقدرة على التّعبير، فهم عاجزون أن يصلوا إلى صيغة الحمد الّتي تليق بجلال المنعم عز وجل، فعطاء الله تعالى ومنعه العطاء يستوجبان الحمد، ووجود الله تعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد، فالله عز وجل يستحقّ الحمد لذاته، والحقّ تعالى ربط بين الشّكر والإيمان، فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾[النّساء: من الآية 147]، فلماذا وضع الله تعالى الشّكر مع الإيمان؟ لنعرف أوّلاً ما الشّكر؟ الشّكر هو إسداء ثناء إلى الـمُنعم ممّن نالته نعمته، وأمّا الإيمان فهو اليقين بأنّ الله تعالى واحدٌ، فالحقّ تعالى يدلّ الإنسان على الطّريق المستقيم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، فإن آمن بأنّ الله تعالى يدلّه على طريق الحقّ والخير، فآمن بكتبه ورسله يكون قد شكر نعمة الله تعالى عليه، والشّكر يكون أوّلاً ثمّ يوجد الإيمان، فالشّكر عرفان إجماليّ، والإيمان عرفان تفصيليّ، والشّكر متعلّق بالنّعمة، والإيمان متعلّق بالذّات الّتي وهبت النّعمة، ولا بدّ أن يشكر الإنسان واهب النّعمة، ولو فطن النّاس لشكروا الأنبياء والرّسل على المنهج الّذي بلغوه عن الله تعالى؛ لأنّه يهديهم إلى حسن إدارة الدّنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنّة، وقد ذكر الحقّ تعالى الكفر مقابلاً للشّكر، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم]، وشاء تعالى أن يترك الشّكر للبشر على تلك النِّعَم، ولم يسخّرهم شاكرين، وقد وصف الحقّ تعالى أحد هؤلاء الشّاكرين نوحاً عليه السلام، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: من الآية 3]، وشكور صيغة مبالغة، فلم يقل تعالى: (شاكر)؛ لأنّ الشّاكر الّذي يشكر مرّة واحدة، أمّا الشّكور فهو الدّائب على الشّكر المداوم عليه، وكما يوجد في النّاس مَنْ هو شكور، ففيهم من هو كفور، ليس كافراً، بل (كفور)، وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لأنّه كفر وعمل على تكفير غيره، وهو كثير الكفر للنّعمة.