الآية رقم (11) - إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ

﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء﴾: الطّغيان: مجاوزة الحدّ، فالله تعالى جعل لكلّ شيءٍ في الوجود حدّاً مرسوماً لا ينقص ولا يزيد، فإن اتّبعنا هذا الحدّ الّذي رسمه الله تبارك وتعالى استقامت لنا الحياة.

ولو طغى الشّيء أفسد حركة الحياة، فإذا طغى الماء؛ أي: طاف، فأغرق ودمّر، وأخرج سرّ الحياة عن اعتداله، لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾، فطغيان الماء تمرّده على تسخيره للإنسان، فالماء لا يخدمنا إلّا بأمر الله تعالى له، والمخلوقات لا تخدمنا بذاتها، وإنّما  قدّر الله تعالى عليها ذلك، فحينما تتمرّد على خدمتنا فهي بأمر، فإذا تمرّد الماء يحدث الطّوفان، وتمرّد الرّياح يُحدِث عاصفة، وتمرّد الأرض زلازل وبراكين، ما ذلك إلّا ليعرف الإنسان أنّه ليس بقدرته أن يسيطر على الكون الّذي يعيش فيه.

وطغيان الماء المقصود به طوفان نوح عليه السلام هنا، والماء هو سبب الحياة، وقد يجعله الله تعالى أيضاً سبباً للدّمار، فالمسائل ليست بذاتيّتها، بل بتوجيهات القادر عليها، فالله تعالى قد يُعذِّب بالماء كما يعذِّب بالنّار، مع أنّهما ضِدَّان، ولا يقدر على هذه المسألة إلّا الله تعالى.

وقصّة غرق قوم نوح عليه السلام وأهل سبأ بعد انهيار سدّ مأرب أمرٌ علنيٌّ، النّاس كلّها تتحدّث عنه، فصاروا حين يرون الماء بكثرة يخافون منه ويبتعدون عنه، لعلمهم بخطر الطّوفان وأنّه لا يُصَدّ، والطّوفان أن يزيد الماء عن الحاجة الرّتيبة للنّاس، وأصبح مع قوم نوح عليه السلام وسيلة عذاب كما بيّن الله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود].

﴿حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾: الجارية هنا المقصود بها السّفينة الّتي صنعها سيّدنا نوح عليه السلام، وهي الّتي تجري في البحر وتمخر عُباب البحر وأمواجه، والجواري بوارج وسفن كبيرة متعدّدة الأدوار، وكذلك كانت سفينة نوح عليه السلام الّتي حمل فيها من الكائنات كلّها ذكراً وأنثى لتستمرّ الحياة.

والضّمير في قوله تعالى: ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾ يعود في بعض تأويلات الآية إلى الآباء الّذين حملهم نوح عليه السلام في السّفينة، فحملنا الآباء وأنتم في أصلابهم في السّفينة، والحقّ تعالى يُخاطب الّذين نزل فيهم القرآن الكريم، وإنّما حمل أجدادهم نوحاً وولده، فالّذين خُوطِبوا بذلك ولد الّذين حُمِلوا في الجارية، فكان حملُ الّذين حُملوا فيها من الأجداد حملاً لذرّيّتهم، وكأنّ حمل آبائهم منّة عليهم، وكأنّهم هم المحمولون؛ لأنّ نجاتهم سبب ولادتهم، فمعنى ﴿حَمَلْنَاكُمْ﴾  حملنا آباءكم؛ لأنّ كلّ مَن على الأرض من ذرّيّة نوح عليه السلام وأولاده الثّلاثة الّذين كانوا معه في السّفينة باستثناء ابنه الّذي رفض الصّعود معهم إلى السّفينة.

والمتأمّل في معنى كلمة: ﴿الْجَارِيَةِ﴾  يجد أنّ سفينة نوح عليه السلام كانت تُسمّى الفلك أثناء صناعتها، قال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾[هود: من الآية 37]، ثمّ بعد الانتهاء من صنعها سمّاها سفينة، فقال: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ [العنكبوت: من الآية 15]، أمّا بعد ما أصبحت جاهزة للجريان في البحر أسماها الجارية، فقال عز وجل: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾.