الآية رقم (40) - إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

ثلاثة أزمان كان فيها نصرةٌ عظيمةٌ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أوّل نصرة إذاً (إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) نحن نعلم بأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى هنا: (إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)؟ من الّذي أخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة؟ هل الله سبحانه وتعالى هو الّذي أخرجه أو مشركو مكّة؟ الجواب: إنّ الله سبحانه وتعالى أخرجه وأمره بالهجرة لينصره وليسيح الدّين في الكون كلّه، هم أخرجوه ليقتلوه أو ليثبتوه أو ليتغلّبوا عليه، فإذاً الجهة منفكّة والأمر مختلفٌ، فهم اجتمعوا في دار النّدوة واتّفقوا على أن يأخذوا من كلّ قبيلة أشدّ النّاس ويطوّقوا بيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويقفوا عند بابه، وعندما يخرج ينقضّون عليه ويضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ فيتفرّق دمه بين القبائل، وفعلاً طوّقوا المنزل لكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتح الباب وخرج من أمام أعينهم وألقى حبّاتٍ من رملٍ بيديه عليهم وهو يقرأ: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)  [يس]، فخرج من بين أظهرهم من غير أن يروه، فكان هذا نصراً عظيماً مؤزّراً للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

(إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ): ما هي النّصرة الّتي تمّت في الغار؟ أثناء الهجرة لاحقه المشركون حتّى وصلوا إلى باب الغار، فجاء العنكبوت ونسج وباض الحمام:

ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على
وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ
وكلّهم من رسول الله ملتمسٌ.
خير البريّة لم تنسج ولم تَحُم
من الدّروع وعن عالٍ من الأُطم
غرفاً من البحر أو رشفاً من الدّيم
.

نسج العنكبوت خيوطاً أشدّ من الفولاذ حمت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وباض الحمام حتّى لا يعتقد أحدٌ أنّه قد دخل الغار فهذا هو النّصر الثّاني.

(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ): لم يقل له: لا تخف، فهناك فارقٌ بين الخوف والحزن، الخوف: أن تخاف من شيءٍ سيقع، أمّا الحزن فهو على شيءٍ واقعٍ، فالصّدّيق رضي الله عنه كان يحزن على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال سيّدنا الصّدّيق رضي الله عنه يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»([1])، فإذاً أين النّصرة هنا؟ الجواب: النّصرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أدخل نفسه في معيّة الله سبحانه وتعالى، وبما أنّه في معيّة الله سبحانه وتعالى فإذاً لن يروه، فعندما أدخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفسه والصّدّيق معه في معيّة الله سبحانه وتعالى فهذا أعظم نصرٍ يتحقّق.

(فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ): الهاء تعود على الصّدّيق رضي الله عنه، لأنّه هو الّذي كان حزيناً.

(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا): الهاء هنا عائدة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ): جعل؛ لأنّ كلمة الّذين كفروا قد تكون عليا في بعض الأحيان، فجعلها الله تعالى سفلى، ولكن لم يقل: (وجعل كلمة الله هي العليا)؛ لأنّ كلمة الله جلّ وعلا هي عليا على الدّوام، لا تُجعل جعلاً، ومن هنا اختلف الإعراب، ففي الإعراب (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ ) المفروض باللّغة العربيّة واو عطف فتكون الجملة التّالية: (وكلمةَ الله هي العليا)، لكنّها جاءت مرفوعةٌ؛ لأنّها مبتدأ وليست مفعولاً به، لذلك جاءت بالضّم، فالواو هنا تكون استئنافيّةً.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ): عزيزٌ لا يُغلب، ولا يحتاج إلى غيره، مستغنٍ عن عبادة خلقه، وهو حكيمٌ يضع الأمور في نصابها.


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، سورة (براءة)، الحديث رقم (4386).

إِلَّا: إن الشرطية. ولا النافية.

تَنْصُرُوهُ: مضارع مجزوم والواو فاعله والهاء مفعوله.

فَقَدْ: الفاء رابطة لجواب الشرط. وقد حرف تحقيق.

نَصَرَهُ اللَّهُ: فعل ماض ومفعول به ولفظ الجلالة فاعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط. وقيل جواب الشرط محذوف، والجملة تعليلية.

إِذْ: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بالفعل نصره.

أَخْرَجَهُ: ماض ومفعوله.

الَّذِينَ: اسم موصول فاعل والجملة في محل جر بالإضافة

(كَفَرُوا) صلة الموصول لا محل لها.

ثانِيَ: حال منصوبة.

اثْنَيْنِ: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه مثنى،

إِذْ: بدل من إذ الأولى.

هُما: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.

فِي الْغارِ: متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل جر بالإضافة.

إِذْ: بدل ثان من إذ الأولى.

يَقُولُ: مضارع تعلق به الجار والمجرور

لِصاحِبِهِ: والجملة في محل جر بالإضافة.

لا تَحْزَنْ: لا ناهية ومضارع مجزوم والجملة مقول القول.

إِنَّ اللَّهَ: إن ولفظ الجلالة اسمها والظرف

مَعَنا: متعلق بمحذوف خبرها والجملة تعليلية.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ: فعل ماض ولفظ الجلالة فاعل وسكينته مفعول به.

عَلَيْهِ: متعلقان بالفعل. والجملة مستأنفة.

وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ: الجملة معطوفة.

لَمْ: جازمة

تَرَوْها: مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة في محل جر صفة.

وَجَعَلَ كَلِمَةَ: فعل ماض ومفعول به أول.

الَّذِينَ كَفَرُوا: اسم الموصول مضاف إليه والجملة صلة

السُّفْلى: مفعول به ثان. والجملة معطوفة.

وَكَلِمَةُ: مبتدأ والواو حالية.

اللَّه: لفظ الجلالة مضاف إليه.

هِيَ: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.

الْعُلْيا: خبر والجملة خبر كلمة

وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: مبتدأ وخبراه والجملة مستأنفة.

إِلَّا تَنْصُرُوهُ: إن لم تنصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

إِذْ: حين.

أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا: من مكة، أي ألجؤوه إلى الخروج، لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه، بدار الندوة.

ثانِيَ اثْنَيْنِ: أحد اثنين، والآخر أبو بكر، والمعنى: نصره الله في مثل تلك الحالة، فلا يخذله في غيرها.

الْغارِ: غار جبل ثور، والغار: النقب أو الفتحة في الجبل.

إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: أبي بكر الذي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.

لا تَحْزَنْ: المراد بالنهي عن الحزن مجاهدة النفس وتوطينها على عدم الاستسلام له.

إِنَّ اللَّهَ مَعَنا: بنصره وتأييده.

سَكِينَتَهُ: طمأنينته.

عَلَيْهِ: الضمير يعود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: على أبي بكر.

وَأَيَّدَهُ: أي النبي.

بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها: ملائكة في الغار، وفي مواطن قتاله.

كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أي دعوة الشرك والكفر.

السُّفْلى: المغلوبة.

وَكَلِمَةُ اللَّهِ: أي كلمة التوحيد أو الشهادة بتوحيد الإله.

هِيَ الْعُلْيا: الغالبة.

وَاللَّهُ عَزِيزٌ: في ملكه.

حَكِيمٌ: في صنعه