الآية رقم (19) - أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

الخطاب هنا مُوجَّه إلى أمّة محمّد ﷺ، هؤلاء الّذين كذّبوا من قبل، وأنتم الّذين تكذّبون الآن، أين عقولكم؟ لو استعملتموها في تأمّل الكون الّذي تعيشون فيه، والّذي طرأتُم عليه، وقد أُعِدَّ لكم بكلّ مُقوّمات حياتكم.

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: (يرى) هنا بمعنى يعلم، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ‌بِأَصْحَابِ ‌الْفِيلِ ﴾[الفيل]؛ أي: ألم تعلم، والهمزة في: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾استفهام للتّقرير، لكن، كيف يُقِرُّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها، مع أنّهم كافرون بالله تعالى؟ قال العلماء: لأنّها مسألة أظهر مَن أنْ يُنكِرها منكر، فكلّ صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع، فما بالنا بكَوْن أُعِدَّ بهذه الدّقّة وبهذه العظمة، ولم يجرؤ أحد أن يدّعي أنّه لنفسه، أو أنّه هو الّذي خلقه؟ فالدّعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض، والله تعالى قال: أنا الخالق: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، كيف ونحن لم نَر الإعادة، فضلاً عن رؤيتنا للبدء؟ قال العلماء: نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا، فنراها في الزّرع مثلاً، وكيف أنّ الله تعالى يُحيي الأرض بالنّبات، ثمّ يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحَبّ أو البذور الّتي تعيد الدّورة من جديد، والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألواناً بديعة ورائحة زكيّة، فإذا قُطِفَتْ تبخَّر منها الماء، فجفَّتْ وتفتّتت، وذهبت رائحتها، ثمّ تخلفها وردة أخرى جديدة، وهكذا، ولننظر مثلاً إلى دورة الماء في الكون: هل زادتْ كمّيّة الماء الّتي خلقها الله تعالى في الكون حين أعدَّه لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتّى الآن، مع ما حدث من زيادة في عدد السّكّان؛ لأنّ عناصر الكون هي ذاتها منذ خلقها الله تعالى، لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة، واقرأ إن شئت قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ‌وَتَجْعَلُونَ ‌لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾  [فصّلت]، فكأنّ قوت العالم من الزّرع وغيره مُعَدٌّ منذ بَدْء الخليقة، وإلى أنْ تقوم السّاعة لا يزيد، لكنّه يدور في دورة طبيعيّة.

﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾: أيّهما: الخَلْق أم الإعادة؟ أمّا الخلق فقد أقرُّوا به، ولا جدالَ فيه، فالكلام عن الإعادة، وهل الّذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخَلْق الأوّل من عدم، أمّا الإعادة فمن موجود، فأيّهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟ لذلك يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ‌وَهُوَ ‌أَهْوَنُ ‌عَلَيْهِ ﴾ [الرّوم: من الآية 27]، مع أنّ الحقّ تعالى لا يُقال في حَقِّه: هذا هيِّن، وهذا أهون، لكنّه تعالى يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.