﴿أَمَّنۡ﴾: هذا استفهام آخر، وكأنّ الحقّ تعالى بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين، والنّصر للمؤمنين، أراد أنْ يُربِّب في النّفس الإيمان بالله تعالى، وأن نأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانيّة، ومواجيد جديدة تظلّ شحنة قويّة تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتّصدّي لأعداء الدّعوة والمناهضين لها، فيقول تعالى: ﴿أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَة مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِۚ﴾، فالمسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنون على الكافرين، فهناك في خلق الله تعالى ما هو أعظم من ذلك، فلو سألتَهم: مَنْ خلق السّموات والأرض؟ يقولون: الله، ولئن سألتهم: مَنْ خلقهم؟ يقولون: الله، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها، فكأنّ الحقّ تعالى يقول لهم: آلله الّذي خلق السّموات والأرض وأنزل لكم من السّماء ماء.. خير أم ما تشركون؟ وما دام أنّ الله تعالى ادَّعى مسألة الخَلْق لنفسه عزَّ وجل، ولم يَقُمْ لهذه الدّعوى منازع، فقد ثبتتْ له تعالى إلى أنْ يدَّعيها غيره: ﴿أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِۚ﴾، فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق فأين هو؟!
﴿وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء﴾: السّماء: كلُّ ما علاك فأظلَّك، والماء معروف أنّه ينزل من السّحاب وهو ممّا علانا، فالسّماء أنزل تعالى منها المطر، ومن الأرض أنبت الزّرع، فمن السّماء خير ونِعَم، ومن الأرض خير ونِعَم.
﴿فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ﴾: للماء فوائد كثيرة في حياتنا، بل هو قِوَام الحياة لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق؛ لأنّها قوام حياة الإنسان في الأكل والشّرب.
﴿ذَاتَ بَهۡجَة﴾: مع أنّنا لو نظرنا إلى القمح مثلاً، وهو عَصَب القوت، لوجدناه أقلّ جمالاً من الورد والياسمين والفُلّ، وكأنّ الله تعالى يقول لنا: لقد تكفّلتُ لكم بالكماليّات والجماليّات، فمن باب أَوْلَى أوفّر لكم الضّروريّات، والحقّ تعالى يريد أن يرتقي بِذَوْق عباده ومشاعرهم، فاقرأ مثلاً قوله تعالى: ﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ [الأنعام: من الآية 99]، يعني: قبل أن تأكل من هذه الثّمار تأمّل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنّها دعوة للرّقيّ بالذّوق العامّ، والتّأمّل في بديع صُنْع الله تعالى، فأعطانا الله تعالى ضروريّات الحياة، وأعطانا كماليّاتها وجماليّاتها، فقال تعالى: ﴿أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾، فالضّمير في: ﴿خَلَقَ﴾ ضمير الغائب (هو) يعود على الله تعالى، وكذلك في: ﴿وَأَنزَلَ﴾، أمّا في: ﴿فَأَنۢبَتۡنَا﴾ فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم الدّالّ على التّعظيم، فلماذا؟ قالوا: لأنّ نِعَم الله تعالى فيها أشياء لا دخْل للإنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر، ومثل هذه المسائل لا شبهةَ لعدم اشتراك الإنسان فيها، وهناك أشياء للإنسان دَخْلٌ فيها كالزّرع والإنبات، فهو الّذي يحرث ويزرع ويسقي.. إلخ، ممّا يُوحِي بأنّ الإنسان هو الّذي يُنبت النّبات، فأراد الله تعالى أنْ يُزيل هذا التّوهّم، فنسب الإنبات صراحة إليه تعالى ليزيل هذه الشّبهة، فيقول: ﴿أفرأيتم ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة].
﴿بَلۡ هُمۡ قَوۡم يَعۡدِلُونَ﴾: العدل معلوم أنّه صفة مدح، فساعةَ تسمع: ﴿بَلۡ هُمۡ قَوۡم يَعۡدِلُونَ﴾ قد تظنّ أنّها صفة طيّبة فيهم، لكن لا بُدَّ في مثل هذا اللّفظ من تدقيق؛ لأنّه يحمل معاني كثيرة، نقول:
– عدلَ في كذا، يعني: أنصف.
– عدلَ إلى كذا، يعني: مال إليه.
– عدلَ عن كذا: يعني: تركه وانصرف عنه.
– عدلَ بكذا، يعني: سوَّى.
فالمعنى هنا ﴿يَعۡدِلُونَ﴾ عنه، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب، إنّما يعدلون عنه إلى غيره، ويعبدون غيره، ويسوّون به الحجارة والأصنام.