﴿ أَتَى ﴾: فعلٌ ماضٍ، يدلّ على زمنٍ مضى ووقع.
﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾: يشير إلى أمرٍ سابقٍ سيقع، لكنّ القائل هو الله عز وجل، فأمره عز وجل واقعٌ لا محالة، فالله سبحانه وتعالى خارج دائرة الزّمن.
وهكذا تبدأ هذه السّورة الجليلة مُوضِّحةً أنّ قضاءَ الله جل جلاله وحُكْمه بنصر الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين واقعٌ لا شَكَّ فيه ولا محَالة، وأنّ هزيمة أهل الشّرك قادمة، ولا مَفرَّ منها إنْ هُم استمرُّوا على الكفر، وقد سبق أنْ أنذرهم الرّسول صلى الله عليه وسلم بما نَزل عليه من آيات الكتاب الكريم في السّورة السّابقة، وبيّن أنّه نذيرٌ مبينٌ، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ [غافر: من الآية 77]، وكذلك قال جل جلاله: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾[القمر]، وهكذا وعد الله سبحانه وتعالى هو وعدٌ محقّقٌ، وهو وعدٌ من قادرٍ على إنجاز وعده، وعندما قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر]، فهو يُطَمْئِن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾: وهذا إيضاحٌ بمرحلة من مراحل الإخبار بما يُنذَرون به، كما قال مرّةً: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾[القمر]، وساعة سَمِع الكُلُّ: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ فَزِعوا، بمن فيهم من المسلمين، وجاء من بعد ذلك:
﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾: أي: أنّ الأمر الّذي يُعلنه محمّد صلى الله عليه وسلم لا يَعْلَم ميعادَه إلّا الله عز وجل، واطمأنَّ المسلمون، وكُلُّ حَدَثٍ من الأحداث كما نعلم يحتاج إلى ظرفيْن؛ ظرْفِ زمانٍ وظرْفِ مكانٍ، والأفعال الّتي تدلُّ على هذه الظّروف إمّا فِعْلٌ مَاض؛ فظرْفُه كان قبل أن نتكلَّم، أو فعلٌ مضارع؛ أي: أنّه حَلَّ، إلّا إنْ كان مقروناً بـ (س) أو بـ (سوف)؛ أي: أنّ الفعل سيقع في مستقبلٍ قريبٍ إنْ كان مقروناً بـ (س)، أو في المستقبل غير المحدّد والبعيد إن كان مسبوقاً بـ (سوف)، وهكذا تكون الأفعال ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً.
وكلمة: ﴿أَتَى﴾ تدلُّ على أنّ الّذي يُخبرك، وهو الله سبحانه وتعالى، إنّما يُخبِرك بشيءٍ قد حدث قبل الكلام، بينما البشر يتكلَّمون عن أشياءَ وقعتْ، ويُخبِرون بها بعضَهم بعضاً، والله سبحانه وتعالى حين يتكلَّم بالقرآن الكريم لا ينقص عِلْمه أبداً، فهو علمٌ أَزَليٌّ، وهو سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يأتيَ المستقبل وَفْق ما قال، وقد أعدَّ توقيت ومكان كُلّ شيءٍ من قبل أنْ يخلقَ، وهو سبحانه وتعالى خالقٌ من قبل أن يخلق أيّ شيءٍ، فالخَلْق صفةٌ ذاتيّةٌ فيه، وهو مُنزَّه في كلّ شيءٍ؛ ولذلك قال عز وجل: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾؛ أي: نزِّهوا الله جل جلاله فليس له مثيلٌ لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، وهو العليمُ بزمن وقوع كُلِّ حَدَث، وقد ثبت التّسبيح له ذاتاً من قَبْل أن يوجد الخَلْق، فهو القائل: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء]، ثمّ خلق السّموات والأرض وغيرهما؛ أي: أنّه مُسبّح به من قَبْل خَلْق السّموات والأرض، وهو القائل سبحانه وتعالى: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحشر: من الآية 1]، ولكن هل انتهى التّسبيح؟ بالتّأكيد لا، بل التّسبيح مُستمِرٌّ أبداً، فهو القائل: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: من الآية 1]، فقد ثبتتْ له (السُّبْحَانيّة) في ذاته، ثمّ وُجِد الملائكة يُسبِّحون اللّيلَ والنّهارَ ولا يفترُون، ثمّ خلق السّماء والأرض، فسبَّح ما فيهما وما بينهما، وجاء خَلْقه يُسبِّحون أيضاً، فيا مَنْ آمنتَ بالله عز وجل إلهاً سَبِّح كما سَبَّحَ الكون كُلُّه، ولقائلٍ أنْ يسألَ: وما علاقة قوله: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴾ بما يُشرِكون؟ ونعلم أنّهم أشركوا بالله عز وجل آلهةً لا تُكلِّفهم بتكليفٍ تعبُّديٍّ، ولم تُنزِل منهجاً، بل تُحلِّل لهم كُلَّ مُحرَّمٍ، وتخلوْ بذلك عن اتّباع ما جاء به الرُّسل -عليهم السّلام-، وهؤلاء هم مَنْ سيلقوْنَ الله عز وجل وتسألهم الملائكة: أين هم الشّركاء الّذين عبدتموهم مع الله سبحانه وتعالى؟ ولن يدفَع عنهم أحدٌ هَوْلَ ما يلاقونه من العذاب، وهكذا تعرَّفْنا على أنّ تنزيه الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً هو أمرٌ ثابتٌ له قَبْل أنْ يُوجَد شيءٌ، وأمرٌ قد ثبت له بعد الملائكة، وبعد وجود السّموات والأرض، وهو أمرٌ طلب الله سبحانه وتعالى من العبد الـمُخيَّر أن يفعله، وانقسم العبادُ قسمين: قِسْمٌ آمن وسبَّح، وقِسْمٌ لا يُسبِّح، فتعالى عنهم الحقّ سبحانه وتعالى؛ لأنّهم مُشْركون.