هذه قضيّةٌ عقديّةٌ مهمّةٌ جدّاً، وتثير الإشكالات دائماً، حتّى أعداء الإسلام والّذين يتربّصون الشّرّ به من الصّهاينة والغرب والمستشرقين يقولون: ما هي قضيّة الدّعاء؟ من مئات السّنين نراكم وأنتم ترفعون أيديكم للسّماء وتدعون ولا يوجد مجيبٌ، وهنا يجيب الله سبحانه وتعالى على معنىً من معاني الدّعاء قائلاً: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾، وفي موضعٍ آخر يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ ]الإسراء[، فلا أحد يعرف تقدير الأمور، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ]البقرة: من الآية 216[، فالإنسان قد يدعو بمقاييس الخير عنده، فتكون هذه المقاييس مقلوبةً، والخير الّذي يراه، الله سبحانه وتعالى يرى الخير في غيره، أمّا قضيّة الدّعاء فهي من العقائد الأساسيّة؛ لأنّ «الدّعاء هو العبادة»([1])، كما قال نبيّنا ﷺ، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ]غافر: من الآية 60[، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى سيستجيب فعلينا ألّا نحمل همّ الإجابة كما يقول سيّدنا عمر رضي الله عنه، بل نحمل همّ الدّعاء؛ لأنّ له شروطاً، هذه الشّروط بيّنها الله سبحانه وتعالى ، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ ]البقرة: من الآية 186[، أين فعل الأمر؟ هو في قوله سبحانه وتعالى :﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ ]البقرة: من الآية 186[، فإذا أردت أن تكون مُستجاب الدّعاء، فلا بدّ أن تُجيب الأوامر، لذلك يقول النّبيّ ﷺ: «رُبَّ أشعثٍ أغبر ذي طمرين مصفّحٍ عن أبواب النّاس لو أقسم على الله لأبرّه»([2])، ويقول ﷺ: «أيّها النّاس، إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّباً، وإنّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المُرسَلين فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾] المؤمنون[، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ] البقرة: من الآية 172[، ثمّ ذكر الرّجل يُطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرام، فأنّى يُستَجاب لذلك؟»([3])، فلا يمكن أن يُستجاب له إذا كان قد غُذّي من حرامٍ، فهناك شروطٌ لاستجابة الدّعاء، وهناك مقاييس الخير أيضاً، حتّى ولو أنّ الشّروط محقّقةٌ، فالله سبحانه وتعالى بمشيئته يقرّر لون الإجابة فيمكن أن يدعو الإنسان بأمرٍ، والله سبحانه وتعالى يدفع عنه أمراً آخر بهذا الدّعاء، ومثال ذلك: إنسانٌ مريضٌ قد استفحل فيه المرض، فيقول: يا ربّ، أرحني، والرّاحة لا تكون إلّا في الموت، والموت له أجلٌ، فبرأيه هو يطلب الخير بهذا الدّعاء، ولكن حقيقة مقاييس الخير يقدّرها المولى سبحانه وتعالى ، فيدفع عنه، أو يتحوّل هذا الدّعاء إلى عبادةٍ يؤجر عليها، ويكون الثّواب في الآخرة على كلّ دعوةٍ دعاها.
﴿فَنَذَرُ﴾: أي ندع.
﴿ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: الطّغيان: هو تجاوز الحدّ.
الّذي يرجو لقاء الله سبحانه وتعالى هو من استعدّ لهذا اللّقاء، والّذين لا يرجون لقاء الله جل جلاله لم يستعدّوا للقائه عز وجل، فيتركهم المولى سبحانه وتعالى في إسرافهم وتجاوزهم وطغيانهم.
﴿يَعْمَهُونَ﴾: العمه يكون للبصيرة، والعمى للعين.
([1]) سنن أبي داود: كتاب سجود القرآن، باب الدّعاء، الحديث رقم (1479).
([2]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: ج 1، ص 264، الحديث رقم (861).
([3]) صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصّدقة من الكسب الطّيّب وتربيتها، الحديث رقم (1015).