في هذه الآيات وما سبقها رصد القرآن الكريم كلّ حركات شعب بني إسرائيل وأتباعهم حتّى وصل الأمر إلى يهود المدينة المنوّرة من بني قينقاع والنّضير وقريظة ويهود خيبر الّذين كانوا يثيرون الفتن والأحقاد بين الأوس والخزرج، ويعادون النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويفعلون المنكرات.
ويقول لهم الله سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾، وحين تأتي كلمة ﴿الْكِتَابَ﴾ مع ذكر النّبيّ المختصّ، فهو الكتاب الّذي نزل على هذا النّبيّ، وهو هنا التّوراة.
﴿وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾: قفَّينا: من القفا، أي ما يأتي بعده مباشرة، وقد توالى الأنبياء بعد موسى عليه السَّلام إلى بني إسرائيل، ويعتقد بنو إسرائيل أنّ كثرة الأنبياء فيهم هي منحة من الله تبارك وتعالى، فهم يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ ]المائدة: من الآية 18[، والحقيقة أنّ كثرة الأنبياء في شعب واحد دليل على كثرة أمراضه، تماماً مثل حاجة من كثرت أمراضه واستفحلت إلى مجموعة من الأطبّاء، وما بين موسى وعيسى عليهما السَّلام بُعث في بني إسرائيل كثير من الرّسل والأنبياء، فقد جاءهم يوشع واليسع وداود وسليمان ويونس وزكريّا ويحيى وصولاً إلى سيّدنا عيسى عليه السَّلام… وهناك رسل لم يقصصهم الله سبحانه وتعالى علينا، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ]النّساء[.
وأعطى الله سبحانه وتعالى سيّدنا عيسى عليه السَّلام البيّنات، وهي المعجزات الدّالّات على صدق بلاغه عن الله سبحانه وتعالى، وأيّده بروح القدس وهو جبريل عليه السَّلام، وقد ولد المسيح من دون أب وتعرّض لما لم يتعرّض له الأنبياء من جحود النّاس وكفرهم، فكان مؤيَّداً دائماً بروح القدس. والقدس: أي الطّهر.
والرّوح:
– إمّا تطلق على القيم الّتي نزلت في القرآن الكريم: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ ]الشّورى: من الآية 52[؛ لأنّ القرآن هو روح الحياة وغذاء الرّوح.
– أو الرّوح الّتي تحيي الجسد، والإنسان عبارة عن قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله.
وسمّى الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السَّلام بروح القدس: أي روح الطّهر. فكان سيّدنا المسيح مؤيَّداً بالآيات البيّنات وبروح القدس.
وبرغم كلّ المعجزات: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ ]آل عمران: من الآية 49[، وبرغم تأييد روح القدس، كان بنو إسرائيل لا يؤمنون به. وقد نزل المسيح عليه السَّلام على بني إسرائيل ليخلّصهم من الموبقات، لكنّهم كذّبوا واستكبروا، وردّوا الأمر على الرّسول الّذي جاءهم، وهكذا فعلوا مع كلّ الأنبياء، وقتلوا الأنبياء مثل سيّدنا يحيى عليه السَّلام فهم قتلة الأنبياء سابقاً، وقتلة الشّعوب لاحقاً، وهذه طبيعة شعب بني إسرائيل.