أعظم الابتلاءات الّتي تحتاج إلى صبر هي أن يقدّم الإنسان نفسه بالشّهادة، فالشّهادة أعلى المراتب، الشّهادة قمّة الابتلاء الّذي يحتاج إلى الصّبر؛ لأنّ الشّهيد قدّم نفسه رخيصة أمام معتقده ودفاعاً عن وطنه، عندما تحدّثت الآيات عن الذّكر والصّلاة والصّبر ذكرت قمّة الابتلاءات وهي تقديم الإنسان نفسه فداءً لوطنه ولمعتقداته ولمقدّساته، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾ وهناك عدّة معانٍ عند ذكر الشّهادة والشّهداء.
عندما نتحدّث عن تكريم الشّهداء نرى أنّ أَيَّ تكريم في الدّنيا يكون تكريماً مقطوعاً؛ لأنّ الدّنيا زائلة؛ ولأنّ الدّنيا أغيار ماضية لسبيلها، أمّا إذا وصلنا الدّنيا بالآخرة فيكون النّعيم المقيم ويكون العطاء الدّائم، ويكون التّكريم غير محدود، والله سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾، عندما يقول الله عزَّ وجلّ في القرآن الكريم: ﴿فِي سَبيلِ اللّهِ﴾ من يحدّد القتل في سبيل الله؟ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقط الّذي يحدّد، مَن يدافع عن الوطن شهيد، من قُتل دون أرضه فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد.. كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد» ([1]). وليس المجرم الّذي ينتحر ليقتل ويخرّب هو الشّهيد، هذا أمر هامّ، هناك ضوابط يحدّدها الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر].
تحديد أيّ أمر شرعيّ لا يمكن أن يخضع للاجتهاد طالما ورد فيه نصّ من الكتاب أو السنّة، طالما هناك نصّ قرآنيّ أو نصّ نبويّ، فإذاً رفعت الأقلام وانتهى الأمر.
نحن نرى الموت والموت بالنسبة للإنسان ما هو؟ هو انتهاء حركة الإنسان في الحياة، هو خروج الرّوح من الجسد إمّا أن يموت الإنسان وإمّا أن يقتل، وهناك فارق بين الموت والقتل والدّليل قوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ [آل عمران: من الآية 144]
فما هو الفارق بينهما؟ الرّوح تخرج من الجسد وتنهدم البنية فهذا موت، أمّا إذا انهدمت البنية وخرجت الرّوح هذا قتل. بالموت تخرج الرّوح وبعد خروجها ينهدم الجسد، لكنّك تقول: مات لأنّه قُتل، فأقول لك: إذا مات انتهى أجله، وكان السّبب هو القتل، فالقتل هو هدم في البنية، هذه الرّوح لا تسكن في الجسد إلّا إذا كان الجسد سليماً. إذا أُطلق على الإنسان رصاصة أو مدفعيّة أو سمّ أو حرق أو غرق فتخرج الرّوح فهذا قتل.. والدّليل: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾.
نحن نعتبر أنّ مَن فارق الحياة فهو ميّت؛ لأنّ روحه قد خرجت؛ ولأنّ جسده قد سكن، هذا بالنسبة لنا بالظّاهر، لكنّ الربّ الخالق البارئ العليم يقول: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ هم أحياء لكن عند ربّهم، وهناك آية أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران]، وطالما أنّها في العنديّة، العنديّة غيبيّة والغيبيّة لا يمكن أن يطلعك المولى سبحانه وتعالى على ماهيّتها ولا يمكن أن تعرفها مهما وصفها لك المولى فلن تصل بعقلك إليها؛ لأنّها عنده في العنديّة وليس في البرزخ وطالما أنّها عنده يعني يوجد حياة، يقول: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ والرّزق من آلات الحياة وليس من آلات الموت، الميت لا يحتاج الى رزق، ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾. لا يمكن أن تشعروا ولا أن تقدّروا طريقة هذه الحياة؛ هم لا يمرّون بحياة البرزخ فقد استثناهم الله من حياة البرزخ ودخلوا في الحياة العنديّة (عند ربّهم)، هؤلاء هم الشّهداء وهذا تكريم لهم.
ساوى الله سبحانه وتعالى بين خلقه بالموت لكنّه فضّل فئة عليهم بالمجد وهذا المجد بالشّهادة؛ لأنّه قدّم نفسه وروحه في سبيل غيره، في سبيل وطنه ومواطنيه ومقدّساته ومعتقداته: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾.
أضف إلى الحياة العنديّة أنّ هذا الشّهيد لا يكفي أنّه تحرّك واستشهد، بل سيتحرّك مَن خلفه ويتمسّك بالمبادئ الّتي استشهد عليها الشّهيد، هذا معنى هامّ وعظيم عند الله لا يلتفت إليه الكثير، تلك المبادئ العظيمة الّتي استشهد لأجلها الشّهيد وبذل دمه من أجلها.
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: الآية 169، ومن الآية 170]، هم فرحون وأنتم حزينون، وأمر طبيعيّ أن يحزن الإنسان لفراق الأحبّة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون» ([2]). أنتم حزينون والله سبحانه وتعالى يقول: إنّهم فرحون بما آتاهم الله من فضله وليس من عدله، وهناك فرق بين الفضل والعدل: العدل أن تُعطى على قدر ما تُقدّم، والفضل: أن تُعطى زيادة على ما قدّمت.
أَقْدَموا ويريدون من الّذين خلفهم أن يُقدموا وأن يثبتوا على ما تحرّك الشّهداء من أجله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ