هنا يقصّ علينا القرآن الكريم حالاً من أحوال المنافقين، وقد ذكر الحقّ سبحانه وتعالى أشياء كثيرةً عنهم، كقوله سبحانه وتعالى :﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾،﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾،﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾، ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ﴾،﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾: المسجد: بالمعنى الخاصّ هو المكان الّذي يُحيّز للسّجود والصّلاة ويتّجه باتّجاه القبلة، حيث يقطتع النّاس قطعةً معيّنةً فتُحجز، ولا يُقام فيها إلّا العبادة والصّلاة وقراءة القرآن الكريم، ولا يُباشر فيها الإنسان أيّ شيءٍ من أمور الدّنيا، ونذكر أنّ رجلاً نشد ضالّته في المسجد فقال رسول الله ﷺ: «قولوا: لا ردّ الله عليك ضالّتك»([1])؛ لأنّها أمرٌ دنيويٌّ، أمّا المعنى العامّ للمسجد: فالأرض كلّها جُعِلَت مسجداً وطهوراً، فأيّ مكانٍ نُصلّي فيه يُعَدُّ مسجداً لنا.
فما هي قصّة مسجد ضرار؟ من المعلوم أنّ أوّل مسجدٍ أُسّس على الإيمان هو مسجد قِباء الّذي بناه بنو عمرو بن عوف، وذلك عندما دخل النّبيّ ﷺ إلى المدينة بعد الهجرة، فأراد المنافقون أن ينفّسوا عن أنفسهم في صورة طاعةٍ؛ ليحاربوا المؤمنين فبنوا مسجداً ضراراً، وقد بناه بنو غنم بن عوف الّذين أرادوا أن ينافسوا مسجد قِباء في هذا الأمر، وأرادوا به تفريق جماعة المسلمين من حول النّبيّ : فتصلّي جماعةٌ هنا وجماعةٌ هناك، ويصلّي المنافقون فيه فيكيدون للنّبيّ ﷺ كما يشاؤون.
وبعد أن بنوا المسجد طلبوا من رسول الله ﷺ أن يصلّي معهم فيه أثناء خروجه لغزوة تبوك، فاعتذر ﷺ وأوضح لهم أنّهم في حالٍ لا يسمح بذلك، وإن شاء الله عند العودة من الغزوة سيصلّي فيه، وبعد عودته ﷺ من غزوة تبوك حاولوا أن يستوفوه وعده ويطلبوا منه الصّلاة فيه، فإذا بجبريل u ينزل بهذه الآيات الّتي توضّح حكاية هذا المسجد، وكيف أنّه مسجدٌ ضرارٌ، فالله سبحانه وتعالى يعلم النّيّات.
﴿ضِرَارًا﴾: من المضارّة، ليضارّوا المسلمين.
﴿وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: كلّ ما يفتّ جماعة المسلمين من حول النّبيّ ﷺ هو أمرٌ ضارٌّ بمصلحة الإسلام، فالإسلام يُبنى على الوحدة والتّعاضد والتّكاتف، قال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([2])، فالدّين يوحّد ولا يفرّق، ولا يجوز أن تطفو الخلافات في الفروع على الوحدة في الأصول وفي مقاصد الدّين، كما لا يجوز أن يكون الدّين سبباً في التّحوّل إلى أحزابٍ وتفرّقاتٍ، وإنّما يجب أن تكون مقاصد الدّين هي الجامعة للنّاس جميعاً، ونستنتج من هذه الآية أنّ وحدة النّاس أمرٌ أساسيٌّ، قال سبحانه وتعالى :﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ]آل عمران[، وجعل لنا صلاة الجمعة ليجتمع النّاس جميعاً.
﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾: الإرصاد هو التّرقّب، لذلك يُقال: لقد استقرّ القوم في مكانٍ ما لرصد فلان؛ أي أنّهم أناسٌ يترقّبون مجيئه بمكانٍ ليفتكوا به، هذا هو ترقّب الكراهية لا ترقّب الحبّ، والّذين أقاموا هذا المسجد أرصدوه مترقّبين ومنتظرين إنساناً له سابقةٌ في عداء رسول الله ﷺ، ومَن طلب إقامة هذا المسجد هو أبو عامر الرّاهب الّذي سمّاه رسول الله ﷺ الفاسق، وأبو عامرٍ هذا قد عادى رسولَ الله ﷺ حتّى قال له في أُحُد: ما رأيت قوماً يقاتلونك يا محمّد إلّا قاتلتك معهم، وحين تمكّن النّبيّ ﷺ في المدينة فرّ إلى مكّة، ولـمّا فُتِحَت مكّة فرّ إلى الطّائف، ولم يجد له وطناً فذهب إلى الرّوم بالشّام ثمّ كتب للمنافقين: أن أعدّوا مسجداً لأنّني سآتي لكم بقوّةٍ من ملك الرّوم لمهاجمة محمّد ومحاربته وإخراجه من المدينة، فبنوا ذلك المسجد ضراراً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً؛ أي ترقّباً لمجيء هذا الرّجل الّذي سيأتي بجنود الرّوم لمحاربة رسول الله ﷺ، وطلبوا من رسول الله ﷺ أن يصلّي لهم فيه، ولكن بعد أن كُشِف الأمر أرسل رسول الله ﷺ مالك بن الدّخشم ومعن بن عدي وعامر بن السّكن ووحشيّاً قاتل حمزة لهدم هذا المسجد، تحقيقاً لأمر القرآن الكريم: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ ، وبذلك فضح النّبيّ ﷺ النّفاق، وطمأن الله سبحانه وتعالى رسولَه ﷺ وكُبتت فكرتهم في بناء مسجدٍ مقابل مسجد قِباء.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾: يحلفون كذباً ويشكّكون، والقرآن الكريم فضحهم في ذلك وأخبر عنهم، وقد مرّت معنا آياتٌ كثيرةٌ تبيّن كذبهم، وهنا جاء الحقّ سبحانه وتعالى بلام القطع: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾ ، وهم قالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلّة واللّيلة المطيرة، هذا معنى قولهم: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾ ، ولكنّ حكم الله U ينزل فيهم: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
([1]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب العين، عصمة بن مالك الخطمى، الحديث رقم (14168).
([2]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).