الآية رقم (51) - وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ

لماذا واعد الله عزَّوجل موسى أربعين ليلة؟ ألم يكلّمه حين كان في جانب الطّور؟ فلماذا واعده ثانية في المكان الّذي كلّمه فيه؟ الجواب: أنّه واعده مرّة ثانية؛ لأنّه في اللّقاء الأوّل لم يعطه المنهج، وهناك سور تصف مناجاة الطّور الأولى بإسهاب أكثر… مثل سورة (طه): ﴿طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ]طه[، (ونحن نسعد بالقرآن بفضل الله، ولن نشقى، ونسعد بتفسيره ولا نشقى بإذن الله)، ﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى]طه[، وكلّ هذه المناجاة لا تتعلّق بالمنهج (التّوراة)، بل فيها تكليف لموسى عليه السَّلام وإمداد له وإخبار بالنّبوءة، ولفت النّظر إلى العصا الّتي سيكون لها دور كبير فيما بعد، مثل ضرب الحجر وضرب البحر. وهذا تكليف، ولم يعطه المنهج وقتها، بل أخبره بالنّبوّة، وكلّفه بأن يذهب إلى فرعون ويطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل. أمّا هنا، فقد واعده ليعطيه المنهج، وهو التّوراة الّتي امتنّ الله سبحانه وتعالىعليهم بها بعد أن نجّاهم من فرعون، كما امتنّ الله سبحانه وتعالى علينا نحن المسلمين بالقرآن الكريم. وكان الوعد أربعين ﴿لَيْلَةً ولم يقل: (يوماً)، ومعظم التّكاليف الإيمانيّة تأتي بقوله سبحانه وتعالى: (ليلة)، وليس نهاراً: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]القدر[، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ]الدّخان[، إلّا يوم عرفات، كي تتوزّع التّكاليف الإيمانيّة على مدار السّنة كلّها، وتوزّع العبادات يكون بحسب التّوقيت القمريّ، والقمر يظهر ويغيب في اللّيل، ورمضان يأتي في الشّتاء تارة وفي الصّيف تارة أخرى، ولو حُدّد على أساس الشّمس لجاء في وقت واحد دائماً، لكنّه يأتي في كلّ الفصول. وقد ذهب موسى عليه السَّلام لملاقاة ربّه وتلقّي المنهج، وترك مع قومه أخاه هارون عليه السَّلام فرأوا أناساً يعبدون صنماً فطلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً مادّياً (يُرى بالعين) كالأصنام.

وبنو إسرائيل رأوا كثيراً من المعجزات وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فاتّخذ بنو إسرائيل من حلّيهم ﴿عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ]الأعراف: من الآية 148[، ليعبدوه، وقد أخرجت نساء بني إسرائيل معهنّ حليّ القوم الّذين كانوا يخدمونهم، ظنّاً منهنّ أنّها من حقّهنّ، وهذا مال حرام، والمال الحرام هو وبال في أيّ شيء، ونحن المسلمون لا نكافئ من عصى الله فينا إلّا بأن نطيع الله فيه، فليسمع هذا أصحاب الجرائم والقتل. روي أنّ أبا الدّرداء رضي الله عنه بلغه أنّ رجلاً قد شتمه فكتب إليه قائلاً: “يا أخي، لا تسرف في شتمنا، واجعل للصّلح موضعاً، فإنّا لا نكافئ من عصى الله فينا إلّا بأن نطيع الله فيه”. فالمؤمن يطيع الله سبحانه وتعالىفي الخصومات، فلا يقتل ولا يغدر ولا يفجر ولا يسبي ولا يسرق… فكلّ هذه الأمور محرّمات حرمة قطعيّة في ديننا. والحرام لا يأتي منه الخير مطلقاً، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا هذه القصّة للعبرة، ويقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً، وإنّ الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال عزَّوجل ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ]المؤمنون[»([1])، فقد أمرنا أن لا نأكل إلّا طيّباً، فالحرام وبال على الإنسان، وكما أنّه وبال عليه سيكون وبالاً على ذرّيته من بعده كذلك. وقد ظلم بنو إسرائيل أنفسهم؛ لأنّهم أرادوا تجسيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بالله عزَّوجل إيمان بغيب؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ولا يُرى. فأراد بنو إسرائيل أن يجعلوا إلهاً كما يشتهون؛ لأنهم مادّيّون لا يؤمنون إلّا بما يرونه أمامهم من الأمور الحسّيّة الملموسة، لذلك طلبوا من هارون أن يجعل لهم إلهاً مُشَاهداً ليعبدوه، وهم لا يفهمون معنى العبادة وأنّ العبادة طاعة، وهذا صنم لا يأمر ولا ينهى فكيف يطيعونه؟ وهذه قمّة المعصية (أن طلبوا أن يجعل لهم إلهاً ماديّاً).


([1]) صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصّدقة من الكسب الطيّب، الحديث رقم (1015).

وَإِذْ: معطوفة.

واعَدْنا: فعل ماض وفاعله نا الدالة على الفاعلين.

مُوسى: مفعول به أول منصوب بالفتحة المقدرة.

أَرْبَعِينَ: مفعول به ثان منصوب بالياء ملحق بجمع المذكر.

لَيْلَةً: تمييز. والجملة في محل جر بالإضافة.

ثُمَّ: حرف عطف.

اتَّخَذْتُمُ: فعل ماض وفاعل والجملة معطوفة.

الْعِجْلَ: مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف تقديره ثم اتخذتم العجل معبودا.

مِنْ بَعْدِهِ: متعلقان بالفعل اتخذتم.

وَأَنْتُمْ: الواو حالية، أنتم مبتدأ.

ظالِمُونَ: خبره والجملة في محل نصب حال.

واعَدْنا: ليست على أصلها وهو المشاركة من اثنين، وإنما هي بمعنى «وعدنا» كما بينا في الإعراب.