أوّل سورة في القرآن الكريم بعد (الفاتحة) هي سورة (البقرة)، وهي السّورة الّتي أوصى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأن تُقرأ في البيوت فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشّيطان ينفر من البيت الّذي تُقرأ فيه سورة البقرة»([1])، وهي فسطاط القرآن، وأطول سورة، وهي سورة مدنيّة.
والفارق بين السّور المكّيّة والمدنيّة هو أنّ السّور المكّيّة تهتمّ بتثبيت العقيدة، فقد نزلت في السّنوات الّتي كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يواجه فيها مشركي مكّة، وكان يدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والجنّة والنّار، أمّا السّور المدنيّة فقد كانت تبني المجتمع، فجاءت فيها آيات الأحكام، وهناك فارق آخر؛ وهو أنّ السّور المكّيّة كانت تواجه في مكّة أعداءً أمّيّين وجهلة، بينما كانت السّور المدنيّة في المدينة المنوّرة تواجه اليهود الّذين لديهم علم، ولديهم التّوراة، كما كانت تواجه النّفاق، وهو أخطر الآفات الّتي تُصيب المجتمعات على الإطلاق. والمنافق هو الّذي يُبطن شيئاً ويُظهر شيئاً آخر، وهذا المرض لم ينشأ في مكّة؛ لأنّ مشركي مكّة كانت لهم الغلبة، فكانوا يؤذون ويَضطهدون كلّ من يتّبع محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم أمّا في المدينة فقد اختلف الأمر، وساد الإسلام، فكان النّاس يدخلون فيه، ومنهم من يُبطن العداوة للإسلام، وهم المنافقون.
وسورة (البقرة) مدنيّة، وفيها قصّة خلق سيّدنا آدم عليه السَّلام، وقصّة سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام في بناء الكعبة، وفيها من الأحكام ما يتعلّق بالصّوم والحجّ وتحريم الرّبا وطريقة التّعامل بالمال في المجتمعات. أمّا سبب تسمية سورة (البقرة) بهذا الاسم فلورود قصّة بقرة بني إسرائيل فيها. وكلّ تسمية، وكلّ كلمة وحرف، بل وكلّ حركة في القرآن الكريم لها سرّ؛ لأنّ القائل هو الله سبحانه وتعالى. وصفات الكمال عند الله سبحانه وتعالى هي صفات كاملة تامّة ليس فيها نقص كالنّقص الموجود عند البشر، ولا يمكن أن يكون هناك تكرار فيها.
وقد وردت في القرآن الكريم أسماء سور تتعلّق بمخلوقات شتّى، مثل: سورة (الأنعام)، و(النّمل)، و(النّحل)، و(العنكبوت)، و(الفيل)، والسّبب أنّ هناك قضيّة إيمانيّة ويريد المولى سبحانه وتعالى لهذه التّسمية أن تخدم هذه القضيّة الإيمانيّة، أو أنّ هناك قضيّة علميّة تخدم القضيّة الإيمانيّة عن طريق الإعجاز العلميّ، كما جاء في سورة (النّمل) قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾]النّمل[، فكيف استخدم كلمة: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾والنّمل حشرة ليّنة؟! ولكن ثبت حديثاً، بأنّ النّمل يتكوّن أكثر من ثلثه من مادّة زجاجيّة قابلة للتّحطيم، فهي قضيّة علميّة تخدم قضيّة إيمانيّة.
وكذلك الجراد والقمّل والضّفادع والبعوض والذّباب، كلّها ذُكرت في القرآن الكريم، ولها خواصّ اجتماعيّة أو علميّة، لمعانٍ مرادة.
وكذلك سورة (البقرة) الّتي أراد الله سبحانه وتعالىفيها من خلال قصّة بقرة بني إسرائيل أن يثبت لهم البعث والجزاء في اليوم الآخر، وبأنّ هناك حساباً وعقاباً، وأنّ هناك جزاءً وإلّا كانت الحياة غابة، ولا معنى للرّسالات السّماويّة كلّها إذا لم يكن هناك يوم آخر يحاسب فيه الإنسان.
وقد كانت البقرة لفتىً من بني إسرائيل بأوصاف معيّنة، وحدث أن قُتل شخص ولم يُعرف قاتله، فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يذبحوا بقرة تطابقت أوصافها أخيراً مع أوصاف بقرة فتى بني إسرائيل، وأن يضربوا القتيل ببعض البقرة أو بجزء منها، فأحياه الله سبحانه وتعالى فقام وسمّى قاتله ثمّ عاد إلى الموت. وسترد معنا القصّة حين نصل إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ ]البقرة: من الآية 67[. ولم يكن البقر من الحيوانات المعروفة ضمن الأنعام في الجزيرة العربيّة عند نزول السّورة، لكنّ التّسمية خدمت قضيّة إيمانيّة كبرى هي قضيّة البعث.
([1]) صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النّافلة في بيته وجوازها في المسجد، رقم الحديث (780).