الآية رقم (128) - لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾: نسب الله سبحانه وتعالى المجيء إلى رسول الله ﷺ، ولم يقل: (جئتكم برسول)، فكلمة رسولٍ تدلّ على أنّه ليس من عنده، وإنّما من عند الله سبحانه وتعالى، كلمة ﴿جَاءَكُمْ﴾ تدلّ أنّ الشّحنة الإيمانيّة جعلت لذاته عملاً، فهو صلى الله عليه وسلم يعشق الرّسالة والصّدق والخير.

﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾: ليس غريباً عنكم، وإنّما واحدٌ منكم، قادرٌ على التّفاهم معكم، وقوله سبحانه وتعالى :﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ له معانٍ متعدّدة، فيمكن أن تكون من جنسكم، وهناك قراءةٌ: (من أَنفَسِكم)، ومن معانيها أنّه عربيٌّ؛ أي من جنس العرب، هنا يجب أن ننوّه إلى أنّه لا يمكن الفصل بين العروبة والإسلام، فالقرآن عربيٌّ والنّبيّ عربيٌّ والتّعبّد عربيٌّ والصّلاة تكون بالعربيّة، فلا يعتقدنّ أحدٌ بأنّه يستطيع أن يفصل بين العروبة والإسلام.

لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم تعلمون تاريخه، وتعلمون أنّه أهلٌ لتحمّل أمانة السّماء للأرض، كما تحمّل أماناتكم في الأرض، رسولٌ من أنفسِكم ومن أنفسَكم مرسلٌ من الله سبحانه وتعالى.

﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾: لا يريد أن يشقّ عليكم، فهو : يعزّ عليه ما يتعبكم وما يعنتكم.

كلمة عزيزٍ؛ أي يعزّ عليه، والشّيء العزيز؛ أي نادر الوجود، والمراد هنا: مشقّةٌ، أو أن يعنتكم بحكمٍ، فقلبه ﷺ رحيمٌ بكم، فهو لا يأتي لكم بالأحكام لكي يشقّ عليكم، بل تتنزّل الأحكام من الله سبحانه وتعالى  لمصلحتكم، لذلك يقول الرّسول الكريم: «إنّما مثلي ومثل النّاس كمثل رجلٍ استوقد ناراً، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدّوابّ الّتي تقع في النّار يقعن فيها، فجعل ينزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذٌ بحجزكم عن النّار وأنتم تقحمون فيها»([1]).

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: الرّأفة والرّحمة قد تلتقيان في المعنى العامّ، ولكنّ هناك أموراً تسلب مضرّةً، وأموراً تجلب منافعَ، وسلب المضرّات مقدّمٌ على جلب المصالح والمنافع، فحين نواجه عملاً يضرّ وعملاً ينفع نقوم بدرء ما يضرّ قبل أن ننجز العمل النّافع، لذلك فهو : رؤوفٌ رحيمٌ، فالرّأفة سلب ما يضرّ من الابتلاء والمشقّة، والرّحيم هو الّذي يجلب ما ينفع من النّعيم والارتقاء، يقول سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ]النّحل: من الآية 7[.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، الحديث رقم (6118). ينزعهنّ: يدفعهنّ ويمنعهنّ، فيقتحمن: يهجمن ويرمين بأنفسهنّ، آخذٌ: أمسك بشدّة، بحجزكم: جمع حجزة، وهي معقد الإزار، وهو كنايةٌ عن حرصه: على منع أمّته عن الإتيان بالمعاصي الّتي تؤدّي بهم إلى الدّخول في النّار، وأنتم تقحمون: أصلها تتقحمون فحذفت إحدى التّائين تخفيفاً. وفي رواية: «وهم يقتحمون».

«لَقَدْ»: اللام واقعة في جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق.

«جاءَكُمْ»: ماض ومفعوله.

«رَسُولٌ»: فاعل.

«مِنْ أَنْفُسِكُمْ»: متعلقان بمحذوف صفة لرسول والجملة جواب قسم لا محل لها.

«عَزِيزٌ»: خبر مقدم.

«عَلَيْهِ»: متعلقان بعزيز.

«ما»: موصولة مبتدأ والجملة صفة لرسول.

«عَنِتُّمْ»: ماض وفاعله والجملة صلة.

«حَرِيصٌ»: صفة لرسول.

«عَلَيْكُمْ»: متعلقان بحريص.

«بِالْمُؤْمِنِينَ»: متعلقان برؤوف.

«رَؤُفٌ رَحِيمٌ»: صفتان لرسول.

مِنْ أَنْفُسِكُمْ: أي منكم ومن جنسكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم.

عَزِيزٌ: شديد أو شاق ما.

عَنِتُّمْ: أي عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أن تهتدوا والحرص: شدة الرغبة في الحصول على الشيء.

رَؤُفٌ: شفوق، والرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة رَحِيمٌ يريد لكم الخير، والرحمة عامة شاملة حال الضعف وغيره.