ربّما يعترض أحدهم ويذكر قول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “لا وصية لوارث“([1])، ونحن نعلم أنّ السُّنّة تخصّص عموم القرآن، الآن يأتي أحدهم ويقول: هذه الآية في القرآن: ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ والوالدان يرثان، نجيبه أن هذه الآية قبل أن يخصّص الله للوالدين نصيباً من الميراث، فعندما أصبح للوالدين ميراثٌ نُسِخ الحكم ولم يعد هناك وصيّة للوالدين، وأيضاً يوجد معنى آخر ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ هذا في المال، لكن قد يكون الخير أشمل وأوسع من المال، لكن قال المفسّرون: المقصود بالخير هنا الزّيادة في المال الّذي يترك، فالأبوان كانا لا يرثان قبل أن يرد في الميراث نصيب للأب والأمّ، وكانت العرب قبل الإسلام تورّث الأبناء ولا تورّث الآباء والأمّهات، معتبرين جيل الآباء والأمّهات مضى وانتهى وقته ودائماً تتّجه العواطف إلى الأبناء والبنات، فأوّل ما نزل التّشريع نزل إن كان هناك وصيّة فللوالدين، بعد ذلك أصبح هناك حصّة في الميراث للوالدين فلم يعد هناك وصيّة لهما.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ (إِذَا) و (إِن) هل يوجد بينهما فرق؟ دعونا نضع إن مكان إذا: كتب عليكم إن حضر أحدكم الموت، هذا مستحيل أن يكون قرآناً؛ لأنّ (إن حضر) معناها قد يحضر الموت وقد لا يحضر، فهل هناك من لا يموت؟ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إنَّكَ مَيِتٌ وإنَّهم مَّيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، الموت كُتب على كلّ إنسان، نقول مثلاً: إن جاء أحمد فأكرموه، معناه يمكن أن يأتي ويمكن ألّا يأتي، أمّا قولي: (إذا جاء أحمد) فأنا متأكّد أنّ أحمد سيأتي، فكلّ حرف في القرآن الكريم له معنى، انظروا لدقّة القرآن: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ معناها سيحضر الموت، وهو منفصل عنك، حضر وكـأنّه ذات مجسّدة وسيأتي لا محالة، وأنت غير قادر على أن تردّه عن نفسك: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: من الآية 34].
﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾: لماذا لم يقل: إذا ترك؟ لأنّه لو استُعملت (إذا) لأعطت معنى أنّ كلّ النّاس تموت ويوجد معها مال، أمّا ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ فقد يترك مالاً وقد لا يترك، قد يكون فقيراً عندما يموت، وهذا الفرق بين (إذا) و(إن).
﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ِلْلوَالِدَيْنِ﴾: أوّل ما يوصي به الإنسان يبدأ بالوالدين، وهما أفضل النّاس على وجه الأرض، وأوجبهم حقّاً عليه، جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، مَن أحقّ النّاس بحسن صحابتي؟ قال: “أمّك“، قال: ثمّ مَن؟ قال: “ثمّ أمّك“، قال: ثمّ مَن؟ قال: “ثمّ أمّك“، قال: ثمّ مَن؟ قال: “ثمّ أبوك“([2]).
﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾: هذا حقّ وواجب على مَن؟ على المتّقي، وإن لم تكن مُتّقياً لله فأوصِ لمن تريد، ولكن إن أنت تركت خيراً، فهذا الخير يجب أن يكون أوّلاً للوالدين، بعد ذلك للأقربين، وتترك الأولاد لماذا؟ لأنّ هنا لا الوالدان ولا الأقربون كانوا يرثون، كانوا يورّثون فقط الأبناء، حتّى البنات كنّ يُحرمن من الميراث.