الآية رقم (31) - قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ

الحقّ سبحانه وتعالى يقول لرسول الله: اسألهم هذا السّؤال.

﴿قُلْ﴾: هذا مقتضاه أنّ خطاب الحقّ سبحانه وتعالى للخلق يختلف عن خطاب الخلق للخلق، فعندما تقول لابنك: اذهب إلى عمّك وقل له: كذا وكذا يذهب الابن للعمّ ويقول له منطوق الرّسالة مباشرةً دون أن يقول له: (قل)، أمّا خطاب الحقّ سبحانه وتعالى فقد شاء أن يبلّغنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نزل بالحرف، فهو صلى الله عليه وسلم أمينٌ في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى لا يترك كلمةً واحدةً من الوحي.

﴿مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾: الرّزق: هو ما يُنتَفع به، فالانتفاع الأوّل هو مقوّم حياةٍ، والثّاني هو التّرف والرّزق الّذي يعدّ أصل الحياة هو ماءٌ ينزل من السّماء، ونباتٌ يخرج من الأرض.

﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾: السّمع والبصر هما السّيّدان لملكات الإدراك؛ لأنّ إدراك المعلومات له وسائل متعدّدةٌ، فمن أراد أن يدرك رائحةً فبأنفه، وإن أراد أن يُدرك نعومةً فبلمسه وبشرته، وإن أراد أن يُدرك مذاقاً فبلسانه، وإن أراد أن يتكلّم فبأجهزة النّطق، وعمدتها اللّسان، وإن أراد أن يسمع فبأُذنه، وكذلك تتجلّى له المرائي بعينيه، ثمّ تأتي إدراكاتٌ متعدّدةٌ من الحواسّ لتكوّن أشياء نسمّيها الخميرة، توجد منها القضيّة العقليّة الأخيرة، فالطّفل مثلاً أمام النّار يجد منظرها جميلاً جذّاباً، لكن ما إن يلمسها حتّى تلسعه، فلا يقترب منها أبداً من بعد ذلك؛ لأنّه اختبرها بحواسّه فارتكزت لديه القضيّة العقليّة أنّها نارٌ محرقةٌ، واستقرّ هذا لديه يقيناً، فوسائل العلم للكائن الحيّ هي الحواسّ، وهذه الحواسّ تعطي العقل معطياتٍ تنغرز فيه لتستقرّ من بعد ذلك في الوجدان فتصبح عقائد، فمراحل الإدراك هي إدراكٌ حسّيٌّ وتفكّرٌ عقليٌّ فانتهاءٌ عقديٌّ، لذلك نسمّي الدّين عقيدةً؛ أي أنّنا عقدنا الشّيء في يقيننا بصورةٍ لا تحلّه بعدها من جديدٍ، وقد لفتنا الإمام عليّ كرّم الله وجهه إلى العجائب فقال: “اعْجَبوا لهذا الإنسانِ، يَنْظُرُ بشَحْمٍ، ويتكَلَّمُ بِلَحْمٍ، ويَسْمَعُ بعَظْمٍ، ويتنفَّسُ من خَرْمٍ”، فالصّوت يطرق عظمة الأذن ويرنّ على طلّتها، ونرى بشحمة العين، وننطق بلحمة اللّسان، ونشمّ بغضروفٍ، ونلمس بجلدٍ، ونفكّر بعجينٍ، فالإنسان يولد وكأنّ مخّه قطعةٌ من العجين الّتي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزّنها فيه، وهي الّتي ستكوّن ركيزةً لتشكيل الفؤاد بعد ذلك.

جاء هنا السّمع بالإفراد وجاء الإبصار بالجمع، والمتكلّم هو الله سبحانه وتعالى، فكلّ كلمةٍ منه لها حكمةٌ، فنحن نسمع أيّ صوتٍ قادمٍ من أيّ مكانٍ، لكنّنا بالعين نرى مِن جهةٍ واحدةٍ، فإذا أردنا أن نرى ما على يميننا نتّجه بعيننا نحو اليمين، وإذا أردنا أن نرى ما خلفنا فإنّنا نتّجه برؤوسنا نحو الخلف، فالأذن تسمع من دون عملٍ منّا، لكنّ البصر يحتاج إلى عمليّاتٍ متعدّدةٍ لنرى ما نريد، والسّمع لا اختيار لنا فيه، فنحن لا نستطيع أن نحجب آذاننا عن سماع شيءٍ، أمّا الأبصار فنتحكّم فيها بالحركة أو بإغلاق العين، وهنا الحقّ I قال: ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾: ، الحقّ سبحانه وتعالى يملكها؛ لأنّه خالقها، وهو القادر على صيانتها، وقد أعطانا الحقّ جل جلاله مثالاً لهذا فقال عن أصحاب الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾  ]الكهف[، فعطّل الله سبحانه وتعالى أسماعهم بأن ضرب على آذانهم، فدخلوا في نومٍ مستمرٍّ لثلاثة قرونٍ من الزّمن وازدادوا تسعا،ً ونلحظ هنا ملحظاً يجب الانتباه إليه ففي هذه الآيات الكريمة يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّن يَمْلِكُ﴾، بينما يقول في آياتٍ أخرى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ]السّجدة: من الآية 9[، ولا بدّ أن ننتبه إلى الفارق بين (الجعل) و(الملك)، أمّا الجعل فهو توجيه ما خلق الله سبحانه وتعالى إلى مهمّته، فأنت تجعل الطّين إبريقاً، والقماش جلباباً.. إلخ، هذا على المستوى البشريّ، أمّا الله سبحانه وتعالى فقد خلق المادّة أوّلاً، ثمّ جعل من المادّة سمعاً وبصراً، وزاد من بعد ذلك ﴿أَمَّن يَمْلِكُ﴾ فمن خلق هو الله سبحانه وتعالى، ومن جعل هو الله تعالى ومن ملَك هو الله سبحانه وتعالى، فالأشياء النّافعة لابن آدم يخلقها الله عز وجلويجعلها ثمّ يملِّكها ويعطيها للإنسان، ولكنّها ستظلّ مُلكاً لله جل جلاله، يُبقيها على حالها أو يخطفها أو يصيبها بآفّةٍ أو يعطّلها، فهي خُلقت لله سبحانه وتعالى وجُعلت من الله عز وجل، وتظلّ مملوكةً لله جل جلاله، يسيّرها كيف يشاء، فدقّات قلب الإنسان والحبّ والكراهية والأمور اللّا إراديّة الّتي تعمل لمصلحة الإنسان هي مملوكةٌ لله عز وجل، ودليل مُلكيّة الحقّ سبحانه وتعالى أنّه حرّم الجنّة على المنتحر؛ لأنّه لا يأخذ الحياة إلّا واهب الحياة، فأنت أيّها الإنسان لست مُلكاً لنفسك ولا عذر لأحدٍ مادام قد وصله هذا البلاغ.

﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾: نحن نعلم بأنّ لكلّ كائنٍ في الوجود حياةً تناسبه بدليل قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ ]القصص: من الآية 88[، وما دام كلّ شيءٍ سيأتي له وقتٌ يهلك فيه فمعنى ذلك أنّ لكلّ شيءٍ حياةً، إلّا أنّ حياتنا نحن البشر في ظاهر الأمر عبارةٌ عن الحسّ والحركة، فالإنسان يأكل الخضراوات والخبز والفاكهة وغيرها من المأكولات، فيتكوّن الجسم ويتكوّن فيه الحيوانات المنويّة في الرّجل، والبويضات في المرأة، ومنها يأتي الإنسان.

﴿وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: التّدبير: هو عمليّة الإدارة لأيّ شيءٍ حتّى يؤدّي هذه المهمّة، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان يأخذ من الطّعام ما يستفيد منه، وهو جلّ وعلا يدير قلب الإنسان وأمعاءه ورئتيه.. لذلك اطمأنّوا على حركة أجهزتكم الّتي لا دخل لكم فيها؛ لأنّ الّذي خلقها فيكم: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ ]البقرة[.

﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾: فما دام الله سبحانه وتعالى هو الّذي خلق كلّ ذلك وأنزل منهجاً، فعليكم أن تجعلوا بينكم وبينه جل جلاله وقايةً تحميكم من صفات الجلال وتقرّبكم من آثار صفات الجمال، وأن تستمعوا إلى البلاغ من الرّسل 4 وإلى مطلوبات الحقّ سبحانه وتعالى.

«قُلْ»: أمر فاعله مستتر والجملة مستأنفة.

«مَنْ»: اسم استفهام مبتدأ والجملة مقول القول.

«يَرْزُقُكُمْ»: مضارع ومفعوله والفاعل مستتر والجملة خبر.

«مِنَ السَّماءِ»: متعلقان بيرزقكم.

«وَالْأَرْضِ»: معطوف على السماء.

«أم»: عاطفة.

«مَنْ»: اسم استفهام مبتدأ والجملة معطوفة.

«يَمْلِكُ»: مضارع فاعله مستتر والجملة خبر.

«السَّمْعَ»: مفعول به.

«وَالْأَبْصارَ»: معطوف على السمع.

«وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ»: معطوف على ما قبله.

«مِنَ الْمَيِّتِ»: متعلقان بيخرج.

«وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ»: معطوف على ما قبله وإعرابه مثله.

«وَمَنْ»: اسم استفهام مبتدأ.

«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ»: مضارع ومفعوله والفاعل مستتر والجملة خبر وجملة من معطوفة.

«فَسَيَقُولُونَ»: الفاء استئنافية والسين للاستقبال ومضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة مستأنفة.

«اللَّهُ»: لفظ الجلالة خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو الله والجملة مقول القول.

«فَقُلْ»: أمر فاعله مستتر والجملة مستأنفة.

«أَفَلا»: الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة ولا نافية.

«تَتَّقُونَ»: مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة مقول القول.

وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: ومن يلي تدبير أمر العالم، وهو تعميم بعد تخصيص.