الآية رقم (83) - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

عرفنا في الآية السّابقة أنّ الحقّ سبحانه وتعالى إذا قال: ﴿كُنْ﴾ انفعلتْ له الأشياء وأطاعت، وقلنا: إذا ورد لله سبحانه وتعالى وَصْف يُوصف به البشر، فعلينا أنْ نأخذه في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فطبيعيّ أنْ تختم هذه الآيات والسّورة كلّها بقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَسُبْحَانَ﴾: وهو تنزيهٌ له عن أن يُشبهه أحدٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

﴿مَلَكُوتُ ﴾: من ملك، وهذه المادّة الميم واللّام والكاف تُستخدم على معانٍ أربعة:

الأوّل: نقول: مالك، وهو كلّ مَنْ ملَك شيئاً ولو كان يسيراً، فلو كان لا يملك إلّا الثّوب الّذي يلبسه يُسمَّى مالك.

الثّاني: نقول: مَلِك، وهو الّذي يملك مَنْ مَلَك؛ أي يملك أنْ يتصرّف فيه وفي إدارة حركته.

الثّالث: كلمة الـمُلْك، وهي أن يترقّى الملك في أمورٍ ظاهرةٍ يعرفها النّاس.

الرّابع: كلمة الملكوت، ويُراد بها الملْك المستور غير الظّاهر، وهو أقوى وأعمّ من الـمُلْك.

وقد يكون الشّيء من عالم الملكوت، ثمّ يصير إلى عالم الـمُلك مثل الأشياء الّتي كانت غيباً واكتشفها الإنسان أو ابتكرها، فصارت مشهودة، وهناك أشياء تظلّ دائماً في عالم الملكوت لا نعرف عنها شيئاً إلّا في الآخرة، وهذا النّوع هو الّذي يُكذِّبون به، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في شأن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام: من الآية 75]، يُطلعه الله تعالى على عالم الملكوت؛ لأنّه عندما أطلعه على عالم الملْك وابتلاه نجح في الابتلاء بتفوّق، نجح في مراحل حياته كلّها، لذلك صار أهلاً أنْ يُطلِعه الله سبحانه وتعالى على أسرار الكون، وعلى عالم الملكوت، وأسرار الملكوت لا يعلمها إلّا الله سبحانه وتعالى، وقد بيّن سبحانه وتعالى بعضها لبعض الأنبياء عليهم السلام، وكلمة: ﴿مَلَكُوتُ﴾ تحمل معنى المبالغة، مثل: رحموت وجبروت ورهبوت، فهي للمبالغة في الملْك، لكن نلحظ عند علماء القراءات أنّ أحدهم يقرأ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة]، فيقول: (مَلِكِ يوم الدين) من غير صيغة المبالغة، قالوا: لأنّ الكلام عن يوم الدّين، وفي هذا اليوم الملْك كلّه لله سبحانه وتعالى وليس لأحدٍ مُلْك، ولا حتّى الثّوب الّذي يرتديه.

﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: أي يوم القيامة، فالمرجع والمآل إليه، قال سبحانه وتعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه]، فكونوا على ذِكْرٍ لهذه الحقيقة، فمَنْ لم يؤمن بنعمة الخَلْق ترهبه نعمة الإعادة والمرجع، فأنتم ما خُلِقْتم عبثاً، ولن تُتْرَكُوا سُدىً.

 

❀       ❀       ❀

تَمَّ بِفَضْلِ اللهِ تعالى تَفْسِيرُ سورة يــــس

 

الحمدُ لله الّذي جعلَ القُرآنَ الكريم نُوراً لا يُطْفَأُ مِصبَاحُهُ، وسِرَاجاً لا يَخْبُو تَوَقُّدُه، ومَنهَجاً لا يَضِلُّ سَالِكُهُ، وفُرقَاناً لا يَخمَدُ بُرهانُهُ، وبُنياناً لا تُهْدَمُ أحكامُهُ، وحَقَّاً لا يُخْذَلُ أعوانُهُ.

اللَّهمَّ ارْفَعْنا بالقُرآنِ الكريمِ في دَرَجِ الجِنَانِ، وارْفَعْ عَنَّا بِفَضْلِهِ الأحْزانَ، وزوِّدْنا بِفَضْلِهِ مِنَ الخَيراتِ الحِسانِ، وَضَاعِفْ لَنا الأُجُورَ بِرَحْمَتِكَ وإحْسَانِكَ يا وَاهِبَ المِنَنِ الحِسَانِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِقُرْآنِكَ خَاشِعِينَ، وَبِلَيلِكَ قَائِمِينَ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ، وَبِعِبَادَتِكَ مُخْلِصِينَ، وَلِحَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَابِعينَ، وَبِحُبِّكَ وَاصِلِينَ، وَلِجَنَّتِكَ مُسْتَحِقِّينَ، وَلِوَجْهِكَ الكَريمِ نَاظِرينَ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ.

اللّهمَّ اجْعَلنَا ممَّن تأدَّبَ بآدابِ القرآنِ، وائتمرَ بأوامرِه، وانتهى بنواهيه، والتمسَ غرائبَ علومِه، وخشَعَ لسماعِه، وخضعَ لكلامِه، وآمنَ بمتشابِهه، وعَمِلَ بمُحكَمِه، واستنَّ بسُنَّتِه، وحافظَ على واجباتِه، وعَمَّرَ بتلاوتِه جميعَ أوقاتِه، ولم يغفَلْ عن تلاوتِه في حالةٍ من حالاتِه.

اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِتَرْكِ المعَاصِي دَائِماً مَا أَحْيَيْتَنَا، وَارْحَمْنَا بِتَرْكِ مَا لا يعنِينَا، وارْزُقْنَا حُسْنَ النَّظَرِ فِيمَا يُرْضِيكَ عَنَّا، وَأَلْزِمْ قُلُوبَنَا حِفْظَ كِتَابِكَ كَمَا عَلَّمْتَنَا، وَنَوِّرْ بِهِ أَبْصَارَنَا، واشْرَحْ بِهِ صُدُورَنَا، واجْعَلْنَا نَتْلُوهُ كَمَا يُرْضِيكَ عَنَّا، وافْتَحْ بِهِ قُلُوبَنَا، وَأَطْلِقْ بِهِ أَلْسِنَتَنَا.

سُبْحَانَ ربِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وسَلامٌ عَلى الـمُرْسَلِينَ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَـمِين.

«فَسُبْحانَ» الفاء حرف استئناف ومفعول مطلق فعله محذوف

«الَّذِي» مضاف إليه

«بِيَدِهِ» خبر مقدم

«مَلَكُوتُ» مبتدأ مؤخر والجملة صلة لا محل لها

«كُلِّ» مضاف إليه

«شَيْءٍ» مضاف إليه ثان

«وَإِلَيْهِ» الواو حرف عطف وجار ومجرور متعلقان بترجعون

«تُرْجَعُونَ» مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها.