الآية رقم (37) - فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

فتح الله سبحانه وتعالى لآدم أبواب التّوبة، وشرع له ولبنيه في المنهج التّوبة بعد الذّنب، وهو تشريع إصلاح. فما دام الإنسان مختاراً ولديه شهوات، فسيخطئ ويتّبع شهواته، سيكذب أو يغتاب أو يسرق أو يأخذ الرّشوة أو يأكل الميراث أو ربّما يقتل، وما لم يفتح الله تعالى لعباده باب التّوبة، فإنّهم سيشقون ويشقى المجتمع، ويشقى المؤمن بمعصية الكافر والفاسق، وبمعصية من خرج عن المنهج.

والمطلوب من المؤمن أن يعيش في بحبوحة الحلال، وأن تكون فيه نفحة من جمال وإشراق روح تشعّ في الكون؛ لأنّه صدق وإيمان وأخلاق، فلا يغتاب، ولا يسرق… وهذا هو المؤمن الحقيقيّ والمسلم الحقيقيّ، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمُهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([1])، وفي رواية: «المسلم من سلم النّاس من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه النّاس على دمائهم وأموالهم»([2]). فالمؤمن يجب أن يكون نفحة جمال تشعّ في الكون، مُنشرح الصّدر، مطمئن القلب، يرضى بقضاء الله، وينسجم مع الكون بالتّسبيح، ومع نفسه بالسّلام مع ربّه، والسّلام مع النّاس. والمؤمن الحقيقيّ ليس قاتلاً ولا مجرماً، ولا يكفّر النّاس، ولا يحقد عليهم، ليس طائفيّاً، ولا مُبغضاً، ولا حاقداً، ولا حسوداً.

وقد شرع الله سبحانه وتعالى باب التّوبة للكفّ عن الخطأ والعودة إلى الرّشد والصّواب، وليست هناك دعوة إصلاح كتشريع التّوبة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. والكلمات الّتي تلقّاها هي: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ      ]الأعراف: من الآية 23[، فعلّمه تعالى تشريع التّوبة والاعتراف بالذّنب، وأنزله إلى الأرض ومعه المنهج الّذي يُبيّن الحلال والحرام، ومعه تشريع التّوبة لمن يُخطئ، فالتّوبة دعوة للكفّ عن الخطأ، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، والتّوّاب: صيغة مبالغة، فالله سبحانه وتعالى يتوب عن كثير من الذّنوب، ويقبل التّوبة من عدد كبير من النّاس، بل يقبل توبتهم كلّهم، ويقبل التّوبة المتكرّرة من العبد الواحد مع تكرار الخطأ. وممّا روته السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذنْ تكثرْ ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([3])، فلا أحد يضع نفسه جلّاداً أو قاضياً على النّاس ويكفّرهم، فرحمة الله سبحانه وتعالى وسعت كلّ شيء، روى عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى وحشيّ قاتل حمزة (عمّ النّبيّ) يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمّد، كيف تدعوني إلى دينك، وأنت تزعم أنّ من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، وأنا قد صنعت ذلك، فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عزَّوجل: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا      ]الفرقان[، فقال وحشيّ: يا محمّد، هذا شرط شديد: إلّا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فلعلّي لا أقدر على هذا، فأنزل الله عزَّوجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ      ]النّساء: من الآية 48[، فقال وحشيّ: يا محمّد، أرى بعد مشيئةٍ، فلا أدري يُغفر لي أم لا، فهل غير هذا؟ فأنزل الله عزَّوجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قال وحشيّ: هذا، فجاء فأسلم، فقال النّاس: يا رسول الله، إذا أصبنا ما أصاب وحشيّ؟ قال: «هي للمسلمين عامّة»([4]). فالإسلام دين التّوبة، دين الرّحمة والمغفرة. وقد علّم الله آدم عليه السَّلام تشريع التّوبة حتّى يكفّ الإنسان عن تكرار الخطأ. وعلى المرء العاقل أن ينتبه لموضوع التّوبة، فعليه أن يعقد العزم على أن لا يعود إلى مقارفة الإثم، وإذا كان الذّنب الّذي أذنبه يتعلّق بحقوق النّاس فلا بدّ من إعادة الحقوق إلى أصحابها قبل التّوبة، أي أنّ السّارق لا تكفي توبته دون أن يردّ المسروقات الّتي في حوزته إلى أصحابها، والله عزَّوجل لا يُخدَع. إذاً لا بدّ من إعادة الحقوق، مع الاستغفار والتّوبة، وعقد العزم على عدم العودة إلى الإثم، وعندها تكون التّوبة نصوحاً. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ]الشّورى: من الآية 25[، ولم يقل: (يقبل التّوبة من عباده)، فالله يقبل التّوبة عن عباده الّذين لم يأتوا ليتوبوا، وكأنّه يدعوهم للكفّ عن الخطأ، ويشجّعهم على التّوبة وعدم العودة إلى ذنوبهم، فهو سبحانه وتعالى يقبل التّوبة منك وعنك، ومن لم يتب فإنّه يدعوه إلى التّوبة، كما جاء في الحديث عن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ، وبينهما مُشبَّهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من النّاس، فمن اتّقى المشبَّهات استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشُّبُهات: كراعٍ يرعى حول الحِمى، أوشك أن يُواقِعَه، ألا وإنّ لكلّ مَلِكٍ حِمىً، ألا إنّ حِمى الله في أرضه محارِمُه..»([5])، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: لا تقربوا هذه الشّجرة، لا تقربوا الزّنا.. الخمر.. فهو يمنعك من الاقتراب حتّى لا يكون هذا الشّيء قريباً منك، وتقع في الحِمى.. وقد قال سبحانه وتعالى في تحريم الخمر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ]المائدة[، فهو لم يحرّمه فقط، بل حرّم الاقتراب منه، وحرّم الجلوس في مكان تُدار فيه الخمر، وهذا أشدّ تحريماً.

وكذلك حين يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا  ]الإسراء[، أي لا تقتربوا من مقدّمات الزّنى حتّى لا تقعوا فيه، فحرّم كلّ ما يدعو إلى الاقتراب منه، كالنّظر.. وغيره. وكذلك قال لآدم وحوّاء في جنّة التّجربة: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ]الأعراف: من الآية 19[، أي لا تنظرا إليها، ولا تقتربا منها، ولا تجلسا تحتها، ولا تنظرا إلى ثمرها.

فالتّوبة تشريع للكفّ عن الخطأ، وهي دعوة إصلاح؛ لأنّنا حين نكرّس التّوبة في مجتمعنا أو نتحدّث عن التّوبة، نفتح باب الأمل للشّارد المجرم كي لا يُمعن في الخطأ، فبقاؤه واستمراره في الإجرام خطر على المجتمع، والتّوبة صلاح للمجتمع كلّه.


(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، الحديث رقم (10).

(([2] سنن النّسائيّ الصّغرى: كتاب الإيمان وشرائعه، صفة المؤمن، الحديث رقم (4995).

(([3] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

(([4] المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب العين، أحاديث عبد الله بن العبّاس، الحديث رقم (11480).

(([5] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، الحديث رقم (52).

فَتَلَقَّى: الفاء استئنافية. تلقى فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة.

آدَمُ: فاعل.

مِنْ رَبِّهِ: متعلقان بالفعل.

كَلِماتٍ: مفعول به منصوب بالكسرة عوضا عن الفتحة.

فَتابَ: الفاء حرف عطف، تاب فعل ماض والجملة معطوفة على محذوف والتقدير قالها فتاب.

عَلَيْهِ: متعلقان بالفعل تاب. وجملة تلقى مستأنفة.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: انظر الآية «32»

فَتَلَقَّى: أخذ وقبل وألهم

فَتابَ: التوبة: الرجوع، فإذا عدّيت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإذا عديت بعلى، كان معناها قبول التوبة.

التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: من صيغ المبالغة، أي قابل التوبة بكثرة، واسع الرحمة.