﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف يفيد التّراخي في الزّمن.
أمّا الفاء فتفيد التّعقيب الفوريّ.
واستخدام كلمة ﴿ثُمَّ﴾ تعني أنّ الكلام انتقل الآن إلى اليهود الّذين كانوا في المدينة المنوّرة وقت تنزّل القرآن الكريم، وكانوا فريقين: فريق مع الأوس وفريق مع الخزرج. فإذا نشب قتال بين الأوس والخزرج قاتل فريق من اليهود مع الأوس وقاتل فريق منهم مع الخزرج، فيقتلون فريقاً من قومهم ويخرجونهم من ديارهم.
﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم﴾: أي تنصرون فريقاً على آخر.
﴿بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾: الإثم: هو الاعتداء بدون حقّ، والعدوان: هو تجاوز الحدّ.
والمقصود بهذه الآيات أنّه بعد الحرب يكون افتداء للأسرى، وجمع أسير عادة: أسرى، كما في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ ]الأنفال: من الآية 67[، وقد جيء هنا بكلمة ﴿أُسَارَى﴾ وجمع التّكسير في اللّغة العربيّة يحتمل أكثر من معنى، وهي هنا إشارة إلى كثرة الأسر، ولا يكون هذا في اللّغة العربيّة إلّا عندما يكون القائل عالماً بدخائل النّفوس، وكلام الله سبحانه وتعالىيتحدّث عن الإنسان بمظهره ومخبره، وكان اليهود يفتدون الأسرى من قومهم مع أنّ الله سبحانه وتعالى حرّم عليهم أصلاً إخراجهم. والقرآن الكريم يتحدّث عن دخائل النّفوس ويسبر أغوارها، وحين يتحدّث عن الملائكة مثلاً يقول سبحانه وتعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ ]البقرة:[، وهذا القول قد يكون في نفوسهم وسرّهم ولا يعلمه إلّا الله جلَّ جلاله وهؤلاء اليهود يفادون الأسارى وهو محرّم عليهم إخراجهم أصلاً.
﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾: الكفر هو السّتر، فهم يظهرون بعض الكتاب ويسترون بعضه الآخر، يأخذون جزءاً من الكتاب ويتركون جزءاً. بعض النّاس يأخذ من القرآن الكريم ما يرى فيه مصلحته، كمن يسارع لأخذ الميراث، ويقول: أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في القرآن الكريم، فإذا ما ورد في القرآن الكريم ذكر لحقوق مترتّبة عليه، تهرّب وأعرض، فهو يأخذ من القرآن ما يناسبه ويترك منه ما لا يناسبه بنظره.
﴿فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾: فالجزاء في الدّنيا قد يكون وقد لا يكون، ومن اعتقد أنّه أفلت بجريمته فقد وَهِمَ؛ لأنّ الجزاء الأوفى في الآخرة.
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾: وقد يؤخّر الله سبحانه وتعالى الجزاء، فهو تعالى يمهل ولا يهمل، ولا بدّ من أن يكون الجزاء في الآخرة.