سورة (عبس) هي سورةٌ مكّيّةٌ، ويسمّونها أيضاً (الصّاخّة)؛ لأنّها السّورة الوحيدة الّتي ورد فيها هذا اللّفظ المخوّف، وهو من أسماء القيامة، وبعضهم يسمّونها سورة (الأعمى)؛ وهو عبد الله بن أمّ مكتوم رضي الله عنه الّذي نزلت الآيات بشأنه، هذه الآيات فيها إشارةٌ كبيرةٌ إلى مكانة الرّسول الكريم مع أنّ بعضهم يعدّها عتاباً له صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن لننظر إلى هذا العتاب الجميل والرّائع لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فهذه قصّةٌ من واقع حياة النّاس.
وكان القرآن الكريم يتنزّل منجّماً ليثبّت العقائد في النّفوس، فالعقائد والأحكام لم تأت من الله سبحانه وتعالى في قالبٍ تُصبّ صبّاً واحداً، وإنّما أُخذت من واقع الأحداث، وعبد الله بن أمّ مكتوم رضي الله عنه كان رجلاً أعمى وله منزلةٌ عند السّيّدة خديجة عليها السَّلام، فهو ابن خالها، وبعد أن آمن برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاء ليسأله في بعض أمور الدّين، فقال: يا رسول الله اقرئني، علّمني ممّا علّمك الله، لكنّ الرّسول الكريم كان مشغولاً في ذلك الوقت بجماعةٍ من صناديد الكفر والإشراك والعُتاة في مكّة سادة القوم، وهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأميّة بن خلف وأبو جهل، ومعهم العبّاس قبل أن يؤمن، والرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حريصٌ على أن يؤمنوا؛ لأنّه إن استطاع أن يُدخِل الإيمان إلى قلوب هؤلاء العُتاة فإنّ ذلك سيوفّر على المؤمنين كثيراً من العناء، على الأقل يكفّون عن إيذاء المؤمنين ومصادمة مسيرة الدّعوة، وبإسلامهم قد يُسِلم كثيرٌ من بعدهم، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحاورهم ليقنعهم، وهذا الأمر يتطلّب منه : جهداً ومشقّةً زائدةً، فاختار النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم المشقّة، واختار أن يُكلّف نفسه بأصعب الأمور، أمّا عبد الله بن أمّ مكتوم رضي الله عنه فهو مؤمنٌ بطبيعة الحال، فانصراف الرّسول الكريم عنه لم يكن استهانةً به أو لأنّه أعمى، إنّما نظر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الأولويّات وما يقتضيه الموقف، وقد كلّف نفسه فوق ما كلّفه الله سبحانه وتعالى به، فالحديث مع ابن أمّ مكتوم أسهل ومتيسّرٌ في أيّ وقتٍ، أمّا مع صناديد الكفر والإشراك فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان حريصاً في ذلك الوقت على بيان العقيدة وبيان الإيمان بالله سبحانه وتعالى … إلخ، من هنا ننطلق، فلماذا عاتب الله سبحانه وتعالى نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم هنا؟ هل عاتبه لأنّه مقصّرٌ أو لأنّه حمّل نفسَه من المشقّة فوق ما يتطلّبه وفوق ما أمره الله سبحانه وتعالى به؟ إذاً هو عتابٌ لمصلحة الرّسول الكريم لا عليه، ومن هنا ينبغي أن نفهم أنّ العتاب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في كلّ ما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى ليس كما يعتقد السّطحيّون من بعض النّاس أو من المفسّرين، أبداً، وإنّما هو لمصلحة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.