﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: أراد الله سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً، والمثل: هو شيءٌ نريد أن نمثّله بشيءٍ آخر، كمن يقول لك: ألا تعرف فلاناً؟ فتقول: لا أعرفه، فيردّ عليك قائلاً: إنّه مثل فلانٍ بالشّكل، وهكذا عرّفت المجهول بمعلومٍ.
﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾: الماء الّذي ينزل من السّماء هو الماء الصّالح للريّ والسّقي، والمياه الّتي في الوجود هي مخازنٌ للحياة، وغالباً ما تكون مالحةً كمياه البحار والمحيطات، وشاء الله سبحانه وتعالى ذلك لحمايتها من العفن والفساد، ثمّ تتمّ عمليّة تقطير المياه بأشعة الشّمس الّتي تحوّل الماء إلى بخارٍ، ويتجمّع كسحابٍ ثمّ يسقط ماءً عذباً مقطّراً صالحاً للشّرب.
﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾: الاختلاط: هو اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة الانفصال، بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك، فإن خلطنا مثلاً حبّات الفول مع حبّات الحمّص، فنستطيع أن نفصل أيّاً منهما عن الآخر، وهو يختلف عن المزج، ومثاله: إذا عُصِرَت ليمونةٌ على ماءٍ محلّىً بالسّكر يذوب كلّ جزيءٍ من اللّيمون والسّكر في جزيئات الماء، وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ قد يُفهم من ذلك أنّ الماء والنّبات قد اختلطا معاً، لكنّ النّبات كما نعلم كائنٌ حيٌّ مخلوقٌ من الماء مصداقاً لقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ ]الأنبياء: من الآية 30[، ولا بدّ أن نلفت الأنظار إلى الفارق بين (باء الخلط) و(باء السّببيّة) فالباء هنا في هذه الآية هي (باء السّببيّة)، لذلك يكون المعنى: فاختلط بسببه نبات الأرض، فبعد سقوط المطر نجد أنّ المياه تغطي الأرض، وبعد ذلك بأيّامٍ أو أسابيع نجد سطح الأرض مغطّىً بالمزروعات المختلطة المتشابكة.
﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ﴾: المثل الّذي نحن بصدده هنا هو تشبيه الحياة الدّنيا بأمرٍ نُدركه، وهو الزّرع الّذي يرتوي بالمطر، وبعد أن يأخذ حظّه في الازدهار والجمال ينتهي، كذلك الدّنيا.
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾: الزّخرف: هو الشّيء الجميل المستميل للنّفس تسرّ به حينما تراه.
﴿وَازَّيَّنَتْ﴾: تتزيّن الدّنيا بالألوان المتنوّعة في تنسيقٍ بديعٍ.
﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾: مهما ظنّ النّاس أنّهم قادرون على هذه الدّنيا وعلى تحقيق الأهداف فيها، فهناك حقيقةٌ لا يمكن أن تغيب عنهم وهي أنّها إلى زوالٍ، فلا خلود ولا بقاء فيها.
﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾: يصبح كلّ شيءٍ حصيداً؛ أي محصوداً منتهياً، وهذا ما نراه في حياتنا، فالدّنيا بكلّ جمالها الّذي نراه تذوي، وما نراه من بديع ألوانها يذبل.
﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾: أي كأنّها لم يكن لها وجودٌ، فإذا كانت الدّنيا كلّها مثل عمليّة الزّرع في الأرض الّذي ينمو ويزدهر ويزدان ثمّ ينتهي، ألا يجب أن ننتبه إلى أنّ كلّ زخرفٍ إلى زوالٍ، وعلينا ألّا نُفتن بزينة الدّنيا ومتاعها، ونحرص على ألّا نبغي في الأرض؛ لأنّ البغي هو ضمن متاع الحياة الدّنيا الزّائلة.
﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾: الإسلام يُخاطب العقل دائماً، ويُعمل الفكر، والتعقّل: هو أن تأتي بالمقدّمات لتستنبط وترى إلى أيّ نتائج تصل، أمّا التّذكّر: فيعني ألّا تنسى وألّا تغفل عن الأمر المهمّ، أمّا التّفكّر: فهو أن تُعمل الفكر، والفارق بين الفكر والعقل هو أنّ العقل أداة التّفكّر، والتّدبّر: هو ألّا ننظر إلى ظواهر الأشياء، بل إلى المعطيات الخفيّة في أيّ أمرٍ، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ ]محمّد[؛ أي اجعل بصيرتك تمحّص البدايات والنّهايات لتعرف أنّ المرجع والمصير إلى الله تعالى، والعاقل هو من يعدّ نفسه للقاء الله سبحانه وتعالى، وقد يرهق الإنسان نفسه في الدّنيا الفانية، لكنّ الرّاحة لا تكون إلّا في الآخرة.