وقوله سبحانه وتعالى: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ تعني المنافقين الّذين يقولون: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ ، وكلمة شراء في التّجارة يُقابلها البيع، والباء تدخل على المتروك، وهو الهدى. فهؤلاء أخذوا الضّلالة وتركوا الهدى، وهي عمليّة تجاريّة خاسرة؛ لأنّهم دفعوا الهدى ثمناً للضّلالة.
وقد نتساءل هنا: أيّ هدىً كان عندهم فيدفعُونه مقابل الضّلالة؟ وقد قلنا: إنّ هناك هداية الدّلالة الّتي يدلّ بها الأنبياءُ النّاسَ إلى وجود الله ورسالاته والآخرة والحساب.
ومن اختار هداية الدّلالة جاءته هداية المعونة، أمّا الهداية الّتي باعها المنافقون مقابل الضّلالة فهي بداية الهداية، أي هداية الفطرة الإنسانيّة الّتي يُخلق عليها الإنسان: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾]الأعراف[، وكان هذا في عالم الذّرّ حين أخذ الله من بني آدم إقرارهم على أنفسهم، فهذه هداية مركونة في فطرة الإنسان كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما من مولود إلّا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه…»([1])، فيأخذونه في هذا الاتّجاه أو ذاك، فالفطرة هداية من الله سبحانه وتعالى. والمنافقون باعوا فطرتهم مقابل الضّلالة، ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾: فما عادت تُفيدهم هداية الدّلالة ولا هداية المعونة. ولا يستطيع أحدٌ أن يُدخل إلى قلوبهم هداية المعونة؛ لأنّهم اختاروا الضّلالة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾]الشّورى: من الآية 52[، وهذه هداية دلالة، أمّا قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ ]القصص: من الآية 56[، فمعناها: أنّك لا تستطيع أن تُدخل هداية المعونة في قلب مَن اختار الضّلالة على الهدى.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصّبيّ فمات هل يُصلّى عليه؟ وهل يُعرض على الصّبيّ الإسلام؟، الحديث رقم (1292).