الآية رقم (75) - وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا

وهؤلاء الّذين لم يستطيعوا أن يهاجروا من مكّة -القرية الظّالم أهلها- إلى المدينة المنوّرة، عليكم أن تقاتلوا من أجل إخراجهم، فقد كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾، هم يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى كلّف الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنين من الصّحابة رضوان الله عليهم بملاقاة جيش قريش في بدر وأُحُد والخندق، وفي هذه المعارك دافع المسلمون عن وطنهم وأرضهم وحقّهم.

الآية رقم (65) - فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا

﴿فَلاَ﴾: لا النّافية.

﴿وَرَبِّكَ﴾: يقسم عزَّ وجلبذاته العليّة، والله سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء من خلقه، وأنت لا يحقّ لك أن تقسم إلّا بالله سبحانه وتعالى وحده، ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ [الذّاريات]، ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر]، ﴿وَالْعَصْرِ﴾ [العصر]، هنا قال: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ﴾ هذا قسمٌ.

﴿لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ﴾: علّق كلّ الإيمان، حتّى يحكموك، والإيمان أن تؤمن بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه، لكن كيف سيترجم الإيمان؟ ترجمته أن تُحكِّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، انظر لدقّة الآية: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ نفى كلّ الإيمان ﴿حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أصعب قضيّةٍ على النّاس هي النّزاع، ممكن أن تُحكّم بأيّ شيءٍ وترضى، لكن عندما يكون هناك نزاعٌ يكون في النّفس شدّةٌ ونفور، وعليك أن تلتزم بحكم الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

الآية رقم (76) - الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا

﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: الّذين يقاتلون في سبيل الله سبحانه وتعالى هم الّذين آمنوا، وقد بيّنا أنّ سبيل الله سبحانه وتعالى هو ردّ الاعتداء عن الأوطان والنّاس، فحرمة الدّم والعرض والمال، هذا هو سبيل الله سبحانه وتعالى، وليس كما يعتقد بعضهم أنّ سبيل الله هو أن تقاتل لتجبر النّاس على دينه سبحانه وتعالى، فالدّين دين اختيارٍ لا إجبارٍ، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29ٍ].

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾: الطّاغوت: من الطّغيان، ويتمثّل فيه الشّيطان، فالكافر يُقاتل عن الشّيطان والطّغيان، وعن البغي وتجاوز الحقوق والاعتداء على حياة النّاس وأموالهم وأعراضهم.

﴿فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ﴾: أولياء الشّيطان الّذين جعلوا ولايتهم له، لكلّ عناصر الشّرّ في هذه الحياة الدّنيا، والشّيطان يمثّل الشّرّ. فهناك مخلوقاتٌ تسمّى الجنّ، والكافر منها يُسمّى شيطاناً، وتحدّثنا سابقاً عن تعريف الجنّ، وقلنا: إنّه ليس كلّ ما لا تراه العيون فهو غيرُ موجودٍ، والأدلّة في الكون واضحةٌ، منها البكتريا والجراثيم و… الّتي لا نراها، لذلك لا نستغرب وجود هذا الأمر علميّاً، فنحن نوقن أنّ الله سبحانه وتعالى طالما قال فقد صدق.

الآية رقم (55) - فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا

بعضهم مؤمنون، وهذا قانون صيانة الاحتمال؛ لأنّ كعب الأحبار وعبد الله بن سلام من اليهود لكنّهم أسلموا وآمنوا وكانوا مع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾: انظر لهذا التّقريع وهذا الوعيد، فهم لم يكتفوا بعدم الإيمان، بل وصدّوا عن رسالة سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلّ ما يجري من جرائم وقتلٍ، هو للصدّ عن هذه الرّسالة، رسالة الرّحمة، وللصّدّ عن سبيل الله، وهذا منذ زمن اليهود في المدينة المنوّرة حتّى هذه اللّحظة، ففي كتاب الله سبحانه وتعالى مساحةٌ واسعةٌ تتعلّق بشعب بني إسرائيل وبموسى عليه السلام، الّذي هو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم، شيخ أنبياء بني إسرائيل. لماذا؟ لأنّنا يجب أن نعلم جميعاً أنّ بلاء الأمم من شعب بني إسرائيل حتّى هذه اللّحظة.

﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾: هو تهديدٌ ووعيدٌ لأولئك الّذين وقفوا في وجه الرّسالات السّماويّة الّتي هي إشعار الخير للبشريّة جمعاء.

الآية رقم (45) - وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا

اليهود كانوا يظهرون الودّ والتّحالف مع المسلمين من خلال دستور المدينة الّذي تمّ وضعه عند دخول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المدينة المنوّرة، وهذا الدّستور احترم أهل الكتاب وكلّ العقائد الأخرى لكن شريطة ألّا يتآمروا مع المشركين، ولكنّهم فعلوا ذلك في غزوة الأحزاب.

﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾: قد يبدو لك أنّه صديقٌ ومحبٌّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى أعلم بمن هو العدوّ.

﴿وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا﴾: كفى بالله تبارك وتعالى وليّاً إن تولّاك، والوليّ هو الّذي يقوم مقامك، ويدافع عنك، وكفى به تبارك وتعالى نصيراً.

الآية رقم (56) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا

يجب أن نتوقّف عند هذه الآية علميّاً، ويجب أن نحلّلها وعندما نزلت هذه الآية كيف كانت العلوم الطّبيعيّة والفيزيائيّة والكيميائيّة والتّشريح المرضيّ؟ وكيف أصبحت؟ القرآن الكريم معجزٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وهو كتاب هدايةٍ للبشريّة، وفيه إشاراتٌ علميّةٌ مكتنزةٌ لا تتصادم مع العقول البشريّة وقت النّزول، وإنّما تستوعب العلم عندما يتطوّر، فلا يوجد تناقضٌ مع العلم، وهذه الآيات تدلّل على ذلك:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾: سيكون مآلهم إلى جهنّم ويصليهم المولى سبحانه وتعالى النّار، لكن لماذا قال سبحانه وتعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾؟ وكأنّ الإشارة القرآنيّة إلى أنّ الألم يأتي للنّفس الواعية من الجلد وليس من المخّ، فعندما يُخدّر المريض يتمّ إجراء العمل الجراحيّ للعضو المصاب دون أن يشعر بالألم؛ لأنّ التّخدير تمّ للنّفس الواعية، فالإحساس بالألم يكون من جرّاء شعيراتٍ حسيّةٍ موجودةٍ في الجلد، هذا ما أثبته العلم، بدليل أنّه في بداية الحقن تشعر بوخزة الألم بسبب تلك الشّعيرات، فالجوارح آلاتٌ توصل الألم للنّفس الواعية

الآية رقم (46) - مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً

﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾: هادوا أي اليهود.

﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾: الكلام الّذي كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقوله، أو الّذي ورد في التّوراة يحرّفون معناه، أو يأتون بكلامٍ ملتبسٍ يحتمل أكثرَ من معنى، فالإنسان الّذي يستخدم دائماً كلماتٍ ملتبسة يصبح أمامه مجالٌ ليقول: أقصد هذا ولا أقصد هذا.

﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾: انظروا لدقّة القرآن الكريم، هل هم قالوا: سمعنا وعصينا؟ لا، قالوا: سمعنا، لكن في قلوبهم قالوا: عصينا، والقائل هنا هو الله سبحانه وتعالى، هذه الآية معجزةٌ! لماذا؟ لأنّه لو كان الّذي يكتب القرآن بشراً فلن يستطيعَ أن يأتي إلّا بالقول الظّاهر المسموع، أمّا القول الباطن فلا يستطيع أحدٌ أن يأتي به إلّا عالم السرّ والخفايا. فقد أخذوا الكلام الّذي يقوله النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا أمامه: سمعنا، ولكن في قلوبهم قالوا: عصينا، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾؛ لأنّه عزَّ وجل يعلم ما في القلب، ولا يمكن لأحدٍ غيره قول هذا.

الآية رقم (57) - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً

عندما تحدّث المولى سبحانه وتعالى عن جهنّم والّذين كفروا قال: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾، بينما عندما تحدّث عن الجنّة قال جلّ وعلا: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾، فاستخدام ﴿سَوْفَ﴾، أي كأنّ هناك وقتاً، أمّا استخدام (السّين) ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ فهذا يعني أنّها قريبةٌ؛ لأنّ الجنّة دائماً تكون قريبةً من المؤمن، بينما يشعر الكافر والّذي يُمارس الشّرور على الأرض بأنّ هناك أمداً طويلاً، وكأنّ الموت لن يطرق بابه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.

﴿جَنَّاتٍ﴾: الجنّة: من جنّ أي ستر، وهي غابةٌ كثيفةٌ من الأشجار تستر ما تحتها من كثافة أغصانها، هذا المعنى اللّغويّ لكلمة الجنّة، وعادةً عندما تُوضع كلمةٌ في اللّغة العربيّة أو في أيّ لغةٍ في العالم اسماً لشيء ما يكون هذا الشّيء معروفاً وموجوداً، ويعيه الإنسان، ولكن عندما توضع العبارة لأمرٍ غيبيٍّ لا يُعرف يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرّعد: من الآية 35]، فمثلاً لو قلت: التّلفاز، ولم يكن قد اختُرع بعد، لا يمكن أن تتصوّر ما هو التّلفاز، وعندما تقول: جنّة فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن الجنّة: «قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ»([1])، طالما فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ

الآية رقم (47) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً

نحن نزّلنا القرآن مصدّقاً لما معكم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى واحدٌ، قال سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ ]الشّورى: من الآية 13[.

﴿آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾: آمنوا بما نزّلنا في القرآن الكريم، مصدّقاً لما معكم.

﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَاً﴾: هنا وعيدٌ وتهديدٌ، نمحي هذه الوجوه فنردّها على أدبارها فتصبح مقلوبةً.

﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾: من هم أصحاب السّبت؟ هم من اليهود -وستأتي آيات تتعلّق بأصحاب السّبت- وقد منعهم الله سبحانه وتعالى من العمل في هذا اليوم، أي يوم السّبت، ليبتليهم بسبب كثرة جحودهم، فكانت حيتانهم تأتي شرّعاً يوم سبتهم من أجل أن يغريهم الله سبحانه وتعالى في يوم راحتهم، فأرادوا أن يحتالوا على شرع الله سبحانه وتعالى فوضعوا أسلاكاً لتحجزَ الأسماك الّتي تأتي يوم السّبت، وفي اليوم التّالي تكون موجودةً فيصطادونها، هذا احتيالٌ على شرع الله سبحانه وتعالى، وكان من الأفضل لهم لو أنّهم التزموا أوامر الله سبحانه وتعالى وصبروا عليها، ولم يصطادوا يوم السّبت لكان الله عزَّ وجلرزقهم يوم الأحد، لكنّهم كانوا بقيّة أيّام الأسبوع لا تأتيهم الأسماك ابتلاءً لهم.

﴿وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً﴾: الله سبحانه وتعالى وحده أمره مفعولٌ، وهو الفعّال لما يريد بمجرد أن أمرَ، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس]، إذاً أمره مفعولٌ ومنتهٍ؛ لأنّه سبحانه وتعالى لا يتغيّر، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11].

الآية رقم (58) - إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا

أمرٌ إلهيٌّ عامٌّ ومطلقٌ أن تؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها، فما هو تعريف الأمانة؟ الأمانة بشكلٍ مبسّطٍ ما يكون لغيرك عندك من حقوقٍ وتستطيع أن تؤدّيها أو لا تؤدّيها، مثلاً: أحدهم وضع عندي أمانةً لم يوثّقها ولم يكتبها ولم يُشهد عليها شهوداً، فهي أصبحت بأمانتي، هذه تسمّى أمانة بين النّاس، أمّا الأمانة الأعظم فهي أمانة الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لأنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب]، ما هي الأمانة الّتي حملها الإنسان؟ هي أمانة الاختيار؛ أي أنّه يستطيع الاختيار بين أن يؤمن وبين ألّا يؤمن، لذلك نقول لكلّ النّاس: إنّ الدّين هو دين اختيارٍ، وهو دين أمانةٍ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا دين لمن لا أمانةَ له»([1])، فأوّل الأمانات الواجبة الأداء وأوّل حقٍّ من حقوق الأمانة هو أمانة اختيار الإيمان، هذه الأمانة الّتي تحدّث الله سبحانه وتعالى عنها بأنّ الجبال والسّماواتِ والأرض رفضت إلّا أن تأتي طائعةً من دون اختيار، أمّا الإنسان فقد حمل هذه الأمانة، فله الحريّة في أن يختار الإيمان أو الكفر، بدليل أنّ آياتٍ أخرى تقول: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29[، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: من الآية 256]، لماذا؟ لأنّه أمانة، هذه الأمانة الّتي عرضها الله سبحانه وتعالى على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنّه كان ظلوماً جهولاً.

الآية رقم (48) - إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا

هذه الآية من الآيات الثّماني الّتي ذكرها عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه، وذكرناها سابقاً.

يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «من قال: لا إله إلّا الله دخل الجنّة»([1])، انظر لعظمة هذا الدّين، فلا يجعل أحدٌ من نفسه قاضيّاً على النّاس ويقول لهذا: أنت كافرٌ، ولهذا: أنت ستدخل الجنّة، ولهذا: أنت إلى النّار…

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾؛ لأنّ قمّة العقيدة قول: لا إله إلّا الله.

﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾: يجب على الإنسان ألّا يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى مهما فعل من الذّنوب، ومهما ارتكب من الآثام والمعاصي، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزّمر]، فالله سبحانه وتعالى قريبٌ يُجيب دعوة الداعي، لكنّ المهمّ أن يعزم الإنسان على ألّا يعود لمقارفة الإثم، فقد قال أبو الأسود الدّيلي: إنّ أبا ذرّ رضي الله عنه حدّثه قال: أتيت النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائمٌ، ثمّ أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبدٍ قال: لا إله إلّا الله ثمّ مات على ذلك إلّا دخل الجنّة»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرّ»، وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذرّ([2])

الآية رقم (59) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾: نحن الآن أمام حكمٍ وأمام فرضٍ من الله سبحانه وتعالى، الـمُخاطب في هذا الأمر المؤمن، وأيُّ حكمٍ يصدر في الدّنيا يكون له حيثيّات، والحيثيّات تأتي تبعاً أو بعد الحكم، أمّا بالنّسبة للحكم الشّرعيّ والحكم الإلهيّ فإنّ الحيثيّات هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، طالما أنّك آمنت بالله سبحانه وتعالى فأنت مطالبٌ بأنّ تطيع، لم يقل: يا أيّها النّاس، هنا المأمور بالطّاعة لله وللرّسول ولأولي الأمر هم الّذين آمنوا، والّذين ربط بينهم وبين ربّهم ميثاقٌ وعهدٌ هو عهد الإيمان بالله سبحانه وتعالى، علمنا العلّة أم لم نعلم، فهذا بالنّسبة لنا إيمانُ الطّاعة، قد يقول قائلٌ: ما هي العلّة أو ما هي الحكمة بأنّ تكون صلاة الظّهر أربع ركعاتٍ، بينما صلاة المغرب ثلاث ركعاتٍ فقط؟ عندما تسأل عن العلّة أو هذه الحكمة في الأمور التّعبديّة، أو في الأمور الشّرعيّة فهناك الكثير من الأمور بيّن الله سبحانه وتعالى فيها الحكمة والعلّة بالنّسبة للإنسان، وأغمض أموراً أخرى حتّى تكون الطّاعة إيماناً، وحتّى يكون التّنفيذ تعبّداً لله سبحانه وتعالى، فأنا أنفّذ أمر الآمر طاعةً للآمر، علمت الحكمة أم لم أعلم، ومن المفيد أن أعلم الحكمة، لكن إن لم أعلم الحكمة فيكفي بأنّني أطيع لأنّني آمنت، وعلّة الإيمان تتعلّق بالعقل وليست بالطّاعة، الأمر دقيقٌ، طالما أنّك آمنت فهذا الحكم من الله سبحانه وتعالى، أمّا عندما تريد أن تؤمن بالله سبحانه وتعالى فأنت حرٌّ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29]

الآية رقم (49) - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً

وهذه آيةٌ عامّةٌ لكلّ النّاس، وليست فقط لليهود والمنافقين الّذين كانوا في المدينة المنوّرة، فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيّه الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم بألّا تزكّوا أنفسكم، ويجب على الإنسان ألّا يُعجبَ بنفسه وبعمله ويزكّي نفسه، ويتألّى على الله بأنّي فعلت هذا وفعلت ذلك، أنت لم تفعل لله سبحانه وتعالى، فصيامك وصلاتك وصدقتك لا تزيد من ملك الله سبحانه وتعالى ولا تنقص من مُلكه شيئاً، والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسيّ: «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([1])، فلا يزكّي أحدٌ نفسه على الله سبحانه وتعالى ويتألّى عليه، وهناك دائماً أعمالٌ خالصةٌ لوجه الله تبارك وتعالى، فلنكثر من الأعمال الّتي تزكّينا عند ربّنا سبحانه وتعالى ولا نزكّي أنفسنا أمام النّاس ونعمل العمل ليقال عنّا: قد فعلنا كذا.

﴿بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾: الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق، ولا يظلم إنساناً شيئاً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ () وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾  [الزّلزلة].

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

الآية رقم (60) - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾: الزّعم: هو مطيّة الكذب.

ما هو سبب نزول هذه الآية؟ هذه الآيات تتعلّق باليهود، فقد كان في مجتمع المدينة المنوّرة المنافقون والمشركون واليهود والمسلمون، والمنافقون كانوا يزعمون أنّهم آمنوا، والإيمان لم يدخل قلوبهم.

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾: من الكتب السّابقة.

﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾: الطّاغوت: هو مبالغةٌ من الطّغيان والظّلم وتجاوز الحدّ، وتطلق هذه الكلمة دائماً على عمل الشّرِّ وعمل الشّيطانِ والأمور الّتي فيها تجاوزٌ على حقوق النّاس، والطّاغوت مفرد ومثنى.

الآية رقم (50) - انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا

هؤلاء الّذين يفترون ويكذبون على الله سبحانه وتعالى هم اليهود والمنافقون.

الإثم المبين: أنّهم كانوا يكذّبون ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ويحرّفون أوامر الله عزَّ وجل، ويكذّبون ويبدّلون ويحرّفون في آياته سبحانه وتعالى، وهذا إثمٌ عظيمٌ ومبينٌ.

الآية رقم (61) - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا

كلمة ﴿تَعَالَوْاْ﴾جاءت من أنّك عندما تطبّق ما أمر به الله سبحانه وتعالى ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنت ترتفع إلى الأعلى.

﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾: المنافقون يُعرفون بسرعةٍ، فهم يبتعدون عنك ويصدّونك عن إعطاء الحكم والنّتيجة؛ لأنّهم يعرفون أنّك لن تحيد قيد أنملةٍ عن الحقّ والعدل، حتّى لو كان هذا العدل يتعلّق بخلافٍ بين مسلمٍ ويهوديٍّ، فإن كان الحقّ مع اليهوديّ ينصره، وإن كان بين مسلمٍ ومشركٍ والحقّ مع المشرك يأخذ له هذا الحقّ، هذا هو عدل الإسلام كما أمر الله سبحانه وتعالى، لذلك إذا قيل لهم: ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾؛ لأنّ حكم الله سبحانه وتعالى يبيّنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾: والحقيقة بأنّ المنافقين في أيّ مجتمعٍ من المجتمعات هم آفةٌ خطرةٌ، وأكثر الآيات في القرآن الكريم جاءت بحقّ المنافقين؛ لأنّ العدوّ الظّاهر أثره يبقى أقلّ من المخفيّ الّذي يُبدي شيئاً ويكتم شيئاً آخر، يُبدي الإيمان ويُبطن الشّرك، يُبدي الصّداقة ويكتم العداوة، يُبدي الحقّ ويكتم الباطل، يُبدي العدل ويكتم الظّلم، فالنّفاق هو داءٌ عضالٌ خطرٌ يصيب المجتمعات إصابةً مباشرةً، وهو أخطر من العدوّ الظّاهر؛ لأنّه يتسلّل داخل الجسد.

الآية رقم (51) - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ﴾: القرآن الكريم يتحدّث عن اليهود، وما فعلوه وما تآمروا عليه عبر تاريخهم وزمانهم، ويخبرنا عن حقدهم على دعوة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى الخير لكلّ البشر، فهم ناصبوا السّيّد المسيح عليه السلام العداء، كما ناصبوا الرّسول محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وكلّ دعوات الخير العداء كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ ]المائدة[، العلّة دائماً هي العدوان والمعصيّة، وهذا هو سلوك اليهود منذ بدء البعثة المحمّديّة، وأكثر التّآمر الّذي حدث في تاريخ هذه الأمّة، والّذي مزّق أوصالها إنّما هو من فعل اليهود منذ الفترات الأولى، وقد أوضح القرآن الكريم هذه الأمور ورصدها، ونحن هنا نتحدّث عن دينٍ، وليس عن وقائعَ سياسيّةٍ أو تاريخيّةٍ؛ وإنّما هو دينٌ يُدان به، وعقيدةٌ نؤمن بها، فهم الّذين اعتدوا وهم الّذين نكثوا كلّ العهود والمواثيق مع سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾: ومع أنّهم يُعدّون مؤمنين بالله سبحانه وتعالى ؛ لأنّهم أهل كتابٍ سماويٍّ، إلّا أنّهم كانوا يتحاكمون إلى التّماثيل والأصنام الّتي كانت تؤمن بها قريش؛ مسايرةً لهم، ومن أجل الحرب على سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

الآية رقم (62) - فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا

هذه الآيات تتعلّق بالمنافقين: والنّفاق كما قلنا: هو من أخطر الأدواء الّتي تصيب أيّ مجتمعٍ من المجتمعات، وتُهدِّد بنيان المجتمعات السّليمة، لكون المنافق عدوّاً باطناً غير ظاهرٍ بالنّسبة للإنسان، يسير ويميل حيث يميل هواه، وحيث تتحقّق مصلحته، فهو دائماً يقدّم المصالح على المبادئ، والمصالح الخاصّة على المصالح العامّة، ونحن نرى أثر النّفاق في أيّ مجتمعٍ من المجتمعات كيف ينخر بنيان المجتمع، ويغيّر الحقائق أمام النّاس؛ لأنّ المنافق لا يقول الحقيقة، وأوّل صفةٍ من صفاته هي الكذب، وهو من الأمور الّتي حرّمها الله سبحانه وتعالى، وقد بيّن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنّه لا يجتمع في قلب المؤمن الكذب مع الإيمان.

الآية رقم (52) - أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا

أولئك هم المشركون من قريش ومن الجزيرة العربيّة ومن اليهود الّذين لعنهم الله سبحانه وتعالى، ولعنته عزَّ وجلتعني الطّرد من رحمته سبحانه وتعالى والخزي والإهلاك.

﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ﴾: أخزاهم الله سبحانه وتعالى وطردهم من رحمته بمعصيّتهم واعتدائهم على النّاس وكذبهم على التّوراة وتحريفهم لها، وإشعال نيران الحروب الّتي أطفأها الله تبارك وتعالى من جرّاء حقدهم على رسالة سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن ثمّ على العرب جميعاً.

﴿وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى إذا طرد أحداً من رحمته وأخذه بذنوبه فلن يستطيع أحدٌ الوقوف في وجه قدرة الله سبحانه وتعالى.

متى يكون الوقوف في وجه القدرة؟ عندما تكون القدرة بشريّةً، يمكن أن تستعين بأحدٍ عليها، أمّا إن كانت القدرة إلهيّةً فمن يلعنه الله سبحانه وتعالى ويطرده من رحمته ويخزيه فلن تجد له نصيراً.

الآية رقم (63) - أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا

بالنّسبة لله سبحانه وتعالى هم مكشوفون وواضحون، أمّا بالنّسبة للنّاس والمجتمع فلا يمكن تحديد المنافق من غير المنافق، فهناك صفاتٌ ومعايير معيّنةٌ تنطبق على النّفاق، لكنّه قد لا يكون واضحاً ولا يكتشف الإنسان في مجتمعه من هو المنافق ومن هو الصّادق، من هو الأمين ومن هو الخائن، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّها ستأتي على النّاس سنون خدّاعة، يصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصّادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرّويبضة»، قيل: وما الرّويبضة؟ قال: «السّفيه يتكلّم في أمر العامّة»([1])، فالنّفاق خطرٌ دائمٌ في البنيان الاجتماعيّ في أيّ وطنٍ من الأوطان، ولكن متى بدأت حركة النّفاق في المجتمع الإيمانيّ؟ عندما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والّذين معه مضطهدين من قِبَل المشركين في مكّة لم يوجد داءٌ اسمه النّفاق، لماذا ستنافق للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين وهم يتعرّضون للعذاب والاضطهاد، كما جرى مع سيّدنا بلال رضي الله عنه وغيره من الصّحابة الكرام، وكذلك الحصار في شعب أبي طالب؟! ولكن حركة النّفاق بدأت عندما انتصر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأصبحت شوكة المسلمين قويّةً في المدينة المنوّرة، فكان المنافقون إذا أصابتهم مصيبةٌ أو تعرّضت مصالحهم للإيذاء بما قدّمت أيديهم؛ أي من جرّاء نفاقهم وكذبهم، يأتون إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحلفون بالله سبحانه وتعالى ويدّعون غير الحقائق. لكن لا يمكن لأحدٍ أن يمحّص ويقول: هذا منافقٌ وهذا غير منافقٍ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى لو أمر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخبر كلَّ منافقٍ بأنّه منافقٌ لاتّبع النّاس هذه السّنّة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولشكّك بعضهم ببعض، ولأصبح كلّ إنسانٍ يتهمّ الآخر بأنّه منافقٌ.