﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾: هذه جملة خبريّة، نزلت بأُحُد لكنّ كلام القرآن يستوعب الزّمان والمكان، يقول سهل بن سعد: شهدت النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين كُسِرَت رباعيته وجرح وجهه وهشّمت البيضة على رأسه، وإنّي لأعرف من يغسل الدّم عن وجهه، ومن ينقل عليه الماء، وماذا جعل على جرحه حتّى رقأ الدّم، كانت فاطمة بنت محمّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تغسل الدّم عن وجهه، وعليّ رضي الله عنه ينقل الماء إليها في مجنّة، فلمّا غسلت الدّم عن وجه أبيها أحرقت حصيراً حتّى اذا صارت رماداً أخذت من ذلك الرّماد فوضعته على وجهه حتّى رقأ الدّم ثمّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم يومئذ: «اشتدّ غضب الله على قوم كَلَموا وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم »، ثمّ مكث ساعة ثمّ قال: «اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»([1])
حزب: 7
الآية رقم (158) - وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
في الآية السّابقة قدّم القتل على الموت، وهنا قدّم الموت على القتل، وفي القرآن الكريم كلّ كلمة لها حكمة، ولها معنى، ولها قصد، ففي الآية السّابقة كان الحديث عن المآل وعن النّتيجة، وهنا الحديث عن القاعدة العامّة لكلّ النّاس، من مات منهم ومن استشهد، ولكن أيّهما الأكثر حدوثاً، الموت أم القتل؟ كم من المليارات من البشر ماتت حتّى الآن؟ إذاً الموت هو القاعدة العامّة، لذلك قدّمه على القتل: ﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾.
﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾: تغيّر هنا تذييل الآية عن الآية السّابقة، فلم يقل مغفرة ورحمة، بل ذكر المآل أي المستقرّ النّهائيّ، فأنت تتصوّر رحمات الله وعطاء الله ورضوان الله ومغفرة الله، وتتصوّر أيضاً غضب الله وعقابه؛ لأنّ المرء سيُحشر إلى الله سبحانه وتعالى.
الآية رقم (157) - وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: هذا قانون عامّ، الّذي قُتل دون أرضه ودون وطنه ودون عرضه ودون ماله فهو شهيد.
﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ﴾: فمغفرة الله سبحانه وتعالى أهمّ وأعظم من البقاء في الدّنيا وحطامها الفاني، ورحمة الله سبحانه وتعالى خيرٌ أيضاً فهي تشمل من استشهد بأن تجعله حيّاً عند ربّه يُرزق كما قال سبحانه وتعالى، فهذا سلوان لقلوب أسر الشّهداء.
الآية رقم (156) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
كان المنافقون يقولون: لو بقيتم عندنا لما أصابكم ضرّ.
﴿ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ﴾: كانوا في سفرٍ للتّجارة ونحوها.
﴿لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ﴾: إذاً هم يعلّقون الموت والحياة بالأسباب، والموت يتعلّق بالأجل ولا يتعلّق بالسّبب، لكن عليك أن تأخذ بالسّبب، فلا تلقي بنفسك أمام القطار، ولا ترمي بنفسك من على سطح البناء.
﴿لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾: فهم لا يؤمنون أنّ الموت والحياة بيد الله وليس بيد الأسباب، إذاً الاعتقاد أنّ السّبب هو الّذي يميت هو الّذي يجعلهم في حسرة على موتاهم، يجب أن تعتقد أيّها المؤمن أنّ الأجل انتهى فعندها يكون الصّبر مجيراً، وتقبّل الألم يكون ممكناً كما أراد الله سبحانه وتعالى.
الآية رقم (155) - إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾: أي هربوا من المعركة ونزلوا من الجبل وأرادوا الدّنيا عوضاً عن الآخرة.
﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾: الشّيطان ليس له سلطان، لكن عندما يقع الإنسان بزلل يراه الشّيطان ضعيفاً من هذا الجانب فيوسوس له إذا ترك ذكر الله، وفي آية أخرى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم]، إذاً لا يتحجّجنّ أحد بالشّيطان، إنّما يتحجّج في وقوعه في الخطأ، ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾: من كسبهم جاء إليهم الشّيطان وأوقعهم في ذلك.
﴿وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ﴾: فالله سبحانه وتعالى عفا عنهم، والتّوبة مرجاة للكفّ عن الخطأ، وأكبر حركة إصلاح في المجتمع عنوانها التّوبة، فعندما يتوب الإنسان يعزم على أن لا يعود إلى ما ارتكبه من كلّ شيء سيّء؛ لأنّ الإسلام توجّهٌ إلى كلّ عناصر الخير على الدّوام، فباب التّوبة مفتوح.
﴿إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾: الله سبحانه وتعالى يغفر لكن هنا بالحلم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى حليم بهذا الإنسان عندما يقع في عثرة، فعندما خالف الرّماة الأمر وتطلّعوا إلى الغنائم غفر الله سبحانه وتعالى لهم بحلمه.
الآية رقم (170) - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
﴿فَرِحِينَ﴾ لماذا يذكر حالة الفرح الّتي تلفّهم؟ لأنّ أجواء الحزن تلفّ بأسر الشّهداء والذين قدّموا أنفسهم ودماءهم وأرواحهم، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يطمئن أسر وأحباب الشّهداء ويقول لهم: إنّ شهداءهم فرحون فلماذا يحزنون أهلوهم؟ ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ قال: من فضله، ولم يقل من عدله، فالفضل هو الزّيادة عن العدل، العدل أن توفّى على قدر العمل كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء]، هذا العدل، أمّا الفضل فهو زيادة عمّا يستحقّ الإنسان، فأيّ تكريم هذا للذي قدّم نفسه وروحه ودمه فداء لوطنه ولدينه ولمقدّساته ولعرضه ولماله، لا يوجد بعد هذا التّعبير القرآنيّ ما يُسلّي قلوب المكلومين بشهدائهم أكثر من هذه الآية: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾، ولم يكتف بذلك بل قال﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾: البِشْر من الفرح، وهو مأخوذ من البشرة، فعندما يفرح الإنسان تُشرق بشرته.
﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾: الحزن يكون على ما وقع، فالذين من ورائهم أي من خلفهم من المؤمنين إمّا أن يكونوا خائفين من هذا المصير، أي القتل والشّهادة، وإمّا أن يكونوا قد حزنوا على فقدان الأحبّة.
الآية رقم (154) - ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا﴾: المغموم لا يقدر أن ينام، فأنزل الله سبحانه وتعالى نعاساً جعله أماناً لهم.
كلمة ﴿أَنزَلَ﴾ أي نزل من السّماء، وليس بالسّبب المعتاد الّذي هو النّعاس، أمّا ذلك فكان بأمر إلهيّ أنزله الله سبحانه وتعالى لطفاً ورأفة بهم.
﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: هؤلاء الّذين اتّبعوا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النّفاق، وأصبحوا ضمن دائرة المنافقين.
﴿وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾: لا تهمّهم إلّا نفوسهم.
﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: والله سبحانه وتعالى هو الحقّ وأنزل القرآن بالحقّ، والحقّ: هو الشّيء الثّابت، منهم مَن قال: وعدنا الله سبحانه وتعالى بالنّصر وانهزمنا، وعادوا إلى أسلوب التّفكير الجاهليّ.
الآية رقم (169) - وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾: الحساب في الأصل هو العدّ، والمقصود هنا أنّ الحسابات البشريّة حسابات خاطئة فيما يتعلّق بالشّهداء الّذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل الدّين والعرض والمقدّسات.
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا﴾: إيّاكم أن تعتقدوا أنّ الّذين قتلوا في سبيل الله أموات، نفى الله صفة الموت عن الشّهداء بينما قال في كثير من الآيات: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: من الآية 185]
الآية رقم (153) - إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
الدّرس الّذي يعلّم النّصر في الأمر الكبير لا يُعتبر هزيمة في الأمر الصّغير، الّذي حدث شيء صغير لكنّ هذا الدّرس يعلّم النّصر الدّائم.
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾: تُصعدون وتَصعدون، ما الفارق؟ تَصعدون أي هناك مرتفع تصعدونه، أمّا تُصعدون فيعني الأرض مستوية سهلة تُصعدون فيها، أي تذهبون فيها.
﴿وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ﴾: أي لا تلتفتون؛ لأنّكم خائفون ومسرعون.
﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾: النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يهدّئ من روعهم ويدعو الّذين فرّوا في غزوة أُحُد.
الآية رقم (168) - الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
الآن يعالج القرآن الكريم موضوعاً من أخطر المواضيع وهو موضوع النّفاق داخل المجتمع، ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، المنافقون يحرّضون المسلمين الّذين عادوا من غزوة أُحُد ويشكّكون في أوامر الله سبحانه وتعالى وفي قضائه وفي كلّ ما حدث في غزوة أُحُد قائلين لو أطاعونا ما أصابهم القتل. فهم قعدوا وتخلّفوا عن جيش المسلمين قبل أن يقولوا: لو أطاعونا ما قتلوا، انظروا إلى الجواب الإلهيّ إلى أين نقلهم: ﴿قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فالذي يعرف طريق السّلامة من القتل فليرنا طريق السّلامة من الموت، فالله يتحدّاهم أنّ الإنسان لا يموت إلّا بأجله، لكنّ أشرف الموت أن يُقتَل الإنسان شهيداً في سبيل الله سبحانه وتعالى.
الآية رقم (152) - وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى أنّه سيلقي في قلوب الكفّار الرّعب بدأ الآن يتحدّث عن الصّحابة رضوان الله عليهم الّذين عاشوا هذه الواقعة:
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ﴾: المعركة كان فيها انتصار في بدايتها، والدّليل أنّ الرّماة تركوا مواقعهم ليأخذوا الغنائم واعتبروا أنّ الحرب انتهت، إذاً في بداية الأمر صدقكم الله وعده ونصركم؛ لأنّه قال عز وجل: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُم﴾ أي: تقتلونهم قتلاً ذريعاً، وتستأصلونهم، ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بأمره.
﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾: أي بعد ما رأيتم النّصر.
﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾: ترك أوامر النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وذهب إلى الغنيمة.
الآية رقم (167) - وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
ألا يعلم الله سبحانه وتعالى؟ طبعاً هو يعلم، انظروا قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ثمّ: ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ﴾، إذاً في غزوة أُحُد بعد أن حدث هذا الانكسار وانخذل قسم مع المنافقين، وقسم لم يستجب والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوهم في أخراهم، إذاً هذا علم حجّة عليكم، الله سبحانه وتعالى يعلم سابقاً هذا الأمر لكنّه ربط السّبب بالمسبّبات، وأعطى الأوامر وترك الخيار للإنسان، والله سبحانه وتعالى يعلم سابقاً ماذا ستختار، فهو يحاسبك على اختيارك لا يحاسبك على علمه؛ لأنّ علمه من قيوميّته ومن صفاته الّتي لا يحيط بها العقل البشريّ، فلا يستطيع عقل مخلوق أن يُحيط بمن خلقه وبصفات مَن خلقه، ومهما توصّل العقل إلى علوم فلن يستطيع أن يعرف كيفيّة علم الله سبحانه وتعالى، وماهية حكمته، ومدى قدرته إلّا ما أخبر الله عنه، مستحضراً دوماً قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11].
﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ﴾: في البدء عندما انخذل عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث الجيش عندما قيل لهم: تعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا الهجوم عن بيوتكم في المدينة المنوّرة، قالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ لكنّ الله تعالى يعلم السّرّ وأخفى، فأخرج ما في أنفسهم وأظهره لنا كأنّهم قالوه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾، فهم يعلمون تماماً أنّ القتال حاصلٌ.
الآية رقم (151) - سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
﴿سَنُلْقِي﴾: الإلقاء يُستخدم للأمر المادّيّ وليس الأمر المعنويّ، والرّعب أمرٌ معنويّ، فهل يوجد رعب تمسكه وتلقيه؟ لكنّ الله تبارك وتعالى استخدم هذه الكلمة حتّى يطمئن الصّحابة بعد ما حدث من خسائر في غزوة أُحُد، فيقول لهم: سأجمع الرّعب من كلّ الاتّجاهات وألقيه في قلوب المشركين.
﴿بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾: السّلطان إمّا أن يكون سلطان القوّة، وإمّا أن يكون سلطان الحجّة والدّليل والبرهان، فهم ليس لديهم سلطان أي حجّة ليثبتوا به الإشراك بالله، وسيبقون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهم في خوف دائم من كلمة التّوحيد.
والإشراك بالله أن تعتقد أنّ هناك مَن يضرّ وينفع ويعطي ويمنع ويصل ويقطع ويخفض ويرفع ويعزّ ويذلّ ويحيي ويميت غير الله.
﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾: أي سيكون مصيرهم إلى النّار.
﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾: المثوى: هو المنقلب الأخير للإنسان، لماذا سمّاهم ﴿الظَّالِمِينَ﴾؟ لأنّ الظّلم الأشدّ هو أن تظلم نفسك، فكيف يظلم الإنسان نفسه؟ عندما يقدّم لها شهوة عاجلة مؤقّتة ويبعد عنها نعيماً دائماً، عندما تبغي وتكذب وترتشي وتفعل المنكرات تكون قد قدّمت شهوة عاجلة تنتهي وتبقى في حرمان المعصيّة إلى أن تصل إلى النّار، فإذاً أنت ظالم لنفسك ولغيرك في الوقت نفسه.
الآية رقم (166) - وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
وما أصابكم يوم التقى الجمعان -أي يوم أُحُد- فبإذن الله، حتّى لا يقول إنسان: إنّ شيئاً بملك الله يجري خارج إرادته جل جلاله، لكنّه قال:
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران]، بعد ذلك قال لنا: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ﴾، أي أنّكم خالفتم أمر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، فكان ما حدث من أنفسكم، وهو بأمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه ضمن قضاء الله لا يخرج الأمر عن قضائه.
الآية رقم (150) - بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
عندما أخذ أبو سفيان يرتجز بعد غزوة أُحُد: اعل هُبل، اعل هُبل، قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ألا تجيبونه»، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ»، قال أبو سفيان: إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ألا تجيبونه»، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»([1])، هنا الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ﴾ أي هو الّذي يتولّاكم ويعينكم.
﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾: فالإنسان يمكن أن ينتصر بعوامل عديدة، كمساندة إنسان آخر، لكن خير النّاصرين هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه هو الوحيد القادر على أن يقلب الخُسران إلى نجاح وانتصار، كما قلب الخسارة الّتي حدثت في غزوة أُحُد إلى نصر للمسلمين تبيّنت لهم حقائقه بعد فترة من الزّمن.
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الجهاد والسّير، باب ما يكره من التّنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، الحديث رقم (2874).
الآية رقم (165) - أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
﴿قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا﴾: أي أنتم أصبتم في غزوة بدر وانتصرتم.
﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾: قلتم: كيف هذا؟
﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾: ربط الإسلام الأسباب بالمسبّبات، فقد خالف الرّماة خطّة الحرب ولم يأخذوا بالأسباب، فالخسارة إذاً من عند أنفسهم.
﴿إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: هو قدير أن ينصركم بعد ذلك، وهو قدير أن يُذيقكم نكسة تنتصرون بعدها.
الآية رقم (149) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ
لماذا؟ لأنّ المشركين في ذلك الوقت كانوا يقولون للمسلمين: هل رأيتم الهزيمة الّتي وقعت في أُحُد؟! عودوا معنا إلى ما كنتم عليه، فأجاب الله: إن استجبتم لهم يعيدوكم إلى الجاهليّة فتنقلبوا بخسارة الدّنيا والآخرة.
الآية رقم (164) - لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
ستّ مسائل منّ الله سبحانه وتعالى علينا بها:
– الأولى: ما جاءت به الآية: ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾ فقد منّ علينا بالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف سيكون مكان رسولنا عندنا؟ هذا سؤالٌ للمتشدّدين الّذين ينهون عن مناداته بـ (سيّدنا)، والذين يرفضون الصّلاة عليه عقب الأذان، سنقول سيّدنا رسول الله شاء من شاء وأبى من أبى، وسنصلّي عليه بعد الأذان وخارج الأذان وفي كلّ وقت، صلّى الله عليه وسلّم تسليماً كثيراً، أعجب ذلك الوهّابيّة أم لم يعجبهم، هذا أمر لا يعنينا، يعنينا أن نتّبع القرآن في حبّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ما هو تعريف الأذان؟ هو إعلام بدخول الوقت، وهو سنّة مؤكّدة عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتوقير سنّته ولا سيما في مسألة الأذان، ونحن نلتزم بسنّة النّبيّ كما علّمه لسيّدنا بلال. والصّحابة الكرام كان الرّسول بين أظهرهم وكانوا يصلّون عليه كلّما رأوه صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى كما أمرهم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب]، فإن جهر المؤذّن بالصّلاة على سيّدنا رسول الله أليس هذا أمر حسن؟ أليس يليق هذا بمن تمنّ به الآيات على المؤمنين؟
الآية رقم (148) - فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
لماذا لم يقل: حسن ثواب الدّنيا وحسن ثواب الآخرة؟ لأنّ الدّنيا ليس فيها شيء تقوّمه على أنّه حسن، الحسن هو الّذي يبقى، فالله سبحانه وتعالى يعطيك ثواب الدّنيا ولكن هذا العطاء لا يبقى، يعطيك من الدّنيا الصّحّة والقوّة… لكنّها غير دائمة، أمّا عندما يتكلّم عن الآخرة فإنّه يقول: حسن ثواب الآخرة، ليلفت نظرك إلى الخالد الدّائم.
﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾: المحسن هو الّذي يحسن للفقراء ويعطيهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذّاريات].
الآية رقم (163) - هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
درجات للّذين اتّبعوا رضوان الله، وليس دركات؛ لأنّ الدّرجات ترتفع في الجنان، والدّركات تنخفض إلى قعر الجحيم، إذاً هناك درجات في الجنّات وليست درجة واحدة.