الآية رقم (1) - يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
يُخاطِب الحقّ تعالى نبيّه وحبيبه محمّداً ﷺ ليقرّبه إليه أكثر، ويطلب منه أن يقوم من اللّيل متهجِّداً عابداً متقرِّباً إليه تعالى، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾[الإسراء]، فالهجود هو النّوم، وتهجَّد؛ أي: أزاح النّوم والهجودَ عن نفسه، وهو خصوصيّة لرسول الله ﷺ وزيادة على ما فرض على أمّته أن يتهجّد لله عز وجل في اللّيل، وإن كانت فرضاً عليه، إلّا أنّها ليست في قالبٍ من حديد، بل له ﷺ مساحة من الحريّة في هذه العبادة، المهمّ أن يقوم لله تعالى جزءاً من اللّيل، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾[الفرقان]، فحين يأوي الإنسان إلى بيته بعد عناء اليوم وسعيه يتذكّر نِعَم الله عز وجل الّتي تجلّت عليه في ذلك اليوم، وهي نِعَم ليست ذاتيّة فيه، وإنّما موهوبة له من الله تعالى، لذلك يتوجّه إليه تعالى بالشّكر عليها فيبيت لله تعالى ساجداً وقائماً، وليس المراد قيام اللّيل كلّه، إنّما جزءٌ منه، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: “مَنْ صلّى بعد العشاء ركعتين فأكثر كان كـمَنْ بات لله ساجداً وقائماً”.
﴿الْمُزَّمِّلُ﴾: أصله المتزمّل، وهو الّذي تزمَّل في ثيابه؛ أي: تلفّف، وقد كان النّبيّ ﷺ يتزمّل في ثيابه أوّل ما جاءه جبريل عليه السلام فَرَقاً منه، فكان يقول: زمّلوني، زمّلوني، حتّى أنس به.
والمزّمّل أيضاً حامل النّبوّة، والمعنى زملتَ هذا الأمر فقُمْ به واحمله، فإنّه أمرٌ عظيم.
ويُروى في سبب نزول هذه السّورة أنّ قريشاً اجتمعت في دار النّدوة تكيد لرسول الله ﷺ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فاغتمّ له والتفّ بثيابه وتزمّل ونام مهموماً، فجاءه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، كأنّ الحقّ تعالى يقول لنبيّه ﷺ: لا تغتمّ ولا تحزن، فراحتك في قُرْبِك منّي، قُمْ بين يديّ يذهب عنك ما تشعر من ألم من قومك، لذلك كان رسول الله ﷺ يقول دائماً لبلال رضي الله عنه: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»([1])، فالصّلاة راحةٌ لقلبه ونفسه وروحه من تعب وشقاء الحياة وأكدارها، فمن حبّه لله عز وجل أصبحت طاعته تعالى وعبادته مرغوبة مُحبّبة إلى النّفس، وهناك أناس ألفوا وعشقوا الرّاحة بالصّلاة حينما يحزبهم ويشتدّ عليهم أمرٌ خارجٌ عن نطاق أسبابهم، فعشق التّكليف يدلّ على أنّك ذقت حلاوة الطّاعة.
([1]) سنن أبي داود: كِتَاب الْأَدَبِ، بَابٌ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ، الحديث رقم (4985).
الآية رقم (1) - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا
جعل الحقّ تعالى سورة للجنّ أسماها سورة الجنّ، كما جعل سورة للإنسان أسماها سورة الإنسان، وهناك سورة فاطر أسماها بعض العلماء سورة الملائكة، لمناسبة قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فاطر]، فَخَلْق الله عز وجل الّذي قدَّر أن يسكن الأرض والسّماء هم الإنس والجنّ والملائكة، ولكلّ خَلْقٍ من خلقه تعالى صفات تميّزه عن الخَلْق الآخرين، فالإنس إنسٌ؛ لأنّهم مرئيّون بالنّسبة إلى الجنّ والملائكة، أمّا الجنّ والملائكة فهم غير مرئيّين للإنس، يقول تعالى عن الجنّ: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ [الأعراف: من الآية 27]، فالجنّ مستورٌ عنّا، ومثله من المادّة اللّغويّة نفسها الجنين الّذي لا نراه، ومنه الجنّة؛ لأنّها تستر الشّخص عن أعين النّاس، والجنّ يمتاز بخفّة الحركة وسرعتها، وفيهم المؤمن والكافر، والمؤمنون من الجنّ فيهم الطّائع والعاصي، والشّياطين هم مردة الجنّ المتمرّدون على منهج الله عز وجل، وكلّ متمرّدٍ على منهج الله تعالى نسمّيه شيطاناً، سواء كان من الجنّ أم من الإنس، والجنّ أمّةٌ من الأمم مُطَالبون برسالات الله تعالى إلى البشر، وليس منهم أنبياء ولا رسل.
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾: أي: قل يا محمّد أنّه قد أوحي إليك، والوحي لرسول الله يأتي عن طريق جبريل عليه السلام فهو أمين الوحي.
﴿أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾: مادة (سمع) منها: سمع واستمع وتسمّع، (سمع)؛ أي: مصادفة، وأنت تسير في الطّريق تسمع كلاماً كثيراً، منه ما يهمّك ومنه ما لا يهمّك، فليس على الأذن حجاب يمنع السّمع، كالجفن للعين، فأنت تسمع ما يصل إلى أذنك كلّه، فليس لك فيه خيار، أمّا ﴿اسْتَمَعَ﴾ تعني أن تتكلّف السّماع، والمتكلّم حرٌّ في أن يتكلّم أو لا يتكلّم، وتسمّع؛ أي: تكلّف أشدّ التّكلّف لكي يسمع، ومعنى ﴿اسْتَمَعَ﴾ ؛ أي: جنّد جوارحه كلّها، وهيّأ حواسّه كلّها أن يسمع، فإن كانت الأذن للسّمع فهناك حواسٌّ أخرى يمكن أن تشغلها عن الانتباه، فالعين تُبصِر والأنف يشمّ واللّسان يتكلّم.
فهؤلاء النّفر من الجنّ عندما سمعوا القرآن الكريم من فم رسول الله ﷺ أعطوه آذانهم وحواسّهم فأصبح سماعهم استماعاً، واتّجهوا بكلّيّتهم لسماع القرآن الكريم من رسول الله ﷺ، وقد حدث أنّ رسول الله ﷺ انطلق في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السّماء، وأُرسِلَت عليهم الشّهب، فرجعت الشّياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السّماء وأُرسِلَت علينا الشّهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السّماء إلّا شيءٌ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء؟ فانصرف أولئك الّذين توجّهوا نحو تهامة إلى النّبيّ ﷺ وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن الكريم استمعوا له، فقالوا: هذا والله الّذي حال بينكم وبين خبر السّماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، وقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾، فأنزل الله عز وجل على نبيّه ﷺ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾، وإنّما أوحي إليه قول الجنّ، وحديث رسول الله ﷺ يُبيّن بوضوحٍ الفرق بين: (سمع) و(استمع)، كما جاء عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما: “فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ”([1])، وفي آيةٍ أخرى يقول الله عز وجل لرسوله ﷺ: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾[طه]؛ أي: استقبل وحيي بحواسّك كلّها ومُدركاتك وكيانك.
﴿نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾: النّفر: من ثلاثة إلى عشرة، فهي طائفة وفرقة من الجنّ، وكانوا تسعة، وأيّاً كان عددهم فقد استمعوا إلى القرآن الكريم من فم رسول الله ﷺ، وانقلبوا إلى أهلهم من الجنّ، فقالوا لهم: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾، قد تقول: لماذا لم يقولوا: استمعنا؟، إنّ سمع هنا مع ما بعدها: ﴿قُرْآنًا عَجَبًا﴾ تؤدّي معنى الاستماع؛ لأنّهم أدركوا أنّ ما سمعوه قرآناً، والأكثر من هذا أنّه: ﴿قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ، ومعنى عجباً: فريداً، وهذه الكلمة العجيبة جاءت في عدّة آيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: من الآية 2]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف].
([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ الجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاَةِ الفَجْرِ، الحديث رقم (773).
الآية رقم (22) - وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا
﴿وَمَكَرُوا﴾: المكر مأخوذٌ من قولهم: شجرة ممكورة، وهذا في الشّجر رفيع السّاق المتسلّق حين تلتفّ سيقانه وأغصانه بعضها على بعض، فلا تستطيع أن تُميّزها من بعضها، فكلٌّ منها ممكور في الآخر، مُستَترٌ فيه، وكذلك المكر أن تصنع شيئاً تداريه عن الخصم، فالرّجل الّذي يلفّ ويدور هو الّذي يمكر، فإن كان المكر بغير قصد الضّرر نسمّيه حيلة، وإن كان بقصد الضّرر فهذا هو المكر السّيّء، ومن أسس المكر التّبييت.
﴿مَكْرًا كُبَّارًا﴾: وصف الحقّ تعالى هذا المكر بأنّه ﴿مَكْرًا كُبَّارًا﴾؛ أي: مكرٌ عظيمٌ عجيب، والعرب تقول: أمر عجيب وعجاب بالتّخفيف، وعُجَّاب بالتّشديد، فهو مكر مُتناهٍ في الكِبَر، مكروا لإبطال دعوة نوح عليه السلام، والمكر أنواع، وهو للصّدّ عن سبيل الله عز وجل
الآية رقم (23) - وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾: فلا تتركوا آلهتكم، ولا تدعوا عبادتها والتّقرّب إليها، وفعل (ذروا)؛ أي: اتركوا ودعوا وتناسوا، والفعل هنا منفيٌّ: ﴿لَا تَذَرُنَّ﴾، و﴿آلِهَتَكُمْ﴾: معبوداتكم من أصنام وأوثان، ثمّ يذكرون آلهتهم بالاسم: ﴿وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾، فقد كانوا قوماً صالحين من بني آدم، ولهم أتباع يقتدون بهم، فلمّا ماتوا قال أصحابهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم؛ أي: عملوا لهم تماثيل، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم كانوا يُسقَون المطر فعبدوهم.
الآية رقم (24) - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا
هذه الأصنام والأوثان والآلهة المزعومة قد أضلّت كثيراً من النّاس، وهي لا تزيد الظّالمين إلّا ضلالاً، وهم ظالمون؛ لأنّهم ظلموا أنفسهم بعبادة ما لا يسمع ولا يُبصِر، ولكنّ الأمر يحتمل تأويلاً آخر أنّ هذا كلامُ نوح عليه السلام، لذلك قال: ﴿وَلَا تَزِدِ﴾بالفعل المضارع المجزوم بـ (لا) النّاهية، فهو دعاء يدعو به نوح عليه السلام على قومه ألّا يزيدهم الله تعالى إلّا ضلالاً وخساراً، فهم ظالمون معتدون، وما أضلّتهم أصنام وأوثان من الحجر أو الخشب إلّا لفساد عقولهم فسحرتهم، وهذا ما حدث أيضاً مع إبراهيم عليه السلام وقومه، قال تعالى عن إبراهيم أنّه قال: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾[إبراهيم: من الآية 36].
الآية رقم (25) - مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾: فبخطيئاتهم وكفرهم أُغرِقوا، والنّظم القرآنيّ لم يقل: من خطيئاتهم، بل أضاف (ما) الّتي للصّلة، فالعرب تجعل (ما) صلة فيما يكون فيه عاقبة، كما يُقال: أينما تكن أكن، وحيثما تجلس أجلس.
﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾: فأُدخلوا ناراً في الآخرة، إذ أُغرِقَت أبدانهم وأجسادهم، ورُدَّت أرواحهم إلى النّار.
﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾: فلم يجدوا لهم مانعاً يمنعهم من الغرق، ودخول النّار في الآخرة، فلم يكن لهم من يُنجيهم من عذاب الله عز وجل.
الآية رقم (26) - وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا
وصل نوح عليه السلام إلى أقصى درجة من دعوته لقومه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح]، لقد بذل نوحٌ عليه السلام الجهد كلّ الجهد في دعوة قومه لعلّهم يهتدون أو يؤمنون، ولكنّهم رفضوا وأبَوا إباءً شديداً، وعذّبوا نوحاً عليه السلام، وأوحي إلى نوحٍ أنّه لن يؤمن من قومك إلّا مَن قد آمن ، فعلم نوحٌ عليه السلام أنّه لن يؤمن أحدٌ، إلّا الّذين ءامنوا، لذلك دعا ربّه داعياً على قومه بعد أن بذل وُسْع جهده، وآذوه إيذاءً لا يُطيقه إنسانٌ، وأشبعوه سخريةً واستهزاءً، وليس نوحٌ عليه السلام فقط الّذي دعا على قومه، بل إنّ موسى عليه السلام دعا على فرعون وآل فرعون، فقال: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس]، ونوحٌ عليه السلام دعا على قومه فقال:
﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾: فلا تترك يا ربّ أحداً من الكافرين يمشي على الأرض، وديّار: إنّما هو دوّار (فعّال) من دار يدور، ويُقال للرّجل كثير الدّوران: الدّيّار، والدّيار أيضاً: ساكن الدّار، فلا تذر على الأرض من الكافرين ساكن دار، وإذا لم يبق منهم ساكن دارٍ فقد بادوا جميعاً وهلكوا، فكأنّه يقول: لا تذر منهم أحداً.
الآية رقم (27) - إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا
فإن تركتهم يا ربّ على ما هم عليه من الضّلال والكفر والإعراض عن دعوة الحقّ يُضلّوا عبادك الّذين هديتهم للإيمان، ولا يلدوا من ذرّيّةٍ إلّا فاجراً فاسقاً خارجاً عمّا تريده يا ربّ، وهو كفّار شديد الكفر لا يهتدي إلى هدى، ولا ينفتح قلبُه للحقّ والصّلاح، وقد كان الرّجل ينطلق بولده إلى نوح عليه السلام، فيقول لولده: احذر هذا فإنّه كذّاب، يقصد نوحاً عليه السلام.
ثمّ يُنهي الحقّ تعالى سورة نوح بدعاء نوحٍ عليه السلام:
الآية رقم (28) - رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾: هنا خاصّ وعامّ، فكم مرّة دخل الأب والأمّ هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى: ﴿اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾، وفي قوله: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: دخلوا ثلاث مرّات، فإيجاد عامّ بعد خاصّ يعني أن يدخل الخاصّ في العامّ فيتكرّر الأمر بالنّسبة إلى الخاصّ تكراراً يناسب خصوصيّته، وقد كان لإبراهيم عليه السلام دعاء مثل هذا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم]، ونلحظ أنّ طلب المغفرة هنا قد شمل الوالدين والمؤمنين، والإنسان كما نعلم له وجودٌ أصليٌّ من آدم عليه السلام وله وجود مباشر من أبويه، فمن ليس فيه خيرٌ لأبويه، ليس فيه خيرٌ لأحدٍ على الإطلاق، لذلك دائماً دعوة الأنبياء: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾.
﴿وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾: فبيت نوح عليه السلام هو بيت الإيمان وبيت التّقوى والصّلاح، لمن دخل بيت نوح عليه السلام أو مسجده ومصلّاه.
﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾: وللمؤمنين والمؤمنات بشكل عامّ.
﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾: إذا كان نوح عليه السلام يدعو بالمغفرة له ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمناً ولعامّة المؤمنين والمؤمنات، فإنّه يدعو على الظّالمين ألّا يزيدهم إلّا تباراً، والتّتبير: الإهلاك والتّدمير لكلّ مَن كذَّب الرّسل بأنواع مختلفة ومتعدّدة من ألوان العذاب، فعُوقِبوا بالطّوفان.
الآية رقم (20) - لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا
﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا﴾: فمن حكمة الله تعالى أن جعل في الأرض سُبلاً نسير فيها، فلو أنّ الجبال كانت كتلة تملأ وجه الأرض ما صَلُحَت لحياة البشر وحركتهم فيها، فقال تعالى: ﴿سُبُلًا فِجَاجًا﴾، وفي آيةٍ أخرى قال عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾[الأنبياء]؛ أي: طُرُقاً واسعة في الوديان والأماكن السّهلة، ومعنى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾: يصحّ في الجبال أو في الأرض، ففي كلٍّ منها طرق يسلكها النّاس، وهي في الجبال على شكل شِعاب ووديان، ونَظْم القرآن الكريم دقيقٌ وعجيب، فالقرآن الكريم لم يقل: (لتسلكوا فيها)، بل قال: ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا﴾؛ لأنّ (فيها) معناها الدّخول في باطن الأرض، أمّا ﴿مِنْهَا﴾ فمعناها اتّخاذ سُبُل وطُرُق على الأرض قد تكون متعرّجة مُلتوية ولكنّها على الأرض، ولكنّ الحقّ تعالى استخدم ﴿فِيهَا﴾ في آيةٍ أخرى، يقول تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾[طه: من الآية 53]؛ أي: طُرُقاً مُمَهَّدة توصلكم إلى مُهمّاتكم بسهولة، وسلك: بمعنى دخل، وتأتي مُتَعدّية، تقول: سلك فلانٌ الطّريق، ومنها قوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدّثّر]، يعني: ما أدخلكم في سقر؟ وقال لموسى عليه السلام: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾[القصص: من الآية 32]؛ أي: أدخلها.
﴿سُبُلًا فِجَاجًا﴾: وهي سُبُل فجاج، والعربيّ القديم قال يصف الكون: “سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج”، والفجاج: جمع فَجّ، قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[الحجّ]، والفجّ هو الطّريق الواسع، فهم يأتون من كلّ طريق ومكان ومسلكٍ بعيد.
ثمّ يقول الحقّ تعالى عن رسوله نوح عليه السلام:
الآية رقم (21) - قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا
يُخَاطب نوحٌ عليه السلام ربّه ويُخبره تعالى أنّ قومه قد عصوه، ونوحٌ يعلم أنّ الله تعالى يعلم ما كان منه ومن قومه، حتّى قبل أن يُرسِل نوحاً إلى قومه، ولكنّ نوحاً مُرْسَلٌ من ربّه إلى قوم أشركوا بالله عز وجل آلهةً أخرى مع الله تعالى أصناماً وأوثاناً، ودّاً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونَسْراً، وما دام نوحٌ عليه السلام مُرْسَلاً من ربّه فلا بدّ أن يُخبِر مَنْ أرسله بنتيجة رسالته إعذاراً أنّه بلّغ قومه ما أمره الله تعالى به أن يُبَلِّغه، فيا ربّ قد بلّغتُ رسالتك، قال تعالى عن رسالة نوح عليه السلام الّتي أُمِرَ أن يُبلِّغها لقومه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[المؤمنون]، وهم لم يَقبلوا دعوته وعصوه وعذّبوا سيّدنا نوح عليه السلام.
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾: خالفوا أمري ورفضوا دعوتي لهم إلى الهدى والرّشاد، فعصوني فيما أمرتهم به، أو فيما دعوتهم إليه من توحيد الله عز وجل.
﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾: فاتّبع سفلة القوم وضعفاؤهم رؤساءَهم وقادتَهم الفاسدين الّذين كانوا يحوزون المال والثّروة، ويحوزون من الولد ما جعل لهم منعةً وقوّةً وعزوةً استخدموها في رفض دعوة الله تعالى، لقد رزقهم الله تعالى المال والولد فلم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلّا ضلالاً في الدّنيا وهلاكاً في الآخرة.
الآية رقم (11) - يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا
فاستغفاركم وتوبتكم إلى الله تعالى تفتح لكم أبواب السّماء بالمطر، حتّى صلاة الاستسقاء هي صلاة استغفار، وقد بيّن الحقّ تعالى بأنّ الإنسان إذا استغفر وتاب إلى الله عز وجل فإنّه لا يحرمه من عطاء ربوبيّته.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾: إرسال السّماء يعني تواصل نزول المطر عليهم، والفارق بين (الإنزال) وبين (الإرسال) أنّ الإنزال يكون مرّة واحدة، أمّا الإرسال فهو مسترسل ومتواصل، لذلك يقول الحقّ تعالى في المطر: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [فاطر: من الآية 48]؛ لأنّ المطر لا ينزل طوال الوقت من السّماء، ولكن في الإرسال استمرار، لذلك يقول الحقّ تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[الحجر: من الآية 22]، فالّذي يحتاج إلى استمراريّة في الفعل يقول فيه: (أرسل) بدليل أنّ الله تعالى حينما أراد أن يجيء بالطّوفان قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ [الأعراف: من الآية 133]، وعندما أراد أن يُرَغِّب عاداً قوم سيّدنا هود عليه السلام في الاستغفار والتّوبة والرّجوع عمّا كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [هود: من الآية 52]، والحقّ تعالى هنا يُعَلِّق إرسال المطر باستغفارهم، وفي سورة نوح أيضاً يُعَلِّقه باستغفارهم، يقول تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، ولقائلٍ أن يقول: ما صلة الاستغفار بمسألةٍ كونيّةٍ، مثل نزول المطر؟ فنقول: للكون مالكٌ لكلّ ما فيه، جماده ونباته وحيوانه، وهو القادر تعالى أن يُخرِج الأشياء عن طبيعتها، فإذا جاءت غَيْمة وتحسب أنّها مُمطِرَة قد يأمرها الحقّ تعالى فلا تُمطِر، مثلما قال الحقّ تعالى في موضعٍ آخر من كتابه: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: من الآية 24]، فلا تأخذوا الأسباب على أنّها تأتيكم برتابة، ولتعلموا أنّ للأسباب ربّاً يملكها بأمره تعالى يستطيع أن يجعلها تفعل فعلها، فيجعل السّماء لا تُمطِر لكم ماء ولو كان هناك غيوم، فتصبح أرضكم جرداء لا نباتَ فيها، ولا حيوان، فلن تجدوا نباتاً ولا لحماً تأكلونه.
﴿مِدْرَارًا ﴾: المدرار هو الّذي يُدرّ بتتابعٍ لا ضرر فيه، فالمطر قد يهطل بطغيان ضارّ، أمّا المدرار فهو المطر الّذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً، ومتى أُرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً، فالأرض تخضرّ، وتعمر الدّنيا، ونزداد قوّة إلى قوّتنا، فالماء هو مادّة حياة البشر وقوّتهم، لذلك حدّثنا الحقّ تعالى بعدها فقال:
الآية رقم (12) - وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا
فاستغفاركم وتوبتكم إلى الله تعالى تفتح لكم أبواب السّماء بالمطر، حتّى صلاة الاستسقاء هي صلاة استغفار، وقد بيّن الحقّ تعالى بأنّ الإنسان إذا استغفر وتاب إلى الله عز وجل فإنّه لا يحرمه من عطاء ربوبيّته.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾: إرسال السّماء يعني تواصل نزول المطر عليهم، والفارق بين (الإنزال) وبين (الإرسال) أنّ الإنزال يكون مرّة واحدة، أمّا الإرسال فهو مسترسل ومتواصل، لذلك يقول الحقّ تعالى في المطر: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [فاطر: من الآية 48]؛ لأنّ المطر لا ينزل طوال الوقت من السّماء، ولكن في الإرسال استمرار، لذلك يقول الحقّ تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾[الحجر: من الآية 22]، فالّذي يحتاج إلى استمراريّة في الفعل يقول فيه: (أرسل) بدليل أنّ الله تعالى حينما أراد أن يجيء بالطّوفان قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ [الأعراف: من الآية 133]، وعندما أراد أن يُرَغِّب عاداً قوم سيّدنا هود عليه السلام في الاستغفار والتّوبة والرّجوع عمّا كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [هود: من الآية 52]، والحقّ تعالى هنا يُعَلِّق إرسال المطر باستغفارهم، وفي سورة نوح أيضاً يُعَلِّقه باستغفارهم، يقول تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، ولقائلٍ أن يقول: ما صلة الاستغفار بمسألةٍ كونيّةٍ، مثل نزول المطر؟ فنقول: للكون مالكٌ لكلّ ما فيه، جماده ونباته وحيوانه، وهو القادر تعالى أن يُخرِج الأشياء عن طبيعتها، فإذا جاءت غَيْمة وتحسب أنّها مُمطِرَة قد يأمرها الحقّ تعالى فلا تُمطِر، مثلما قال الحقّ تعالى في موضعٍ آخر من كتابه: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: من الآية 24]، فلا تأخذوا الأسباب على أنّها تأتيكم برتابة، ولتعلموا أنّ للأسباب ربّاً يملكها بأمره تعالى يستطيع أن يجعلها تفعل فعلها، فيجعل السّماء لا تُمطِر لكم ماء ولو كان هناك غيوم، فتصبح أرضكم جرداء لا نباتَ فيها، ولا حيوان، فلن تجدوا نباتاً ولا لحماً تأكلونه.
﴿مِدْرَارًا ﴾: المدرار هو الّذي يُدرّ بتتابعٍ لا ضرر فيه، فالمطر قد يهطل بطغيان ضارّ، أمّا المدرار فهو المطر الّذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً، ومتى أُرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً، فالأرض تخضرّ، وتعمر الدّنيا، ونزداد قوّة إلى قوّتنا، فالماء هو مادّة حياة البشر وقوّتهم، لذلك حدّثنا الحقّ تعالى بعدها فقال:
الآية رقم (13) - مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا
أربعة أشياء تأتي بعد الاستغفار والتّوبة ونزول ماء السّماء تُعَدّ مصدر قوّة لكم: الأموال، البنون، الجنّات، الأنهار، والإمداد نِعمَةٌ من نِعَم الله تعالى، فَنِعَم الله عز وجل هي: نِعَم الإيجاد، ونِعَم الإمداد، ونِعَم التّكليف، فإذا أحببت الله تعالى للإيجاد والإمداد، فهذا يقتضي أن تحبّه أيضاً للتّكليف، وهو تعالى القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، فالحقّ تعالى أوجدنا في هذه الدّنيا وأعطانا أموالاً وبنين يُكثِّرها ويزيد فيما عندنا منها.
﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ﴾: هذه الآية فيها من المعاني ما لا يحدّه حدٌّ، فالنّظم القرآنيّ الّذي هو من لدن حكيم خبير عندما نتأمّله في هذه الآية نجد جمالاً لا يستطيع أحدٌ من البشر مضاهاته أو الإتيان بمثله، فقد يسأل سائلٌ: لماذا قدَّم الحقّ تعالى ذكر الجنّات عن الأنهار، مع أنّ الأنهار سببٌ في حصول الجنّات؟ نقول: في الإجابة على هذا السّؤال تتجلّى عظمة هذا النّظم القرآنيّ، فالحقّ تعالى تحدّث في الآية قبلها عن نزول مطر السّماء عليهم، فقال تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، لذلك ناسب أن يذكر بعدها الجنّات الّتي هي البساتين ذات الأشجار الملتفّة الكثيفة، وهذه إنّما تكون بماء المطر، فماء المطر جعله الله تعالى سبباً في وجود البساتين المغدقة ممّا قد لا يكون للإنسان دخلٌ فيه، وجعله أيضاً سبباً في وجود الأنهار ممّا يستعمله الإنسان في شرابه وسقي زرعه وريّ حيواناته، فالأنهار كلّها إنّما تنشأ من سقوط الأمطار على المرتفعات الجبليّة.
وقد كان أحد كبار الأئمّة يأتيه شخص فيقول: لا يوجد لدينا في بلدنا مطر، فادع الله تعالى لنا أن يُنزِل المطر، فيقول له: استغفر الله، فيأتيه شخص آخر فيقول: لا يأتيني أولاد، فيقول: استغفر الله، ويأتيه شخص آخر فيقول: إنّي بحاجة إلى المال، فيقول: استغفر الله، فقال له الحضور: كلّما جاءك إنسان بأمرٍ قلت له: استغفر الله، قال: قال تعالى في سورة نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾، فكلّما طلبتَ طلباً وجب أن تُسبِق هذا الطّلب من الله تعالى بالاستغفار من الذّنوب الّتي قمت بارتكابها، فهو مفتاح إجابة الدّعاء.
وقوم نوح عليه السلام كانوا قوماً حريصين على متاع الحياة الدّنيا، ومع ذلك لم يُوَقِّروا الله عز وجل ولم يعظِّموه، لذلك قال تعالى:
الآية رقم (14) - وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
لقد كان الأليق بكم والأجدر بعد نِعَم الإيجاد والإمداد أن تُوَقِّروه تعالى، فما لكم لا تُبَجِّلونه تعالى، ولا تُعَظِّمونه تعالى حقّ عظمته، وقد قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحجّ]، فهم لم يُعطوا الله تعالى حقّ قدره، ومعنى القدر معرفة المقدار، فلو عرفوا قدر الله عز وجل وعظمته ما عبدوا غيره، وما أشركوا معه تعالى غيره، وإذا كان الحقّ تعالى قد لفت أنظارنا إلى قدرة العظيم بأنّه قويّ عزيز، وبخلق الأرض والسّموات وأنّهما تحت قدرته تعالى يوم القيامة، فإنّ الحقّ تعالى لفتنا هنا إلى خَلْق الإنسان، فقال عز وجل:
الآية رقم (15) - أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا
خلقناكم أطواراً في بطون أمّهاتكم وخلقنا فوقكم: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾، فالحقّ تعالى لا يعجز عن شيء، وهو الخالق لسبع سمواتٍ بإتقان بعضها فوق بعض، فلا يرى النّاظر أيّ خلل في هذا الخَلْق، وليُعِد الإنسانُ النّظرَ إلى السّماء فلن يجد أيّ خللٍ من شقوق أو فروق، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾[المؤمنون].
والسّماء: هي كلّ ما علاكَ فأظلَّك، ولكن هل السّماء هي الشّمس أو القمر أو النّجوم، فإنّ هذا كلّه يعلونا وهو فوقنا، وهل السّماء هي الكواكب؟ وهذا كلّه غير صحيح، فالكواكب إنّما جُعلَتْ لتزيين السّماء، قال تعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾[الصّافّات]، والشّمس لإنارة الأرض في النّهار، والقمر لإنارة الأرض في اللّيل حين يكون في التّمام، أمّا النّجوم فهي أيضاً لتزيين السّماء وعلامات للاهتداء بها في الصّحراء والفَلَوات والبحار، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام]، فالسّماء شيءٌ أعظم من هذا، والحقّ تعالى لا يُحَدِّثنا عن سماء بل عن سموات، يُحَدِّثنا تعالى عن سبع سموات طبقات فوق بعضها، وفي خَلْق السّماء عظمة خَلْق، وعظمة تكوين، وعظمة صيانة تُنَاسب قدرته تعالى، فكونها (طباقاً)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾[الانشقاق: من الآية 19]؛ أي: طبقاً فوق طبق، وطبقاً بعد طبق، أو هي طبقاتا متطابقة تطابق بعضها، فلا يمكن للعقل البشريّ أن يتخيّل مدى الحجم وعظمة الإتقان.
ثمّ يلفت نوحٌ عليه السلام نظر قومه إلى تأمّل ما في السّموات، ويلفت نظرهم إلى القمر والشّمس، فيقول عن ربّه عز وجل:
الآية رقم (16) - وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا
هنا الحقّ تعالى بدأ بذكر القمر ثمّ الشّمس، بينما في آية سورة يونس قال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: من الآية 5]، فالشّمس سراجٌ وضياء، أمّا القمر فهو في الآيتين نور، والفارق بين الضّياء أو السّراج، وبين النّور أنّ السّراج تصحبه الحرارة والدّفء، لذلك قد تحتاج إلى الظّلّ، أمّا النّور ضوءٌ ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلّا حين يكون الضّوءُ ذاتيّاً من المضيء، مثل الشّمس، أمّا القمر فضوؤه غير ذاتيّ، ويكتسب ضوءه من أشعة الشّمس حين تنعكس عليه، فالقمر مثل المرآة حين تسلّط عليها بعضاً من الضّوء فهي تعكسه.
الآية رقم (17) - وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ﴾: قول الحقّ تعالى: ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ يُعبِّر عن عمليّة الإنبات، والأرض تُخرِج نباتاً لا إنباتاً، فيأتي الله تعالى بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنّه يريد به الاسم، و(أنبت) يدلّ على معنى: ويُنشِئ الله تعالى لكم منها نباتاً، والإنبات: إنشاء، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [الأنعام: من الآية 98]، والإنشاء: هو الإيجاد ابتداءً من غير واسطة شيءٍ، ويُقال: أنشأ؛ أي: أوجد وجوداً ابتداءً من غير الاستعانة بشيءٍ آخر: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾[هود: من الآية 61]، والله تعالى يُنشِئ البشر من التقاء الزّوج والزّوجة، ولكن إن أرجعنا هذا الإنشاء وهذا الإنبات إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام فسنجد أنّ الحقّ تعالى قد خلق الإنسان من مادّة الأرض نفسها، والأرض مخلوقٌ من مخلوقات الله عز وجل، فمنيّ الزّوج وبويضة الزّوجة يتكوّنان من خلاصة الدّم الّذي هو خلاصة الأغذية، والّتي تأتي من الأرض، فسواء رمزتَ لآدم عليه السلام بإنشائه من الأرض، أم أبقيتها في الذّريّة، فكلّ شيءٍ مردّه إلى الأرض، فإنبات الله تعالى للإنسان من الأرض، وتأكيد هذا بقوله: ﴿نَبَاتًا﴾، يوحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض، وأنّ نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النّبات، بذرة توضع في الأرض وتُسقَى وتُروى بماء مع عوامل من الضّوء والحرارة والغذاء الصّاعد من الأرض إلى الأوراق من خلال الجذور والسّيقان، فالإنسان من عناصر الأرض الأوّليّة يتكوّن، ومن عناصرها الأوّليّة يتغذّى وينمو، فهو نبات من نباتها.
الآية رقم (18) - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾: فما دمتم قد نبتّم من الأرض فعند انتهاء آجالكم المكتوبة ستعودون إلى جوفها فيختلط رفاتكم بتربتها وتندمج ذرّاتكم مع ذرّاتها، فإذا شاء الله تعالى أن يُعيدكم فلا تتساءلوا: كيف؟ فذرّاتكم موجودة، والحقّ تعالى يقول: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[ق]، هكذا يستدلّ الحقّ تعالى بالخَلْق الأوّل على إمكان الخلق الثّاني، فإن كنتم تتعجّون من أنّكم تعودون بعد أن أوجد الحقّ تعالى أجزاءكم وذرّاتكم ومواصفاتكم، فانظروا إلى الخَلْق الأوّل، فقد خلقكم من لا شيء، أفيعجز أن يُعيدكم من شيءٍ؟ وهو تعالى يُعيد الإنسان في الأرض التّي خُلِق منها، فيصير تُراباً.
﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾: أي: يُخرجكم من الأرض إلى البعث، فيؤكّد تعالى أمر إخراجهم بالمصدر ﴿إِخْرَاجًا ﴾، كأنّه قال: يُخرِجكم حقّاً لا محالة، لا شكّ في هذا.
الآية رقم (19) - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا
وصف الحقّ تعالى الأرض هنا بأنّها بساطٌ، وفي آيةٍ أخرى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾[البقرة: من الآية 22]، يعني بساطاً، وفي آيةٍ أخرى قال عز وجل: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾[طه: من الآية 53]؛ أي: بساطاً، فالحقّ تعالى يُذَكِّر قوم نوح بنعمه على الخلق: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا﴾ تستقرّون عليها، فجعلها الحقّ تعالى كالشّيء المبسوط الّذي ينتفع ببسطه، ولو لم يجعلها كذلك لم يتوصّلوا إلى حوائجهم ولا الانتفاع بها، وهذا يُسَهِّل التّصرّف فيها والتّنقّل من بلدٍ إلى بلدٍ، فالأرض إن لم تُبسَط وتُمَدّ لم تكن صالحة للإنسان أن يعيش عليها براحة وسهولة، وإلّا كانت الحياة عليها بشقّ الأنفس كهؤلاء الّذين يعيشون في الجبال، أمّا الأكثريّة من النّاس فيعيشون فيما مدّ الله تعالى وبسط من الأرض في الوديان وحول الأنهار، لذلك يمتنّ الله عز وجل على قوم نوح عليه السلام بأنّه جعل لهم الأرض بساطاً أرضاً ممهّدة يعيشون عليها ويتنقّلون فيها بسهولة، لذلك قال تبارك وتعالى بعدها: