الآية رقم (284) - لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

(لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): إذاً حصر الله سبحانه وتعالى ملك الكون والتّصرّف فيه له، عندما قدّم (لِّلَّهِ) فكلّ ما سيأتي بعدها فهو ملك لله، فكلّ ما في السّماوات وما في الأرض ملك له جلّ وعلا، وإن اعتقد بعض النّاس في الأرض أنّ لهم ملكيّة، لكن هذه الملكيّة زائلة؛ لأنّه في عالم أغيار، فأنت تملك قصراً لكن إمّا إنّك ستغادر القصر إلى القبر وإمّا أن يغادرك القصر بالفقر، أليس كذلك؟ فإذاً (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) لا يوجد أحد معه حصر بالملكيّة إلّا الله سبحانه وتعالى.

(وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ): بكى سيّدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وبكى وبكى على هذه الآية، إن نُبدي ما في أنفسنا أو نخفيه يحاسبنا به المولى سبحانه وتعالى؟! فجاءت الآيات (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: من الآية 286]، فإذاً إلى ماذا يُشير قوله: (إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)؟ لأنّ هناك مواجيد قبل الأفعال، إمّا أن يهمّ الإنسان بالخير أو أن يهمّ بالشّرّ.. والإنسان إن فعل سيّئة كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبع مئة ضعف، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت»([1])، لكن بناء على هذه الآيات فهي:

الآية رقم (9) - رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ

(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ): كلّ إنسان ينظر إلى الحياة العاجلة فقط فهو ينظر إلى جزء من مسرح الحياة، فمسرح الحياة له فصلان: الفصل الأوّل الحياة الدّنيا، والفصل الثّاني الحياة الآخرة، فإذا أهملت الفصل الثّاني فإنّك تجد الصّورة مبهمة ومشوّشة، والأساس في عمل الإنسان أنّ الله تعالى جامع النّاس ليوم لا ريب فيه، هذا اليوم هو يوم القيامة والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم)  [الشّعراء]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا  * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان].

فالمؤمنون يقولون في دعائهم: إنّك -يا ربّنا- ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلّاً بعمله، وما كان عليه في الدّنيا من خير وشرّ.

 (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ): إذا وعد المولى سبحانه وتعالى فإنّ وعده محقّق.

الآية رقم (274) - الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

إذاً الإنفاق إمّا أن يتعلّق باللّيل والنّهار أي بالزّمن أو بالكيفيّة، أي: السّرّ والعلانيّة، فلا تؤخّر صدقة تستطيع أن تفعلها في اللّيل إلى النّهار، ولا تؤخّر صدقة تستطيع أن تفعلها في النّهار إلى اللّيل، ولا تنفق فقط في العلانية، بل أنفق في السّرّ وفي العلن.

سبب النّزول:

كان لعليّ رضي الله عنه أربعة دراهم، فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية، فنزلت: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً).

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يأخذون أجرهم من الله، ولا خوف عليهم من مستقبل ينتظرهم؛ لأنّ المستقبل بيد الله سبحانه وتعالى وأنت تعمل لله، فإذاً لا خوف عليك، ولن تحزن في الآخرة، ولن تحزن نتيجة شعورك أنّ مالك نقص، فالحزن لن يدخل إلى قلبك لا في الدّنيا ولا

في الآخرة ما دمت تتعامل في الصّدقة مع الله ولا تتعامل مع الفقراء.

الآية رقم (285) - آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

هذه الآيات هي خواتيم سورة (البقرة)، وكما ورد عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: «بينا جبرئيل عليه السلام جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ سمع نقيضاً من السّماء فرفع رأسه ثمّ قال: فتح باب من السّماء لم يفتح قبله قط، فإذا مَلَك يقول: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ منها حرفاً إلّا أعطيته»([1])، وكلّنا يحفظها وكلّنا يجب أن يحفظها.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ ): كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في كثير من الأحداث الّتي تحدث: (أشهد أنّي رسول الله)، إذاً آمن الرّسول أوّلاً (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ )، والمؤمنون بعد أن آمن الرّسول آمنوا على إيمان الرّسول؛ لذلك الوهّابيّة وأمثالهم ينكرون علينا زيارة النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، فالكعبة هي بيت الله، نقول لهم: نحن ما عرفنا الله إلّا من خلال رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، فحبّنا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلّم ليس له حدود، نحن عرفنا الله وعرفنا بيت الله من خلال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، ولولاه صلَّى الله عليه وسلّم ما آمنّا ولا عرفنا، والدّليل هو هذه الآية: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ).

(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ): عناصر الإيمان كلّها غيب كلّ آمن بماذا؟ بالله وملائكته وكتبه ورسله، قد يقول قائل: الكتب والرّسل ليست غيباً، لكنّ القرآن الكريم غيب، صحيح أنّه بالنّسبة لي مشهود لكنّه غيب عندما أُنزل، غيب من عند الله، والرّسول هو أيضاً بشر أمام الجيل الّذي عاصره، لكن كيف عرفوا أنّه رسول؟ فهذا غيب؛ لأنّه هو الّذي أخبرهم أنّ جبريل عليه السلام كلّفه من الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (10) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا): قلنا سابقاً: إنّه لا يوجد تجريم بدون نصّ، هذا في القانون الوضعيّ، فهذه النّصوص تبيّن لماذا يدخل هذا إلى الجنّة وهذا إلى النّار. والإنسان يستبقي الحياة بشيئين اثنين:

1- بالذّريّة.

2- وبالأموال.

فبيّن الله سبحانه وتعالى ما الّذي ينفع الإنسان في هذا اليوم: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) [الشّعراء]، فالّذين كفروا في هذا اليوم لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم، ولن تفيدهم ولن تكون شفيعاً لهم.

 (وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ): أي إنّهم هم الّذين سيكونون حصب وحطب جهنّم جرّاء كفرهم بآيات الله وبما نزّل على رسول الله، وجحودهم بنعمة الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (275) - الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

القضيّة في الآيات الّتي مرّت معنا هي قضيّة اقتصاديّة، وعماد الاقتصاد الإسلاميّ قائمٌ على تحقيق الاقتصاد السّليم في المجتمع من خلال الزّكاة والصّدقات وكيفيّة أداء فعل الزّكاة الّتي هي فعل عمل اقتصاديّ. ولا بدّ من بيان أنّ طريقة التّعامل بين الغنيّ والفقير يعتريها قضيّة خطيرة اقتصاديّة يقوم عليها الاقتصاد الرّأسماليّ الآن أو اقتصاد معظم الدّول، وهي الرّبا.

وتعريف الرّبا: هو الزّائد، وهو أن تستغلّ حاجة المحتاج وتضاعف مالك من خلال استغلال احتياجه، إذاً هو أسوأ صورة من صور العمل الاقتصاديّ؛ لذلك قال بعض العلماء الاقتصاديّين: لا يكون الاقتصاد سليماً إلّا إذا كانت الفائدة صفراً، يعني لا يوجد ربا، إذاً الرّبا هو استغلال حاجة المحتاج، ماذا يحدث؟ لماذا هذه العلاقة علاقة بشعة؟ الّذي يحدث أنّ هذا غنيّ وهذا محتاج فقير، الغنيّ يضمن أن يعيد ماله وزيادة من المال الّذي أقرضه للفقير، الّتي هي الرّبا، أو ما تُسمّى في أيّامنا: الفائدة، فإذاً هو استغلّ الحاجة وإضافة لاستغلاله للحاجة كسب على قدر حاجة المحتاج، وتأتي الآيات هنا لتبيّن خطورة الرّبا في المجتمع الّذي هو أساس الفساد الاقتصاديّ، فعلّة وآفة المال الرّبا، فإذا ظهر الزّنا والرّبا في قوم فقد أحلّوا بأنفسهم سخط وعذاب الله.

الآية رقم (286) - لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

أجاب الله سبحانه وتعالى الدّعاء وجاءت هذه الآية وهي جواب على الّذي اعتقد بأنّ الله سبحانه وتعالى سيحاسبه على ما في نفسه وليس على فعله فقال سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) طالما كلّفك إذاً هي بوسعك، وتستطيع أن تؤدّي أكثر من ذلك، بدليل أنّه كلّفك بخمس أوقات صلاة، أنت تستطيع أن تصلّي خمسين ركعة، لكنّه لم يكلّفك بخمسين، كلّفك بصيام شهر واحد وأنت تصوم اثنين وخميس بالإضافة للشّهر، وأحياناً تصوم شهرين، كلّفك اثنين ونصف بالمئة في شأن الزّكاة، وأنت قد تدفع عشرة.. إذاً هو كلّف ما في الوسع، فطالما أنّك وجدت أمراً تكليفيّاً إيمانيّاً أمر به المولى سبحانه وتعالى فاعلم أنّه بوسعك لماذا؟ لأنّه رخّص لك عندما لا يكون بوسعك فقال سبحانه وتعالى: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح: من الآية 17]، وقال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: من الآية 184]، وقال سبحانه وتعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التّوبة]،  إذاً كلّ شيء بالتّكليف ضمن الوسع.

الآية رقم (11) - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ

الدّأب: العمل دون انقطاع.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): أي كصنيع آل فرعون، أو كشبه آل فرعون، فضرب الله بهم المثل أنّهم استمرّوا بدون انقطاع في جحودهم وكفرهم بآيات الله وما نزل به سيّدنا موسى عليه السَّلام.

(كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): الآية هي المعجزة أو الشّيء العجيب: (فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[الشّعراء: من الآية 154]، أي دليل معجز.

كذّبوا بكلّ الآيات، وآيات الله سبحانه وتعالى ليست فقط في المعجزات الّتي تُبهر الأبصار، وإنّما هي أيضاً في معجزات موجودة ولكن عميت عنها الأبصار، من الهواء إلى الماء إلى شروق الشّمس إلى غروبها إلى الأمطار إلى البحار إلى الأنهار إلى كلّ ما هو مِن خلق الله سبحانه وتعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون) َ[الذّاريات]، فجحدوا بكلّ هذه الآيات فأخذهم الله سبحانه وتعالى بذنوبهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى دعا النّاس إلى الإسلام وهو بشكل عامّ اسم لكلّ الأديان: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) [الحجّ: من الآية 78]، (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)  [البقرة].

الآية رقم (276) - يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ

فإذاً هذه إشاعة الخير في المجتمع، ما هذه المقارنة العظيمة؟

(يَمْحَقُ): المحق: النّقصان، ومنه: المحاق، آخر الشّهر إذا انمحق الهلال، يُقال: محقه: إذا نقصه وأذهب بركته، أي يزول أثراً بعد أثر، فإذاً لا يزول مال الرّبا دفعة واحدة، ولكن انظروا إلى المرابين وانظروا إلى ميراثهم لأبنائهم هل مُحق أم لا؟ هذا قرآن يُتلى ويتعبّد به ويُصلّى به إلى يوم الدّين، فلا يمكن أن يقول المولى: إنّه يمحق الرّبا إلّا ويُمحق الرّبا، ولكن لا يزول دفعة واحدة، هذا الدّاء داء خطير في المجتمعات يدمّر اقتصاد المجتمعات.

(وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): الزّيادة تكون بالصّدقة، فإذا أردت أن يزيد مالك ويربو فعليك أن تنفق منه على خلق الله وتُساعد المحتاجين والفقراء، فأيّ صورة راقية وأعظم وأجمل وأربى من هكذا صورة.

(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ): لم يقل سبحانه وتعالى: (والله لا يحبّ كلّ كافر آثم)، وإنّما استخدم صيغة مبالغة للكلمتين: (كَفَّارٍ) صيغة مبالغة من كافر، (أَثِيمٍ) صيغة مبالغة من آثم، فهو مُكثر في جحوده لأمر الله وكفره؛ لأنّه أحلّ الرّبا واستغلّ حاجة المحتاجين؛ لذلك جاءت نهاية الآية المتعلّقة بالرّبا وأكلة الرّبا في المجتمع: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

الآية رقم (1) - الم

تبدأ السّورة كما بدأت سورة (البقرة) بالأحرف المقطّعة (الم) ولا بدّ كلّما بدأنا بسورة من السّور الّتي فيها الأحرف المقطّعة أن نعيد بعض المعاني الّتي نستنبطها من الأحرف المقطّعة في بداية السّور، وماهي فائدة هذه الأحرف المقطّعة؟ وقد قال سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص]، إذاً هو للتّدبّر والاستفادة والتّذكير، فما هي فائدة (الم)، و( كهيعص) ]مريم[، (ن) [القلم: من الآية 1]، (الر)  [يونس: من الآية 1]؟ وما فائدة كلّ الأحرف المقطّعة الّتي وردت في كتاب الله تبارك وتعالى؟ هنا لا بدّ أن نُجيب عن ذلك عقليّاً لإقناع الآخرين، نحن نأخذ الدّين بالتّسليم؛ لأنّنا مسلمون، لكن عندما نخاطب النّاس يجب أن نبيّن لهم إذا عرفنا الحكمة، وأن ننقل إليهم ما قاله معظم العلماء عن الأحرف المقطّعة، فالسّؤال الّذي يجب أن نجيب عنه، هل كلّ ما لا نعرف كيفيّته لا نستفيد منه؟

الآية رقم (12) - قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

إنّ إبقاء كلمة (قُلْ) لهو أكبر دليل أنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يستطيع أن يغيّر حرفاً في القرآن الكريم، فلو كان من عند نفسه كما يدّعي أعداء الإسلام لحذف كلمة (قُلْ)

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ): بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ الغلبة ستكون للإيمان، كما قال تبارك وتعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء]، فدائماً هناك فريقان: معسكر الإيمان ومعسكر الشّرك والكفر والفساد في الأرض، ودائماً هناك صراع بين الحقّ والباطل، لكنّ الحقّ سينتصر والدّليل هذه الآية، عندما دخل النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكّة عام الفتح وانتصر من دون قتال، كان بيده عصا صغيرة وهو يشير إلى الأصنام الّتي حول الكعبة فتتحطّم، وهذا دليل على أنّ الباطل سيُغلب بالحكمة والحجّة والبرهان والدّليل: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [النّمل: من الآية 64]، وليس بقوّة السّيف.

(وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ): يوم الحشر هو اليوم الّذي يجمع الله تبارك وتعالى فيه الخلائق كلّهم للحساب والجزاء، وسيكون يومها مآل الكافرين إلى جهنّم.

(وَبِئْسَ الْمِهَادُ ): والمهاد هو المكان الّذي ينام فيه الطّفل، فبئس المهاد الّذي سيؤولون إليه.

الآية رقم (277) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

لا يُقبل الإيمان وحده دون عمل صالح، فالإيمان ليس بالتّحلّي ولا بالتّمنّي، ولكنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إذاً هات برهانك على الإيمان، وأوّل برهان على الإيمان أن تنفق ممّا أعطاك الله، قال سبحانه وتعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: من الآية 92].

(وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ): أضاف ركنين من أركان الإسلام، ركن استدامة الولاء لله، ركنٌ دائمٌ لا يسقط عنك في حالٍ من الأحوال وهو الصّلاة؛ لأنّ الزّكاة تسقط عن الفقير، والحجّ لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذا والصّوم يسقط عن المريض، إلّا الصّلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النّساء: من الآية 103]،  الصّلاة لا تسقط لا بمرض ولا بغيره، فإن لم تستطع قائماً صلّيت قاعداً، وإن لم تستطع قاعداً فمستلقياً، وإن لم تستطع مستلقياً فبعينيك، فإن لم تستطع بعينيك أخطرت أركان الصّلاة على ذهنك، فإذاً لا تسقط الصّلاة في حال من الأحوال، والصّلاة مدخل إلى كلّ العبادات.

(وَآتَوُا الزَّكَاةَ): غالباً ما نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يربط ركن الزّكاة بركن الصّلاة، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النّور]، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [المزمّل]، الصّلاة هي صلة مع الله وهي استدامة ولاء لله، والزّكاة هي برهان على صدقك مع الله تبارك وتعالى.

الآية رقم (2) - اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

(اللَّهُ) مبتدأ، وجملة (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو) خبر.

(اللَّهُ): واجب الوجود، وكلّ النّاس بفطرتهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، والدّليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف]،  إذاً معرفة الله أمرٌ مركوزٌ في الفطرة الإنسانيّة، وهذه الفطره قد يعتريها ما يشوّهها فيرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرّسل حتّى يعودوا بالنّاس إلى عقيدة: لا إله إلّا الله.

(اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو): يقول عليه الصلاة والسلام: «أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له»([1]). طالما أنّه سبحانه وتعالى قال: إنّه لا يوجد إله غيره، وأخبرنا أنّه هو الّذي خلق السّماوات والأرض والبشر والشّجر والحجر والجماد والنّبات، فالدّعوة تسلم لصاحبها ما لم يوجد مُعارِض، فلو كان مع الله إله آخر لخرج هذا الإله علينا وقال: أنا الإله، وأنا مَن خلق السّماوات والأرض، فالأمر ثابت لله سبحانه وتعالى طالما أنّه لم يوجد مَن يُعارضه ولن يوجد، ونضرب مثالاً، ولله المثل الأعلى: إذا كان هناك جماعة من النّاس متواجدين في مكان ما، ثم ذهب كلٌّ منهم إلى داره، وعندما دخل المسؤول عن هذا المكان لترتيبه وجد فيه محفظة فيها مبلغ من المال، ثمّ جاءه رجلٌ ممّن كانوا متواجدين قائلاً: إنّه نسي محفظته، فالدّعوة تسلم له ما لم يوجد معارض، فإذا لم يأتِ أحد غيره ويدّعي أنّ هذه المحفظة له، فهي لمن طالب بها بالحجّة والبرهان. فكلّ ما جاء في القرآن الكريم إنّما يعتمد على الحجّة والبرهان والمنطق.

الآية رقم (13) - قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ

يدلّل المولى سبحانه وتعالى على ما جرى في غزوة بدر، وهي أوّل صدام مسلّح يحدث بين معسكر الإيمان ومعسكر الشّرك والكفر والضّلال الّذي كان يقوده أبو جهل وأبو سفيان، وكان النّبيّ في معركة بدر لا يوجد معه أكثر من ثلاث مئة رجل، وكيف أنّ هذه الفئة القليلة الّتي استنفرها النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لإعادة جزء من أموالهم وتجارتهم الّتي سرقها المشركون عندما أخرجوهم من ديارهم بغير حقّ، عندها كان الأمر السّببيّ والأمر الطّبيعيّ أن تغلب الكثرةُ القلّة، حيث كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، والعتاد والسّلاح الّذي بيد المشركين أكثر بكثير من عتاد المسلمين، فالله سبحانه وتعالى يعطي دليلاً بما جرى في تلك الواقعة الّتي فرّقت بين الحقّ والباطل:

(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ): ومعنى الآية هنا الأمر العجيب.

(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): القتال في سبيل الله حدّد رسول الله معناه، وهو الدّفاع عن العرض والأهل والمال والوطن من الاعتداء.

(وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ): تتمّة الجملة يجب أن تكون: (وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشّيطان) لكن حُذفت هنا وهذا في اللّغة يسمّى احتباك، وهو أن لا تذكر في الثّانية ضدّ ما ذكر في الأولى، ولكنّها تُفهم من السّياق، والفئة الّتي كانت من مشركي قريش والّتي تقاتل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، طبعاً هي تقاتل في سبيل الشّيطان.

الآية رقم (278) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب هنا للمؤمنين، فالمؤمن بينه وبين الله سبحانه وتعالى عقد إيمانيّ، فعليه أن يأخذ الأوامر والتّكاليف من الله سبحانه وتعالى، فعند التّكاليف والأوامر الإلهيّة يأتي الخطاب للّذين آمنوا، فإذا استخدم الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

فاعلم أنّ بعدها وظيفة وتكليفاً إيمانيّاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: من الآية 183]، (يأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة]،  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم) [البقرة: من الآية 254]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النّساء]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النّساء], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب) [المائدة]، حتّى عمليّة ترك الرّبا خوطب بها المؤمنون؛ لأنّ الرّبا كان سائداً في المجتمع الجاهليّ.

الآية رقم (3) - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ): نزّل عليك القرآن يا محمّد بالحقّ كما قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء: من الآية 105]، والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر.

(مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ): ما بين يديه أي الكتب الّتي سبقته، فالقرآن مصدّق لما جاء في التّوراة والإنجيل فيما يتعلّق بالعقائد والآخرة وأصول الدّين، وما يتعلّق بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى والجنّة والنّار…

(وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ): هناك فارق بين نزّل وأنزل، عندما تحدّث عن القرآن الكريم قال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ)، وعندما تحدّث عن التّوراة والإنجيل قال: (وَأَنزَلَ)، مع أنّه يوجد آيات تتعلّق بالقرآن استخدم فيها لفظ (أنزل)، كقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر]، لماذا؟ لأنّ القرآن الكريم نزل مفرّقاً على قلب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، أمّا عندما تقول: (أنزل) فالمقصود أنّه نزل جُملة واحدة، فالتّوراة نزلت دفعة واحدة وكذلك الإنجيل، بينما القرآن نزل منجّماً خلال ثلاثة وعشرين عاماً، أمّا قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر]،  فالمقصود أنّه نزل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا دفعة واحدة، ثمّ نزل منجّماً على قلب سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فعندما يتحدّث عن الإنزال الأوّل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا يقول: (أنزل)، أمّا (نزّل) فالمقصود نزوله مفرّقاً، وأوّل ما نُزّل في الغار على سيّدنا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم قوله سبحانه وتعالى: (اقْرَأْ) [العلق: من الآية 1]. ونحن نؤمن بالكتب السّماويّة، وهذا مصداق للآيات في خواتيم سورة (البقرة).

الآية رقم (14) - زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ

عندما يضلّ الإنسان فإنّ ذلك يكون نتيجة اتّباع الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية: من الآية 23]، ولكلّ هوى مفتاح، فيجب أن نعلم ما هي مفاتيح الهوى.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ): زُيّن مبني للمجهول، لم يبيّن الله عز وجل من الّذي زيّن.

(حُبُّ الشَّهَوَاتِ): هناك شهوات مركوزة في الإنسان، هذه الشّهوات هي ميل النّفس لفعل معيّن بقوّة. فالشّهوة الجنسيّة لاستبقاء النّوع، وهذا مركوز في الإنسان، لا يستطيع أحد إنكارها، كذلك حبّ الأولاد وحبّ المال.. كلّها أمور مركوزة في فطرة الإنسان الّتي فطر النّاس عليها، طالما هذه الشّهوات موضوعة في الإنسان فقد وضع الله سبحانه وتعالى مصارف لها، فمن وضعها في مصارفها الّتي أحلّها الله، فيكون الّذي زيّن هو الله سبحانه وتعالى، ومن وضعها في غير ما أحلّ الله وتعدّى فيكون الشّيطان هو الّذي زيّن، فالله سبحانه وتعالى شرع الزّواج لصرف الشّهوة الجنسيّة، وهذا طريق الحلال، قال عليه الصّلاة والسّلام: «الدّنيا متاع، وخير متاع الدّنيا المرأة الصّالحة»([1])، أمّا إن وضعها في الحرام كمن يزني ويعتدي على أعراض الآخرين، فالشّيطان زيّن له.

الآية رقم (279) - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): إذاً هناك من يريد ألّا يفعل، وبدليل ما نراه الآن في كلّ الكرة الأرضيّة من النّظام الرّأسماليّ.

(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ): هذا أمر مخيف جدّاً، فهذه المرّة الوحيدة الّتي يستخدم فيها المولى سبحانه وتعالى هذه العبارة (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ).

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدّثر: من الآية 31]،  فلا تعرف من أين يأتيك، يمحق المال، ويأخذ الصّحّة، وتلاقي من العنت والشّدائد والمصائب والهموم ما تلاقي، وتُحاسب يوم القيامة، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الحديد: من الآية 20].

(فَأْذَنُوا): من كلمة الإذن، والأذن هي وسيلة الإعلام، والآذان هو إعلام بدخول الوقت، الأذن هي وسيلة التّلقّي، وسيلة السّمع: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: من الآية 36]، فأذنوا أي اعلموا، فهذا إعلام بحرب، هذه الحرب خصمك فيها من لا طاقة لك على مواجهته، الله ورسوله.

(وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ): لماذا؟ لأنّه ضمن لك رأس المال ومنع عنك زيادة الرّبا أو الفائدة الّتي هي حرام والّتي حرّمها الله سبحانه وتعالى، فإذاً الأمر يحتاج إلى توبة، من يرتكب الرّبا فقد ارتكب موبقة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا السّبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»([1]).

 


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النّساء]، الحديث رقم (2615).

الآية رقم (4) - مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ

قد يقول قائل: لماذا التّكرار؟ هنا لا يوجد تكرار، وعليك أن تنظر إلى سياق الآية القرآنيّة.

(مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ): من قبل نزول القرآن أنزل التّوراة والإنجيل لهداية النّاس، فما هي الهداية؟ هي الدّلالة على الطّريق المستقيم، فعندما ذكر أنّ نزول التّوراة والإنجيل كان قبل نزول القرآن، كان لا بدّ من أن يقول بعدها: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) فالقرآن هداية للنّاس أيضاً، حتّى لا تعتقد أنّ هداية النّاس محصورة فقط بالكتب السّابقة؛ فلذلك تكرّر التّنويه إلى نزول الفرقان.

لماذا سمّى القرآن الكريم الفرقان؟ ليبيّن أنّه سيحدث صراع بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشّرّ، فالقرآن يُفرّق بين الحقّ والباطل.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ): بعد كلّ هذا البيان والإقناع بالحجّة والبرهان فالّذين كفروا لهم عذاب شديد من قبل الله سبحانه وتعالى، وليس لنا أن نُكره أحد على الدّخول في الإسلام، وقد قال سبحانه وتعالى مُخاطباً نبيّه: )فذكِّر إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر) [الغاشية].

(واللّهَ عَزِيزٌ): والعزيز هو الغالب الّذي لا يُغلب، وتأتي بمعنى المستغني الّذي لا يحتاج إلى عبادة النّاس كما جاء في الحديث القدسيّ: «يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([1])، فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لعبادتنا.

(ذُو انتِقَامٍ): يكون هذا من جرّاء الجحود بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، والكفر بأنعمه عز وجل.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

الآية رقم (280) - وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

يضع المولى سبحانه وتعالى الدّاء ويضع العلاج، فما هو العلاج الّذي وضعه القرآن؟ (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ): هذا هو القرض الحسن، إذا كان الإنسان معسراً لديه ضيق لا يستطيع أن يوفّي القرض الّذي اقترضه في الوقت المحدّد، فنظرة الإسلام ليس للاقتصاد فقط، فالاقتصاد جزء لا يتجزّأ من حركة النّاس الاجتماعيّة؛ لأنّ الاقتصاد دعامة أساسيّة للمجتمعات، أدخل الإسلام هنا قضيّة جديدة على المفهوم المتعارف عليه، والّذي نجد أغلب المشكلات بين النّاس هي من جرّاء التّعاملات الماليّة، كما قال نبيّنا صلَّى الله عليه وسلم: «لكلّ أمّة فتنة، وإنّ فتنة أمّتي المال»([1]).

فإذا كان المقترض مُعسراً لا يستطيع سداد ما عليه فأنظره حتّى يتيسّر له سداد قرضه، ما هذا التّشريع الرّبّانيّ العظيم؟

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ): لم يكتف الإسلام بذلك وإنّما أضاف: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا)، يعني تعفيه نهائيّاً، فهذا ارتقاء في الكمالات الإيمانيّة، يجب أن لا تلاحق المحتاج بدفع القرض في وقت محدّد إذا كان معسراً، فإن استطعت أن تعفو وتتصدّق بالقرض فهو أفضل، العمليّة الاقتصاديّة الإسلاميّة بُنيت على ثلاثة أمور: الأمر الأوّل: الرّفد، الأمر الثّاني: الفرض، الأمر الثّالث: القرض.

القرض الحسن بالشّروط الّذي تحدّثنا عنها بالآية. فما هو الرّفد؟ الرّفد أن ترفد المحتاج بالصّدقة، الصّدقة لا يوجد فيها عمليّة اقتصاديّة ولاتجاريّة ولاربا ولا دَين بل هي صدقة.

إذاً بني الاقتصاد الإسلاميّ على: أوّلاً الرّفد من الصّدقة، ثانياً بعد الرّفد من الصّدقة يأتي الفرض الّذي هو الزّكاة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل في أموال الأغنياء ما يسع الفقراء، فإذاً هي قضيّة تتعلّق بالحركة الاقتصاديّة للمجتمع، فقد جعل الله سبحانه وتعالى حقوقاً للفقراء في أموال الأغنياء حتّى قال بعض العلماء: إنّ الّذي لا يدفع الزّكاة يعدُّ سارق؛ لأنّه سرق مال الفقير.

إذاً إن وجدت أنّ المقترض معسر لا يستطيع السّداد فعليك أن تتصدّق بالقرض، فهل يُتّهم هذا الدّين بأنّه دين القسوة ودين الإرهاب كما أرادوا أن يشوِّهوه بتمثيلهم له؟! هذا الدّين الّذي يرتقي في الكمالات الإيمانيّة إلى درجة أن يبني الاقتصاد بهذا الشّكل، ولكن يوجد نقطة مهمّة نبّه عليها النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله»([2])، فعندما تقترض وتريد أن تردّ القرض فإنّ الله سبحانه وتعالى يردّ عنك، وهذه من العوامل التّحفيزيّة للعمل في مجال الاقتصاد.

 


([1]) صحيح ابن حبّان: كتاب الزّكاة، باب جمع المال من حلّه وما يتعلّق بذلك، الحديث رقم (3223).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الاستقراض وأداء الدّيون والحجر والتّفليس، باب من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أو إتلافها، الحديث رقم (2257).