الآية رقم (284) - لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): إذاً حصر الله سبحانه وتعالى ملك الكون والتّصرّف فيه له، عندما قدّم (لِّلَّهِ) فكلّ ما سيأتي بعدها فهو ملك لله، فكلّ ما في السّماوات وما في الأرض ملك له جلّ وعلا، وإن اعتقد بعض النّاس في الأرض أنّ لهم ملكيّة، لكن هذه الملكيّة زائلة؛ لأنّه في عالم أغيار، فأنت تملك قصراً لكن إمّا إنّك ستغادر القصر إلى القبر وإمّا أن يغادرك القصر بالفقر، أليس كذلك؟ فإذاً (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) لا يوجد أحد معه حصر بالملكيّة إلّا الله سبحانه وتعالى.
(وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ): بكى سيّدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وبكى وبكى على هذه الآية، إن نُبدي ما في أنفسنا أو نخفيه يحاسبنا به المولى سبحانه وتعالى؟! فجاءت الآيات (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: من الآية 286]، فإذاً إلى ماذا يُشير قوله: (إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)؟ لأنّ هناك مواجيد قبل الأفعال، إمّا أن يهمّ الإنسان بالخير أو أن يهمّ بالشّرّ.. والإنسان إن فعل سيّئة كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبع مئة ضعف، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت»([1])، لكن بناء على هذه الآيات فهي:
الآية رقم (14) - زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
عندما يضلّ الإنسان فإنّ ذلك يكون نتيجة اتّباع الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية: من الآية 23]، ولكلّ هوى مفتاح، فيجب أن نعلم ما هي مفاتيح الهوى.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ): زُيّن مبني للمجهول، لم يبيّن الله عز وجل من الّذي زيّن.
(حُبُّ الشَّهَوَاتِ): هناك شهوات مركوزة في الإنسان، هذه الشّهوات هي ميل النّفس لفعل معيّن بقوّة. فالشّهوة الجنسيّة لاستبقاء النّوع، وهذا مركوز في الإنسان، لا يستطيع أحد إنكارها، كذلك حبّ الأولاد وحبّ المال.. كلّها أمور مركوزة في فطرة الإنسان الّتي فطر النّاس عليها، طالما هذه الشّهوات موضوعة في الإنسان فقد وضع الله سبحانه وتعالى مصارف لها، فمن وضعها في مصارفها الّتي أحلّها الله، فيكون الّذي زيّن هو الله سبحانه وتعالى، ومن وضعها في غير ما أحلّ الله وتعدّى فيكون الشّيطان هو الّذي زيّن، فالله سبحانه وتعالى شرع الزّواج لصرف الشّهوة الجنسيّة، وهذا طريق الحلال، قال عليه الصّلاة والسّلام: «الدّنيا متاع، وخير متاع الدّنيا المرأة الصّالحة»([1])، أمّا إن وضعها في الحرام كمن يزني ويعتدي على أعراض الآخرين، فالشّيطان زيّن له.
الآية رقم (285) - آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
هذه الآيات هي خواتيم سورة (البقرة)، وكما ورد عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: «بينا جبرئيل عليه السلام جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ سمع نقيضاً من السّماء فرفع رأسه ثمّ قال: فتح باب من السّماء لم يفتح قبله قط، فإذا مَلَك يقول: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ منها حرفاً إلّا أعطيته»([1])، وكلّنا يحفظها وكلّنا يجب أن يحفظها.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ ): كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في كثير من الأحداث الّتي تحدث: (أشهد أنّي رسول الله)، إذاً آمن الرّسول أوّلاً (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ )، والمؤمنون بعد أن آمن الرّسول آمنوا على إيمان الرّسول؛ لذلك الوهّابيّة وأمثالهم ينكرون علينا زيارة النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم، فالكعبة هي بيت الله، نقول لهم: نحن ما عرفنا الله إلّا من خلال رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، فحبّنا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلّم ليس له حدود، نحن عرفنا الله وعرفنا بيت الله من خلال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، ولولاه صلَّى الله عليه وسلّم ما آمنّا ولا عرفنا، والدّليل هو هذه الآية: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَۚ).
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ): عناصر الإيمان كلّها غيب كلّ آمن بماذا؟ بالله وملائكته وكتبه ورسله، قد يقول قائل: الكتب والرّسل ليست غيباً، لكنّ القرآن الكريم غيب، صحيح أنّه بالنّسبة لي مشهود لكنّه غيب عندما أُنزل، غيب من عند الله، والرّسول هو أيضاً بشر أمام الجيل الّذي عاصره، لكن كيف عرفوا أنّه رسول؟ فهذا غيب؛ لأنّه هو الّذي أخبرهم أنّ جبريل عليه السلام كلّفه من الله سبحانه وتعالى.
الآية رقم (286) - لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
أجاب الله سبحانه وتعالى الدّعاء وجاءت هذه الآية وهي جواب على الّذي اعتقد بأنّ الله سبحانه وتعالى سيحاسبه على ما في نفسه وليس على فعله فقال سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) طالما كلّفك إذاً هي بوسعك، وتستطيع أن تؤدّي أكثر من ذلك، بدليل أنّه كلّفك بخمس أوقات صلاة، أنت تستطيع أن تصلّي خمسين ركعة، لكنّه لم يكلّفك بخمسين، كلّفك بصيام شهر واحد وأنت تصوم اثنين وخميس بالإضافة للشّهر، وأحياناً تصوم شهرين، كلّفك اثنين ونصف بالمئة في شأن الزّكاة، وأنت قد تدفع عشرة.. إذاً هو كلّف ما في الوسع، فطالما أنّك وجدت أمراً تكليفيّاً إيمانيّاً أمر به المولى سبحانه وتعالى فاعلم أنّه بوسعك لماذا؟ لأنّه رخّص لك عندما لا يكون بوسعك فقال سبحانه وتعالى: (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [الفتح: من الآية 17]، وقال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: من الآية 184]، وقال سبحانه وتعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التّوبة]، إذاً كلّ شيء بالتّكليف ضمن الوسع.
الآية رقم (1) - الم
تبدأ السّورة كما بدأت سورة (البقرة) بالأحرف المقطّعة (الم) ولا بدّ كلّما بدأنا بسورة من السّور الّتي فيها الأحرف المقطّعة أن نعيد بعض المعاني الّتي نستنبطها من الأحرف المقطّعة في بداية السّور، وماهي فائدة هذه الأحرف المقطّعة؟ وقد قال سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص]، إذاً هو للتّدبّر والاستفادة والتّذكير، فما هي فائدة (الم)، و( كهيعص) ]مريم[، (ن) [القلم: من الآية 1]، (الر) [يونس: من الآية 1]؟ وما فائدة كلّ الأحرف المقطّعة الّتي وردت في كتاب الله تبارك وتعالى؟ هنا لا بدّ أن نُجيب عن ذلك عقليّاً لإقناع الآخرين، نحن نأخذ الدّين بالتّسليم؛ لأنّنا مسلمون، لكن عندما نخاطب النّاس يجب أن نبيّن لهم إذا عرفنا الحكمة، وأن ننقل إليهم ما قاله معظم العلماء عن الأحرف المقطّعة، فالسّؤال الّذي يجب أن نجيب عنه، هل كلّ ما لا نعرف كيفيّته لا نستفيد منه؟
الآية رقم (272) - لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
سبب النّزول:
اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرة القضاء، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمّها قتيلة وجدّتها يسألانها، وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئاً حتّى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنّكما لستما على ديني فاستأمرته في ذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية. فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية، أن تصَّدّق عليهما، فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبيّ: ولها وجه آخر، وذلك أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا، فلمّا أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوهم على أن يسلموا، فاستأمروا رسول الله فنزلت هذه الآية، فأعطوهم بعد نزولها. إذاً الإنفاق لا يتعلّق بأنّك تنفق على المسلم فقط، الله سبحانه وتعالى استدعى كلّ الخلق إلى الوجود، فأنت تستطيع أن تعطي المسلم وغير المسلم من الصّدقات إن كان محتاجاً، بدليل أنّ هذه الآية جاءت ضمن آيات الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى.
الآية رقم (2) - اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
(اللَّهُ) مبتدأ، وجملة (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو) خبر.
(اللَّهُ): واجب الوجود، وكلّ النّاس بفطرتهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، والدّليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف]، إذاً معرفة الله أمرٌ مركوزٌ في الفطرة الإنسانيّة، وهذه الفطره قد يعتريها ما يشوّهها فيرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرّسل حتّى يعودوا بالنّاس إلى عقيدة: لا إله إلّا الله.
(اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو): يقول عليه الصلاة والسلام: «أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له»([1]). طالما أنّه سبحانه وتعالى قال: إنّه لا يوجد إله غيره، وأخبرنا أنّه هو الّذي خلق السّماوات والأرض والبشر والشّجر والحجر والجماد والنّبات، فالدّعوة تسلم لصاحبها ما لم يوجد مُعارِض، فلو كان مع الله إله آخر لخرج هذا الإله علينا وقال: أنا الإله، وأنا مَن خلق السّماوات والأرض، فالأمر ثابت لله سبحانه وتعالى طالما أنّه لم يوجد مَن يُعارضه ولن يوجد، ونضرب مثالاً، ولله المثل الأعلى: إذا كان هناك جماعة من النّاس متواجدين في مكان ما، ثم ذهب كلٌّ منهم إلى داره، وعندما دخل المسؤول عن هذا المكان لترتيبه وجد فيه محفظة فيها مبلغ من المال، ثمّ جاءه رجلٌ ممّن كانوا متواجدين قائلاً: إنّه نسي محفظته، فالدّعوة تسلم له ما لم يوجد معارض، فإذا لم يأتِ أحد غيره ويدّعي أنّ هذه المحفظة له، فهي لمن طالب بها بالحجّة والبرهان. فكلّ ما جاء في القرآن الكريم إنّما يعتمد على الحجّة والبرهان والمنطق.
الآية رقم (273) - لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ
(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ): هذا مثال على مصرف من مصارف الزّكاة، الفقراء الّذين أُحصروا، ونزلت في المهاجرين الّذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة المنوّرة، وليس لهم سبب يردّون به على أنفسهم ما يغنيهم، وقوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ) يعني: سفراً للتّسبّب في طلب المعاش، والضّرب في الأرض: هو السّفر.
(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ): هذا دليلٌ على أنّهم لا يطلبون ولا يسألون، فالجاهل بحالهم يحسبهم أغنياء من تعفّفهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، لكن كيف تعرفهم؟ تعرفهم بسيماهم، ماهي السّيمة؟ هي العلامة المميّزة، تعرفهم بخشوعهم وانكسارهم وليس بألسنتهم وسؤالهم وطلبهم.
(لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا): لا يسألون ويلحّون في السّؤال ويقفون على أبواب النّاس، هذا مصرف، ما الّذي يجب علينا أن نفهمه؟ يجب أن لا نترك المحتاج حتّى يسأل، كأنّ الآية تقول لنا: إنّ هناك كثيراً ممّن نحسبهم أغنياء من التّعفّف علينا أن نبحث عنهم وننظر بسيماهم ونتطلّع إلى أحوالهم؛ لذلك شُرعت صلاة الجماعة وصلاة الجمعة حتّى يكون الاجتماع بين النّاس، وحتّى يسأل النّاس بعضهم بعضاً، وحتّى يرى النّاس حاجات الآخرين ويشعر بحاجة الضّعيف والمريض والمحتاج والمسكين وإن لم يطلب، ليس كلّ النّاس يقفون على الأبواب ويمدّون أيديهم ويطلبون.
(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ): كن مطمئنّاً بأنّ من عملت لأجله يعلم، فإذاً على قدر ما تعمل لأجله وعلى قدر ما تبحث عن حاجات الضّعفاء والمساكين على قدر ما يكون لك الأجر، فكن مطمئنّاً بأنّه عليم.
الآية رقم (3) - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ): نزّل عليك القرآن يا محمّد بالحقّ كما قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء: من الآية 105]، والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر.
(مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ): ما بين يديه أي الكتب الّتي سبقته، فالقرآن مصدّق لما جاء في التّوراة والإنجيل فيما يتعلّق بالعقائد والآخرة وأصول الدّين، وما يتعلّق بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى والجنّة والنّار…
(وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ): هناك فارق بين نزّل وأنزل، عندما تحدّث عن القرآن الكريم قال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ)، وعندما تحدّث عن التّوراة والإنجيل قال: (وَأَنزَلَ)، مع أنّه يوجد آيات تتعلّق بالقرآن استخدم فيها لفظ (أنزل)، كقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر]، لماذا؟ لأنّ القرآن الكريم نزل مفرّقاً على قلب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، أمّا عندما تقول: (أنزل) فالمقصود أنّه نزل جُملة واحدة، فالتّوراة نزلت دفعة واحدة وكذلك الإنجيل، بينما القرآن نزل منجّماً خلال ثلاثة وعشرين عاماً، أمّا قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر]، فالمقصود أنّه نزل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا دفعة واحدة، ثمّ نزل منجّماً على قلب سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فعندما يتحدّث عن الإنزال الأوّل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا يقول: (أنزل)، أمّا (نزّل) فالمقصود نزوله مفرّقاً، وأوّل ما نُزّل في الغار على سيّدنا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم قوله سبحانه وتعالى: (اقْرَأْ) [العلق: من الآية 1]. ونحن نؤمن بالكتب السّماويّة، وهذا مصداق للآيات في خواتيم سورة (البقرة).
الآية رقم (274) - الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إذاً الإنفاق إمّا أن يتعلّق باللّيل والنّهار أي بالزّمن أو بالكيفيّة، أي: السّرّ والعلانيّة، فلا تؤخّر صدقة تستطيع أن تفعلها في اللّيل إلى النّهار، ولا تؤخّر صدقة تستطيع أن تفعلها في النّهار إلى اللّيل، ولا تنفق فقط في العلانية، بل أنفق في السّرّ وفي العلن.
سبب النّزول:
كان لعليّ رضي الله عنه أربعة دراهم، فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية، فنزلت: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً).
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) يأخذون أجرهم من الله، ولا خوف عليهم من مستقبل ينتظرهم؛ لأنّ المستقبل بيد الله سبحانه وتعالى وأنت تعمل لله، فإذاً لا خوف عليك، ولن تحزن في الآخرة، ولن تحزن نتيجة شعورك أنّ مالك نقص، فالحزن لن يدخل إلى قلبك لا في الدّنيا ولا
في الآخرة ما دمت تتعامل في الصّدقة مع الله ولا تتعامل مع الفقراء.
الآية رقم (4) - مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
قد يقول قائل: لماذا التّكرار؟ هنا لا يوجد تكرار، وعليك أن تنظر إلى سياق الآية القرآنيّة.
(مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ): من قبل نزول القرآن أنزل التّوراة والإنجيل لهداية النّاس، فما هي الهداية؟ هي الدّلالة على الطّريق المستقيم، فعندما ذكر أنّ نزول التّوراة والإنجيل كان قبل نزول القرآن، كان لا بدّ من أن يقول بعدها: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) فالقرآن هداية للنّاس أيضاً، حتّى لا تعتقد أنّ هداية النّاس محصورة فقط بالكتب السّابقة؛ فلذلك تكرّر التّنويه إلى نزول الفرقان.
لماذا سمّى القرآن الكريم الفرقان؟ ليبيّن أنّه سيحدث صراع بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشّرّ، فالقرآن يُفرّق بين الحقّ والباطل.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ): بعد كلّ هذا البيان والإقناع بالحجّة والبرهان فالّذين كفروا لهم عذاب شديد من قبل الله سبحانه وتعالى، وليس لنا أن نُكره أحد على الدّخول في الإسلام، وقد قال سبحانه وتعالى مُخاطباً نبيّه: )فذكِّر إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر) [الغاشية].
(واللّهَ عَزِيزٌ): والعزيز هو الغالب الّذي لا يُغلب، وتأتي بمعنى المستغني الّذي لا يحتاج إلى عبادة النّاس كما جاء في الحديث القدسيّ: «يا عبادي لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً»([1])، فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لعبادتنا.
(ذُو انتِقَامٍ): يكون هذا من جرّاء الجحود بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، والكفر بأنعمه عز وجل.
([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).
الآية رقم (275) - الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
القضيّة في الآيات الّتي مرّت معنا هي قضيّة اقتصاديّة، وعماد الاقتصاد الإسلاميّ قائمٌ على تحقيق الاقتصاد السّليم في المجتمع من خلال الزّكاة والصّدقات وكيفيّة أداء فعل الزّكاة الّتي هي فعل عمل اقتصاديّ. ولا بدّ من بيان أنّ طريقة التّعامل بين الغنيّ والفقير يعتريها قضيّة خطيرة اقتصاديّة يقوم عليها الاقتصاد الرّأسماليّ الآن أو اقتصاد معظم الدّول، وهي الرّبا.
وتعريف الرّبا: هو الزّائد، وهو أن تستغلّ حاجة المحتاج وتضاعف مالك من خلال استغلال احتياجه، إذاً هو أسوأ صورة من صور العمل الاقتصاديّ؛ لذلك قال بعض العلماء الاقتصاديّين: لا يكون الاقتصاد سليماً إلّا إذا كانت الفائدة صفراً، يعني لا يوجد ربا، إذاً الرّبا هو استغلال حاجة المحتاج، ماذا يحدث؟ لماذا هذه العلاقة علاقة بشعة؟ الّذي يحدث أنّ هذا غنيّ وهذا محتاج فقير، الغنيّ يضمن أن يعيد ماله وزيادة من المال الّذي أقرضه للفقير، الّتي هي الرّبا، أو ما تُسمّى في أيّامنا: الفائدة، فإذاً هو استغلّ الحاجة وإضافة لاستغلاله للحاجة كسب على قدر حاجة المحتاج، وتأتي الآيات هنا لتبيّن خطورة الرّبا في المجتمع الّذي هو أساس الفساد الاقتصاديّ، فعلّة وآفة المال الرّبا، فإذا ظهر الزّنا والرّبا في قوم فقد أحلّوا بأنفسهم سخط وعذاب الله.
الآية رقم (5) - إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء
أراد أن يبثّ في نفس الإنسان الاطمئنان وخصوصاً إذا كان هذا الإنسان مؤمناً بوجود الله، أنّه يعلم السّرّ وأخفى، فأنت أين ما كنت وبأيّ وقت كنت فإنّ الله سبحانه وتعالى مطّلع على الأعمال والسّرائر.
والسّماء والأرض ملك لله سبحانه وتعالى، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة]، فإذاً هو المتصرّف والمدبّر لشؤون الخلق كما قال في أوّل السّورة: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، وهذا الإله المدبّر لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء. فلا يمكن أن تكون هناك أخلاق وقيم من دون الرّقابة الدّينيّة الّتي تنشأ نتيجة علم الإنسان أنّ الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، وهي الضّمان كيلا يجترئ أحد على الكذب والغيبة والنّميمة والسّرقة والزّنى والرّشوة وارتكاب الموبقات وشرب الخمر… إن كان مؤمناً أنّ الله معه يسمع ويرى.
الآية رقم (276) - يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
فإذاً هذه إشاعة الخير في المجتمع، ما هذه المقارنة العظيمة؟
(يَمْحَقُ): المحق: النّقصان، ومنه: المحاق، آخر الشّهر إذا انمحق الهلال، يُقال: محقه: إذا نقصه وأذهب بركته، أي يزول أثراً بعد أثر، فإذاً لا يزول مال الرّبا دفعة واحدة، ولكن انظروا إلى المرابين وانظروا إلى ميراثهم لأبنائهم هل مُحق أم لا؟ هذا قرآن يُتلى ويتعبّد به ويُصلّى به إلى يوم الدّين، فلا يمكن أن يقول المولى: إنّه يمحق الرّبا إلّا ويُمحق الرّبا، ولكن لا يزول دفعة واحدة، هذا الدّاء داء خطير في المجتمعات يدمّر اقتصاد المجتمعات.
(وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): الزّيادة تكون بالصّدقة، فإذا أردت أن يزيد مالك ويربو فعليك أن تنفق منه على خلق الله وتُساعد المحتاجين والفقراء، فأيّ صورة راقية وأعظم وأجمل وأربى من هكذا صورة.
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ): لم يقل سبحانه وتعالى: (والله لا يحبّ كلّ كافر آثم)، وإنّما استخدم صيغة مبالغة للكلمتين: (كَفَّارٍ) صيغة مبالغة من كافر، (أَثِيمٍ) صيغة مبالغة من آثم، فهو مُكثر في جحوده لأمر الله وكفره؛ لأنّه أحلّ الرّبا واستغلّ حاجة المحتاجين؛ لذلك جاءت نهاية الآية المتعلّقة بالرّبا وأكلة الرّبا في المجتمع: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).
الآية رقم (6) - هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ): لم يقل: (هو الّذي صوّركم) بالماضي، إنّما استخدم الفعل المضارع الّذي يدلّ على الاستمرار؛ لأنّه في كلّ لحظة من اللّحظات يتمّ فيها تلقيح البويضة في الرّحم ويحدث حمل، فالحمل ليس مثل القالب، يصنعون بواسطته مئات الآلاف على نفس النّموذج، الخلق ليس كذلك، الله سبحانه وتعالى يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الرّوم]، والتّصوير في الأرحام هو جعل الشّيء على صورة معيّنة، أبيض أو أسود، ذكر أو أنثى.. واختلاف الألسنة واختلاف الألوان هذا هو التّصوير في الأرحام، وكلّ ذلك وفق مشيئته، فالله سبحانه وتعالى جعل لكلّ إنسان في كلّ يد خمس أصابع، لكنّه إن شاء يخلق أحدهم بستّ أو سبع أو ثلاث أصابع.. يخلق هذا أعمى وهذا أطرش وهذا بعاهة، هذا الخلق لماذا يكون فيه شذوذ عمّا اعتاده النّاس؟ ليلفت المولى سبحانه وتعالى النّاس وخصوصاً الّذين يسهون عن نِعَم الله سبحانه وتعالى، فقد يعتقد بعضهم نتيجة الرّتابة أنّ هذا الأمر هو أمر له ديمومة، ولا يطرأ عليه تغيير، فينبّههم أنّهم من عالم الأغيار، فاليوم قد يكون الإنسان صحيحاً وغداً سقيماً، اليوم غنيّ وغداً فقير، اليوم حيّ وغداً ميّت، فإذاً كان هناك بعض الشّذوذ في الخلق فالمراد منه أن ينظر الإنسان دائماً إلى نِعَم الله سبحانه وتعالى ولا يسهو عنها.
الآية رقم (277) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
لا يُقبل الإيمان وحده دون عمل صالح، فالإيمان ليس بالتّحلّي ولا بالتّمنّي، ولكنّ الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إذاً هات برهانك على الإيمان، وأوّل برهان على الإيمان أن تنفق ممّا أعطاك الله، قال سبحانه وتعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: من الآية 92].
(وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ): أضاف ركنين من أركان الإسلام، ركن استدامة الولاء لله، ركنٌ دائمٌ لا يسقط عنك في حالٍ من الأحوال وهو الصّلاة؛ لأنّ الزّكاة تسقط عن الفقير، والحجّ لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذا والصّوم يسقط عن المريض، إلّا الصّلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النّساء: من الآية 103]، الصّلاة لا تسقط لا بمرض ولا بغيره، فإن لم تستطع قائماً صلّيت قاعداً، وإن لم تستطع قاعداً فمستلقياً، وإن لم تستطع مستلقياً فبعينيك، فإن لم تستطع بعينيك أخطرت أركان الصّلاة على ذهنك، فإذاً لا تسقط الصّلاة في حال من الأحوال، والصّلاة مدخل إلى كلّ العبادات.
(وَآتَوُا الزَّكَاةَ): غالباً ما نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يربط ركن الزّكاة بركن الصّلاة، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النّور]، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [المزمّل]، الصّلاة هي صلة مع الله وهي استدامة ولاء لله، والزّكاة هي برهان على صدقك مع الله تبارك وتعالى.
الآية رقم (7) - هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ): هناك كثير من النّاس يحاولون أن يشوّهوا القرآن ويسيئوا فهم الدّين وفهم آيات القرآن الكريم ومن بينهم المستشرقون وبعض مدّعي العلم.
(آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ): الـمُحكَم: هو الّذي لا يتسرّب إليه خلل في الفهم، وعُرِف المراد منه، وهو لا يحتمل من التّأويل إلّا وجهاً واحداً.
وهكذا فإنّ كلّ الآيات المتعلّقة بالأوامر والنّواهي هي آيات محكمة، أمّا الـمُتشابه: مأخوذ من الشَّبَه، وهو التّماثل بين شيئين أو أشياء، ولَــمّا كان التّماثل بين الأشياء يؤدّي إلى الشّكّ والحيرة، ويُوقع في الالتباس، توسّعوا في اللّفظ، وأطلقوا عليه اسم (المتشابه)، ويُقصد به ما كان غير واضح الدّلالة، أو ما احتمل أكثر من وجه.
مثال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة]، هذه آيةٌ محكمةٌ، إذاً الآيات المحكمة هي الآيات المتعلّقة بأشياء عليك أن تفعلها، أمّا الآيات المتشابهة متعلّقة بأشياء عليك أن تؤمن بها فقط، ففي العقائد يريد منك أن تؤمن أنّه يوجد جنّة، ولكن هل تستطيع رؤية الجنّة؟
الآية رقم (278) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب هنا للمؤمنين، فالمؤمن بينه وبين الله سبحانه وتعالى عقد إيمانيّ، فعليه أن يأخذ الأوامر والتّكاليف من الله سبحانه وتعالى، فعند التّكاليف والأوامر الإلهيّة يأتي الخطاب للّذين آمنوا، فإذا استخدم الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
فاعلم أنّ بعدها وظيفة وتكليفاً إيمانيّاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: من الآية 183]، (يأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم) [البقرة: من الآية 254]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النّساء]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النّساء], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب) [المائدة]، حتّى عمليّة ترك الرّبا خوطب بها المؤمنون؛ لأنّ الرّبا كان سائداً في المجتمع الجاهليّ.
الآية رقم (8) - رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثر أن يدعو: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك»، قلت: يا رسول الله، دعوة أراك وأسمعك تُكثر أن تدعو بها: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قال: «ليس من آدميّ إلّا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه»([1]).
(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): فالهداية تكون من الله سبحانه وتعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص: من الآية 56]، ومن كتاب الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: من الآية 9] ومن سنّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشّورى: من الآية 52].
(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً): هب لنا؛ لأنّ الرّحمة عطاء وهبة من الله تبارك وتعالى، فهي ليست حقّ لك. ودين الإسلام صفته الأساسيّة أنّه دين الرّحمة لماذا؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء]، فديننا رحمة بالإنسان وبالحيوان وبالنّبات وبجميع خلق الله، فكيف بدينٍ عنوانه الرّحمة وربّه سبحانه وتعالى من أسمائه: الرّحمن الرّحيم، ونبيّه هو رحمة للعالمين، ثمّ يكون المسلم مصدراً للقتل وللشّرّ وللأذيّة ولجميع أنواع الآثام في المجتمعات، كيف نحوّل الإسلام من دين رحمة ومن عطاء إلهيّ ومن نبيّ كريم يقول له المولى سبحانه وتعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم]، إلى إجرام وقتل؟!
([1]) سنن النّسائيّ الكبرى: كتاب التّعبير، باب 47، الحديث رقم (7737).
الآية رقم (279) - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): إذاً هناك من يريد ألّا يفعل، وبدليل ما نراه الآن في كلّ الكرة الأرضيّة من النّظام الرّأسماليّ.
(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ): هذا أمر مخيف جدّاً، فهذه المرّة الوحيدة الّتي يستخدم فيها المولى سبحانه وتعالى هذه العبارة (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ).
(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدّثر: من الآية 31]، فلا تعرف من أين يأتيك، يمحق المال، ويأخذ الصّحّة، وتلاقي من العنت والشّدائد والمصائب والهموم ما تلاقي، وتُحاسب يوم القيامة، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الحديد: من الآية 20].
(فَأْذَنُوا): من كلمة الإذن، والأذن هي وسيلة الإعلام، والآذان هو إعلام بدخول الوقت، الأذن هي وسيلة التّلقّي، وسيلة السّمع: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: من الآية 36]، فأذنوا أي اعلموا، فهذا إعلام بحرب، هذه الحرب خصمك فيها من لا طاقة لك على مواجهته، الله ورسوله.
(وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ): لماذا؟ لأنّه ضمن لك رأس المال ومنع عنك زيادة الرّبا أو الفائدة الّتي هي حرام والّتي حرّمها الله سبحانه وتعالى، فإذاً الأمر يحتاج إلى توبة، من يرتكب الرّبا فقد ارتكب موبقة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا السّبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»([1]).
([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النّساء]، الحديث رقم (2615).