الآية رقم (193) - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ

هذه الآيات تتعلّق بالمشركين فهم كانوا يصدُّون المسلمين عن الإسلام، إذاً لها سبب ولها مبرِّر واضح وليست الآية هكذا مطلقة إنّما (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) هم يريدون أن يفتنوا المسلمين ويمنعوهم عن الدّين ويعتدوا عليهم.

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فأنت إذاً لا تجبر النّاس على الدّين، وإنّما تحمي حريّة اختيار النّاس للدّين، فهذه حماية حريّة الاختيار.

(فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ): إذاً فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظّالمين، والظّالم هو المعتدي.

(فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا): هذه مشاكلة لفظيّة، والمشاكلة: ذكر الشّيء بلفظٍ مماثل لوقوعه في صحبة مماثله، مثل قوله تبارك وتعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) [الأنفال: من الآية 30]،  هذا في اللّغة العربيّة يُسمّى مشاكلة لفظيّة، فالله تبارك وتعالى ليس ماكراً ولا يمكر، لكن هذه مشاكلة لفظيّة، يمكرون أي يبيّتون بخفاء، والله يردّ مكرهم وتبييتهم وكيدهم، وهكذا هنا المعنى: (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) الأصل لا عدوان، والعدوان على الظّالمين، هو ردّ ظلم الظّالمين، وهذا من قبيل المشاكلة اللّفظيّة.

الآية رقم (183) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

فرض الله تبارك وتعالى صيام شهر رمضان في شعبان من السّنة الثّانية للهجرة، فكيف هيّأ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين والمجتمع لاستقبال رمضان، ماذا فعل قبل رمضان؟ ماذا يجب علينا أن نعدّ لاستقبال هذا الضّيف الكريم؟ لله درّك يا رمضان، كم لك من أياد تسديها، كلّما آذنت شمسك بالشّروق، وحلّ طيفك في الدّيار، فعن سيّدنا سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في آخر يومٍ من شعبان فقال: أيّها النّاس، قد أظلّكم شهر عظيم، شهر مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوّعاً، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان  كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصّبر، والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد فيه رزق المؤمن، من فطّر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينتقص من أجره شيء، قلنا: يا رسول الله، ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم، قال: يُعطي الله هذا الثّواب من فطّر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتّى يدخل الجنّة، وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتان ترضون بها ربّكم، وخصلتان لا غنى لكم عنهما، فأمّا الخصلتان اللّتان ترضون بهما ربّكم فشهادة أن لا إله إلّا الله وتستغفرونه، وأمّا اللّتان لا غنى لكم عنهما فتسألون الله الجنّة وتعوذون به من النّار([1]) بهذا الحديث الجامع الشّامل هيّأ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام المجتمع لاستقبال رمضان، ونحن نستقبل رمضان الكريم المبارك بهذه الآيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)إذاً عندما يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فلنعلم أنّ هناك أمراً تكليفيّاً، أمّا بعد قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)  فهو أمر إخباريّ.

الآية رقم (194) - الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

(الْحَرَامُ): أي ما يحرم هتكه، والحلال: هو ما يحلّ لك أن تفعله.

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ): الأشهر الحُرُم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب، حرَّمت العرب قبل الإسلام على نفسها القتال فيها وأقرَّها الإسلام، وهذه الأشهر الحرم لا يجوز فيها القتال، لكن إذا قاتلوكم في الشّهر الحرام فقاتلوهم وردّوا عدوانهم، لا يجوز لك أن تقعد وتقول: إنّني مثلاً في رجب، وشهر رجب هو شهر حرام أو شهر ذي القعدة أو ذي الحجّة فيأتي من يعتدي عليك ويقتلك وتقول: هذا شهر حرام لا أستطيع أن أقاتل فيه وأدافع عن نفسي، لا، فلا بدّ من ردّ هذا العدوان.

الآية رقم (184) - أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ): هو أيّام طبعاً، فمعظم العلماء قالوا: إنّ هذه الآيات كانت بداية لفريضة الصّيام حيث أنّ المسلم كان مخيّراً في أن يصوم أو لا يصوم، وكان الصّوم لمدّة ثلاثة أيّام في العشرة والعشرين والثّلاثين من الشّهر، ثلاثة أيّام فقط في الشّهر، بعد ذلك جاءت الفريضة بصيام شهر رمضان بأكمله، لذلك نجد أنّ الآيات لا يوجد فيها تكرار، فيها تدرّج في الحكم، والتّدرّج في الحكم في القرآن الكريم يأتي لأجل إِلف العادة، كذلك كان التّدرّج في تحريم الخمر؛ لأنّ النّاس ألفت أن تشرب الخمر في المجتمع، فدائماً الإسلام دين تيسير، والله ييسر لعباده، والعباد يريدون العسر، لذلك من سياق الآيات يتبيّن التّيسير، فإذا كان المسلم مريضاً أو على سفر يُفطر ويقضي بعد ذلك عدّة من أيّام أخر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في سفره فرأى رجلاً قد اجتمع النّاس عليه، وقد ظلّل عليه فقال: ما له؟، قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر([1])

الآية رقم (195) - وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

الله سبحانه وتعالى يشرّع كلّ ما يتعلّق بحياة الإنسان وقد يتهيّأ لك بأنّ هناك قَطْعاً بين الآيات، بأن كان يتحدّث عن موضوع وانتقل إلى موضوع آخر، والحقيقة هناك وحدة في الأمر هي وحدة الإنسان وحياته وما يتعرّض له في مناحي حياته، فالإسلام إنّما جاء من أجل الإنسان: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء]، وجاء الدّين لسعادة البشريّة ولم يأت لشقائها، الدّين من عند الخالق، خالق الإنسان هو أعلم بما يصلح الإنسان، وطالما أنّ القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى فإذاً هو يعطي كلّ ما يتعلّق بهذا الإنسان وما سيتعرّض له الإنسان في حياته ومآله بعد مماته، إذاً ترى الصّورة واضحة عندما تقرأ كلام الله سبحانه وتعالى، ترى الصّورة الأولى الحياة الدّنيا، والحياة الآخرة هي العليا؛ لأنّها هي الحياة المستمرّة الدّائمة، يقول تبارك وتعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)] [العنكبوت: من الآية 64]، وعندما يموت الإنسان يقولون: انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، إذاً هذه الدّنيا زائلة، والإنسان عليه أن يأخذ من أخلاق ربّه حتّى يصلح حاله ويصلح نفسه ويصلح غيره، فدعوة الأديان ليست دعوة تتعلّق فقط بحياة الإنسان بعد الممات في الدّار الآخرة، إنّما تتعلّق أيضاً بإصلاح أحوال المجتمعات، فإذا صلُح الفرد صلُح المجتمع، فالفرد هو الوحدة الأولى واللّبنة الأساسيّة لبناء المجتمع، فإذا صلُحت الأسرة صلُح المجتمع، فيربّي القرآن الفرد في المجتمع من كلّ مناحي حياته ويوجّهه إلى ما يتعلّق بأحكام الصّيام، وما يتعلّق بأحكام المال، وما يتعلّق بأحكام القتال، وما يتعلّق بأحكام السّنن الحضاريّة

الآية رقم (174) - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ﴾: حين يُنزل الله سبحانه وتعالى الكتب على رسله، تبلّغه الرّسل ويحمِله أولو العلم ليبلّغوه للنّاس، فالّذين يكتمون ما أنزل الله إنّما يصادمون منهج السّماء، ويصبحون عوائق لمنهج الله الّذي جاء لينظّم حركة الحياة، وهذا لا يتأتّى إلّا من إنسان يريد أن يتمتّع بباطل الحياة وزخارفها على حساب النّاس وأكل حقوقهم.

وما نفعهم في ذلك؟ لا بدّ أنّه يوجد لهم نفع، هذا النّفع هو الثّمن القليل، مثل (الرّشوة)، أو الأشياء الّتي كانوا يأخذونها من أتباعهم ليحرِّفوا ويُبدِّلوا أحكام الله على مقتضى شهوات النّاس، فالله يبيّن لهم: أنّ الشّيء لا يُثمّنه إلّا من يعلم حقيقته، وأنتم تُثَمّنون منهج الله، ولا يصّح أن يُثَمِّن منهج الله إلّا الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يجب أن يكون الثّمن الّذي وضعه الله لتطبيق المنهج ثمناً مربحاً مقنعاً لكم، فإن أخذتم ثمناً على كتمان منهج الله وأرضيتم النّاس بأحكام توافق أهواءهم وشهواتهم، فقد خسرتم في الصّفقة؛ لأنّ ذلك الثّمن مهما علا بالتّقدير البشريّ، فهو ثمن قليل وعمره قصير، والأثمان عادة تبدأ من أوّل شيء مرتبط بحياة الإنسان والّذي به قوام حياته من مأكل ومشرب، لذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾، وإذا كانوا يأكلون في بطونهم ناراً، فكيف يكون استيعاب البطون لتلك النّار؟

المؤمن كما قال الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يأكل في مَعي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، أي أنّ الكافر لا يأكل إلّا تلذّذاً بالطّعام؛ فهو يريد أن يتلذّذ به دائماً حتّى يضيق بطنه بما يدخل فيه، لكن المؤمن يأخذ من الطّعام بقدر قوام الحياة، فسيّد الخلق محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في الحديث الشّريف: ما ملأ آدميّ وعاء شراً من بطن، حسب الآدميّ لُقَيمات يُقِمن صلبه([1]). إذاً فالأكل عند المؤمن هو لمقوّمات الحياة وكوقود لحركته، ولكن الكافر يأخذ الأكل لمتعة ذاتيّة، قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم﴾ [محمّد: من الآية 12].

الآية رقم (152) - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ

يا من تعيش في نعم الله يجب عليك ألّا تنسى المنعم، لذلك في سورة (الكهف) قال تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: من الآية 24]،  أي عش دائماً مع الله سبحانه وتعالى، فلا تنسَ الله؛ لأنّك تعيش في دنيا الأسباب، فإذا ذكرت المسبّب لا شكّ أنّك ستتعرف إلى النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليك في هذه الحياة.

الذِّكْر: استحضار الشّيء في البال. وذكر الله: أي عدم نسيانه، بأن تبقى مع الله، والعجيب أنّنا نجد الوهّابيّين يهاجمون علماء الشّام وأهلها؛ بسبب مجالس الذِّكر ومجالس الصّلاة على النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الّتي يقيمونها، نحن نحاجّهم بالقرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: من الآية 200]، فإذا قضيتم الصّلاة فاذكروا الله، إذاً المناسك شيء والذّكر شيء.

فالذِّكر أسهل وأشمل العبادات على الإطلاق، أن تكون مع الله سبحانه وتعالى، أنت تحتاج إلى ترداد اللّسان حتّى يتحرّك القلب وحتّى يصبح هناك حضور للقلب، فعندما تذكر الله سبحانه وتعالى هل تأتي ببدعة في الدّين؟! هل تخالف أمر الله؟!، ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، فإن ذكرناه فإنّه سبحانه وتعالى يُمطر علينا من سحائب رحمته.

وذكر الله سبحانه وتعالى ورد في كثير من آيات القرآن، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة]، وامتدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنّهم: ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: من الآية 191].

فالذِّكر أن تعيش مع الله سبحانه وتعالى، واعتقد بعضهم أنّ أهل الذّكر في الشّريعة الإسلاميّة أخذوا منحى غير مطلوب عندما ردّدوا الكثير من الأذكار، ونحن نقول: إنّ معاني الذّكر واسعة وكثيرة في كتاب الله، والمقصود من الذّكر أن لا تنسى الله وأن تعيش مع الله سبحانه وتعالى، ولا بدّ من ترداد عبارات اللّسان لتحريك القلوب وهذا أمر حسن وجيّد، لكن معنى الذّكر بشكل عامّ هو القرآن كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ [الحجر]، عندما تقرأ القرآن الكريم فأنت مع الله سبحانه وتعالى فأنت تذكر الله، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربّه: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين»([1])، وعندما تصلّي على سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فأنت تذكر الله سبحانه وتعالى، وعندما تقول: لا إله إلّا الله، فأنت تذكر الله سبحانه وتعالى، وعندما تقول: سبحان الله، فأنت تذكر الله سبحانه وتعالى، قال صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربّه عزَّ وجلّ: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه»([2]).

كلّ صيغ الذّكر الّتي وردت عن سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أو عن الصّحابة الكرام أو عن العلماء الرّبّانيّين، هذه الصّيغ للذّكر تحرّك القلوب باتّجاه ذكر المولى سبحانه وتعالى وهذا هو المطلوب أن تعيش مع الله، وليس المطلوب ترداد لعبارات فقط باللّسان، لذلك ورد في الحديث القدسيّ: «أنا عند حسن ظنّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»([3]).

هذا يعطي المعنى الشّامل الواسع للذّكر بأنّ تعيش في معيّة الله سبحانه وتعالى وهذا هو المقصود الحقيقيّ لكلّ مجالس الذّكر الّتي تُقام والّتي يتمّ فيها الإكثار من ذكر الله والصّلاة على الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

والآية الّتي أمرت بالصّلاة على النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هي في سورة (الأحزاب): ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب].

والآية الّتي أمرت المؤمنين بذكر الله سبحانه وتعالى هي أيضاً في سورة (الأحزاب): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾[الأحزاب].

لماذا ورد الأمر بهذه الأذكار؟

حتّى نعيش في معّية الله سبحانه وتعالى، لذلك عندما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، يذكّرنا بالنّعم الّتي يغدقها علينا، بشكل عامّ حصّنوا النّعم بذكر المنعم، كما ورد في سورة (الكهف): ﴿وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [الكهف: من الآية 39]، أنت تحصّن النّعمة بذكر المنعم، هذا هو معنى الذّكر أن تعيش مع الله سبحانه وتعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 7]، العلاقة والاتّصال الدّائم مع الله، الذّكر هو أسهل العبادات وأكثر العبادات الّتي تجعل من الإنسان دائم الصّلة مع الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ألا أُخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذّهب والفضّة، ومن أن تلقوا عدوّكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله»([4]). لذلك وردت هنا: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون

 ﴿وَاشْكُرُواْ لِي﴾: عندما تذكر فأنت تشكر، وعندما تشكر تكثر النّعم عليك بدليل: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: من الآية 7]، إذاً حصّنوا النّعم بسياج ذكر المنعم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب فضائل القرآن، الحديث رقم (2926).
([2]) شعب الإيمان: العاشر، فصل في إدامة ذكر الله عزَّ وجلّ، الحديث رقم (509).
([3]) شعب الإيمان: العاشر، فصل في إدامة ذكر الله عزَّ وجلّ، الحديث رقم (550).
([4]) مسند أحمد بن حنبل: مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، الحديث رقم (22132).

الآية رقم (164) - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

قال سبحانه وتعالى في الآية السّابقة: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، فما هي الدّلالة على أنّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو إله واحد؟ الله سبحانه وتعالى يريد منّا أن نصل إلى الإيمان به من خلال العقل، وأن نستدلّ على وجوده من خلال مخلوقاته وما أبدعه في هذا الكون، فقال في هذه الآية الجامعة الّتي جمعت بعض مخلوقاته: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ… ﴾ فالإنسان مخلوق، وعندما خلقه الله سبحانه وتعالى أعدّ له مقوّمات الحياة، فالسّماء تُظلّ الإنسان، والأرض تُقلّه، وهو بين زمان ومكان، والمكين الّذي هو الإنسان يكون بين زمان ومكان، الزّمان من تعاقب اللّيل والنّهار، وتعاقب اللّيل والنّهار آية تدلّ على أنّ الزّمن يسير بالإنسان إلى أجله ونهايته.

بيّن الله سبحانه وتعالى أنّه هو الّذي خلق السّماوات والأرض والزّمان والمكان
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: من الآية 57]، وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ الأرض الّتي خُلِق منها الإنسان أكبر من خلقه هو، وعندما حُلّلت المواد الّتي يتكوّن منها الإنسان ويتكوّن منها طين الأرض، مع تقدّم العلم، تبيّن بأن هناك ستّ عشرة مادّة من المنغنيز إلى الأكسجين وغيرهما.. يتكوّن منها الطّين، ويتكوّن منها ذاتها الإنسان.

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه]، من الأرض خُلِق الإنسان وإليها يعود، يُدفن في الأرض بين التّراب ولقد خُلِق من تراب ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: من الآية 67].

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: لم يستطع أحد من الخلق أن يدّعي خلق السّماوات والأرض، أو خلق اللّيل والنّهار، أو خلق الشّمس والقمر، أو أنّ تعاقب اللّيل والنّهار من صنعه، فالله سبحانه وتعالى هو الّذي قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان].

﴿خِلْفَةً﴾: أي أنّ اللّيل يخلف النّهار، والنّهار يخلف اللّيل، تعاقب اللّيل والنّهار يدلّ على حركة الأرض حول الشّمس، فالّذي خلق السّماوات والأرض وخلق تعاقب اللّيل والنّهار هو الله سبحانه وتعالى.

والفلك: يطلق على السّفينة، وكلمة الفلك هي جمع ومفرد، كما قال الله سبحانه وتعالى عن سيّدنا نوح عليه السَّلام: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ [هود: من الآية 38]، والمراد سفينة واحدة، فسيولة الماء الّتي تحمل الفلك والرّياح الّتي تُسيّرها، هي معجزة من معجزات خلق الله سبحانه وتعالى ولولا هذه السّيولة في الماء لما كان هناك فلك تجري في البحر.

﴿وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾: هل الماء في السّماء أم في الأرض؟ الماء في الأرض، لكنّه ينزل من السّماء، ويغطّي ثلاثة أرباع الأرض ماءُ البحار والمحيطات والأنهار، وتشكّل اليابسة ربع الأرض فقط، وكلّما اتّسع سطح التّبخّر كانت سرعة التّبخّر أكبر، فتتبخّر هذه المياه وتصعد إلى السّماء، وبعدها يحدث هنالك بخر وتكثيف، وتلقيح مع الرّياح واختلاف بالنّسبة للبرودة والحرارة ممّا يؤدّي إلى نزول الماء، إذاً أصل الماء من الأرض، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الرّوم]، ولكن في الأرض مياه البحار والمحيطات محفوظة بمواد وهي غير صالحة للشّرب، حفظه الله من الفساد، فالله سبحانه وتعالى خلق كلّ شيء صالحاً، وما أُفسِد شيء في الأرض والكون إلّا بيد الإنسان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الرّوم: من الآية 41]، فلا يوجد فساد في الأرض، ولا في البحر، ولا في الجوّ من خلق الله جلَّ جلاله، وإنّما من صنع البشر، البشر هم الّذين أفسدوا البحار ولوّثوا الهواء، هم الّذين أفسدوا القيم، وهم الّذين أفسدوا البشر، بينما الله سبحانه وتعالى جعل كلّ شيء صالحاً ومُعدّاً لاستقبال الإنسان، ومنها أنّه حفظ الماء في الأرض: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون]، ثمّ تأتي عمليّة تبخّر الماء، ولو أنّنا نريد أن نقطّر ماءً ونجعله صالحاً للشّرب، فإنّنا نحتاج مصانع كبيرة، وهناك معامل إلهيّة تعمل ليل نهار على تبخير المياه وإعادتها إلى الأرض، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ لأنّ الأرض تعيش على الماء ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحجّ: من الآية 5].

﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾: الدّابّة: كلّ ما يدبّ على الأرض من إنسان أو حيوان، وكلّ هذه الأمور الّتي يذكرها سبحانه وتعالى يدلّ بها على أنّه هو الخالق، يدلّ بها على الآية السّابقة: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، ما الّذي أدرانا أنّ الإله واحد؟! لأنّه لو كان هناك إله آخر لقال: أنا خلقت هذا الخلق.

﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: أي تحويل الرّياح؛ لأنّ الرياح لو كانت باتجاه واحد لأرهقت الإنسان، لكنَّ تصريف الرّياح رحمة، فمرّة شرقيّة ومرّة غربيّة وأخرى جنوبيّة غربية… وهكذا.

﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾: المسخّر: هو الّذي يُحمَل على حركة لا يستطيع أن يقرّها هو، وإنّما يؤدّي المطلوب منه، مثلاً هذا السّحاب مسخّر ليسقط في دمشق، سخّره الله وتمّ التّبخّر وتمّت عمليّة إعداد الماء في غير دمشق، وساقته الرّياح لتسقط المياه في دمشق، هذا السّحاب مسخّر ليُنزل الماء في المكان الّذي سخّره له المسخّر سبحانه وتعالى، وهذا يدلّ على أنّ إلهكم إله واحد.

﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾: الآيات: معجزات دالّات بيّنات لمن له عقل، والله سبحانه وتعالى جعل مناط التّكليف هو العقل، لذلك نقول: إنّ دين الإسلام هو دين العقل، ولا يدلّ الإسلام على وجود الله إلّا من خلال استخدام الملكة العقليّة، لذلك قال: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، إذاً هذه الآيات هي الّتي تدلّ على وجود الله سبحانه وتعالى؛ لذلك عندما حاجّ النّمرود سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: من الآية 258]، فاستخدم إبراهيم عليه السَّلام أحد الآيات الّتي تدلّ على وجود الله، وهي أنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق في كلّ يوم.

وكلّ ما عدّده الله سبحانه وتعالى في هذه الآية هي معجزات تدلّ عقلاً على وجود الخالق، لا يمكن أن تكون خُلقت بالصّدفة، وبهذا التّرتيب وهذا النّظام، وقلنا: إنّ المؤثِّر يُعرَف من الأثر وأنت عندما تريد أن تُثبت وجود الله فانظر إلى خلق الله، وانظر إلى المعجزات الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فإنّك ترى تجلّيات الله، هذه هي المحاجّة العقليّة، والإسلام يستخدم العقل والحجّة والبرهان لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، أمّا الملحد فلا يعتدّ بالعقل، فلو سألناه كيف خُلِقت الأرض؟ يُجيب أنّ الكون والشّمس والأرض والكواكب وُجِدت بالصّدفة أو بالتّطوّر، ولا يقتنع أيّ إنسان عاقل أنّ الصّدفة تخلق هذا النّظام، وهذا التّركيب، وهذه الشّمس الّتي تتحرّك بموازين ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرّحمن]، كلّ شيء عند الله بميزان وبمقدار وحسبان، ولو أنّ الشّمس اقتربت أو ابتعدت من الأرض مقداراً يسيراً من الميليمترات أو السّنتيمترات لأحرقت الأرض أو جمّدتها، فلذلك لا يمكن أن يكون الخلق صدفة، فأعطى الله سبحانه وتعالى كلّ هذه الآيات الّتي تدلّ على وجوده.

إنّ دين الإسلام دين العقل والعلم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [محمّد] ولم يقل: فقل: لا إله إلّا الله، من هنا نحن لا نناقش الآخرين وخصوصاً في عصر العلم والحضارة والتّكنولوجيا ونقول لهم أو نجبرهم على قول: لا إله إلّا الله، ولكن نقنع النّاس ونعلّمهم أن لا إله إلّا الله؛ لأنّهم سيعلمون وسيصلون من خلال العلم إلى أنّه لا إله إلّا الله.

الآية رقم (142) - سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

تتحدّث هذه الآيات والّتي بعدها عن نسخ حكم وهو التّوجّه لبيت المقدس في الصّلاة بحكم جديد، وهو التّوجّه إلى الكعبة المشرّفة؛ وذلك أنّه عندما فُرضَت الصّلاة أُمر النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتوجّه إلى بيت المقدس، وبعد مرور سبعة عشر شهراً أو أقلّ كما ذُكِرَ في بعض الرّوايات تمّ تحويل القبلة، ومن ثمّ التّوجّه إلى الكعبة المشرّفة.

وهذا التّحوّل في القبلة أثار عاصفة وجدلاً كبيراً؛ وشكّك اليهود والمشركون والمنافقون بهذا الدّين، وأصبحوا يتساءلون هل ذهب ثواب صلاتكم الأولى؟ وما شأن من صلّى فيكم جهة بيت المقدس ومات قبل أن تتحوّل القبلة؟ فكانت الرّدود هنا أنّ الله سبحانه وتعالى نسخ الحكم.

كيف بدأ الله الحديث عن تحويل القبلة؟! 

عندما نريد أن نبيّن إعجاز القرآن الكريم نقول: لو أنّه من عند غير الله؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82]، فالكلام عن تحويل القبلة لو كان من عند بشر، ولم يكن من عند ربّ البشر، فإنّه لا يمكن على الإطلاق أن يأتي بهذه الطّريقة، ولا يمكن لبشر أن يتحدّث عن ردود الفعل قبل وقوع الفعل.

﴿سَيَقُولُ﴾: السّين حرف استقبال يُشير إلى أنّه لم يتمّ تحويل القبلة بعد، ولو كان القرآن من عند غير الله لكانت الآية: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة]، جاءت قبل قوله سبحانه وتعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، فالله سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء المعجزة ويُخبر بها قبل حدوثها.

﴿السُّفَهَاءُ﴾: السّفيه: من لديه ضعف في العقل.

﴿مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾: الله سبحانه وتعالى يعلم ما سيقولونه عند تحويل القبلة، فأخبر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم به بقرآنٍ يُتلى، فلو أنّهم لم يقولوا في تحويل القبلة شيئاً لكان ذلك تشكيكاً في القرآن الكريم، ولكنّهم سيتكلّمون كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بأنّه سيكون، فعلمُ الله سبحانه وتعالى كاشف.

والجواب على تساؤلهم ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، هو: ﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: الله عزَّ وجلَّ لا يحدّه زمان ولا مكان، لا نقول عن الله: أين وكيف، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: من الآية 4]، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، تجلّيات الله سبحانه وتعالى في كلّ الأمكنة والاتّجاهات، عندما تريد أن تنضبط في عبادة ما، فالله سبحانه وتعالى يحدّد لك المسلك والمنسك.

المنسك طريق العبادة فإن حدّده الله سبحانه وتعالى بهذا الاتّجاه اتّجهت إليه، أنت لا تتّجه للكعبة المشرّفة أو للمسجد الأقصى لقدسيّتهما فقط، فقدسيّة الكعبة أو المسجد الأقصى تأتي من أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر بالتّوجّه إليهما، ولو لم يأمر بالتّوجّه إليهما لكانا بنياناً وأحجاراً كسائر البنيان.

قبّل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الحجر الأسود وقال: “والله لولا أنّي رأيت رسول الله يقبّلك ما قبّلتك”، فهو حجر لا يضرّ ولا ينفع. في مناسك الحجّ سنّ لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تقبيل حجر (وهو الحجر الأسود)، وأمرنا برجم حجر (الجمرات) في منى.

ما قيمة الحجر؟ هل هي عبادة حجريّة! أم أنّ المقصود من الحجر الرّمز؟

فأنت تطيع لعلّة الأمر والطّاعة، ولو أنّك تطيع الله للعلّة فأنت لا تتعبّد الله، مثال ذلك لو قيل لك: لا تتناول الحلوى (وأنت مُصاب بمرض السّكّر) وأنت تعلم أنّها ستضرّك، أو لا تشرب الخمر؛ لأنّ الخمر يضرّ، أو لا تأكل لحم الخنزير؛ لاحتوائه على بيوض الدّودة الوحيدة.. فإن أنت امتثلت الأمر؛ لأنّ هذه الأشياء مضرّة، فامتثالك عندها لا يكون عبادة. أمّا العبادة فأن تمتثل الأمر دون أن تعرف العلّة، فعندها يكون الإيمان والطّاعة، لذلك كشف الله جانباً من الحكمة في أشياء وأخفاها في أشياء كثيرة حتّى تكون الطّاعة خالصة لله سبحانه وتعالى.

عندما فرض الله سبحانه وتعالى صلاة الفجر ركعتين، لـمَ لَـمْ يفرضها ثلاثة؟! والطّواف حول الكعبة سبعاً، لِـمَ لـم يكن ثمانية؟! وقبِّل هذا الحجر وارجم هذا الحجر..

هنا عندما تطبّق وتلتزم فأنت تطيع آمر الأمر. كذلك عندما أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة]، سجدت الملائكة لأمر الله سبحانه وتعالى وطاعةً له، ولم يسجدوا بأمر آدم لهم، ولكن سجدوا لأمر ربّ آدم، أمّا الشّيطان فقد رفض أمر الله سبحانه وتعالى، وردّ الأمر على الآمر. فليس من الضّرورة أن تعرف علّة الطّاعة والعبادة بل المهم أن تطيع أمر الآمر، فإن عرفت فبها ونعمت، وإن لم تعرف فيكفي أنّ الله سبحانه وتعالى هو الآمر.

أجابهم الله: ﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.

الصّراط: هو الطّريق.

المستقيم: أقصر طريق بين نقطتين، وهو أقصر الطّرق للوصول للغاية المرجوّة.

الآية رقم (175) - أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ

يذكر الله سبحانه وتعالى لنا لماذا لا يكلّمهم؟ ولماذا لا يزكّيهم؟ ولماذا يكون لهم في الآخرة عذاب أليم؟ إنّهم قد بدّلوا الضلالة بالهدى؛ والعذاب بالمغفرة، وعندما ترى شدّة العقاب فلا يهولنّك، ولكن انظر إلى فداحة الجرم.

إنّ النّاس عندما يفصلون الجريمة عن العقاب تأخذهم الشّفقة على المجرم؛ لأنّهم لا يرون المجرم إلّا حال محاكمته وعقابه وينسون جريمته، ولذلك فعندما ترى عقوبة ما وتستعظمها، فعليك استحضار الجرم الّذي أوجب تلك العقوبة. ولذلك نجد النّاس غالباً ما يعطفون على المجرمين الّذين يُحاكمون وتصدر بحقّهم عقوبات صارمة؛ ذلك لأنّ الجريمة ربّما مرّ عليها زمنٌ طويل، ولم يروها، وآثارها وتبعاتها انتهت، ولم يبقَ إلّا المجرم؛ فيشفقون عليه.

﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى﴾: الباء تدخل على المتروك، فالضّلالة هنا أُخِذَتْ وتُرك الهدى، واستُبدِل العذاب بالمغفرة، وما داموا قد أخذوا الضّلالة بدلاً من الهدى، والعذاب بدلاً من المغفرة، فالعدالة أن ينالهم العذاب الأليم.

﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾: هذا تشنيع للعقاب حتّى يَنْفِرَ منه النّاس. ويريد الله سبحانه وتعالى منّا أن نعجب، كيف يترك الضّالّ الهدى ويأخذ الضّلال، وبعد ذلك تكون النّتيجة أن ينال العذاب ويُحرَم المغفرة. فما الّذي يعطيه الأمل في أن يصبر على النّار؟، هل عنده صبر إلى الحدّ الّذي يجعله يُقبِل على الذّنب الّذي يدفعه إلى النّار؟ وما الّذي جعله يصبر على هذا العذاب؟ أعنده من القوّة ما يُصَبِّره على النّار؟ وما هذه القوة؟ وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: أنت غير مدرك لما ينتظرك من الجزاء، وإلّا ما الّذي يُصبِّرك على هذه الّنار؟ حتّى تتمادى في طغيانك وضلالك، وتنسى أنّ النّار ستكون من نصيبك، فإذا كنت متيقّناً أنّ النّار من نصيبك؛ فكيف أخذت أماناً من صبرك على النّار؟ وكيف للإنسان أن يصبر على حرّ النّار؟! أعاذنا الله.

الآية رقم (153) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

يخاطب المولى سبحانه وتعالى المؤمنين ويدلّهم على طريق الاستعانة به، يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ وقدّم الصّبر على الصّلاة، نحن نعلم في الحديث أنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما أركب خلفه ابن عمّه عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: «يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف بالله في الرّخاء يعرفك في الشّدة، واعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أنّ الخلائق لو اجتمعوا على أن يُعطوك شيئًا لم يُرد الله أن يعطيك لم يقدروا عليه، أو يصرفوا عنك شيئًا أراد الله أن يُصيبك به لم يقدروا على ذلك، فإذا سألت فسل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنَّ مع العسر يُسراً، واعلم أنّ القلم قد جرى بما هو كائن»([1]). المعنى أنّ الاستعانة فقط بالله سبحانه وتعالى، ولكن كيف طريق الوصول للاستعانة بالله؟ تقول: أنا استعنت بالله، وثَبَتُّ على ذلك وانتهى الأمر؟ لا بدّ من طريق حتّى أصل لتحقيق هذه الغاية وهي الاستعانة، طالما قال: إذا استعنت فاستعن بالله، فماذا أفعل حتّى أستعين بالله؟ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾، السّبب: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، فطالما أنت تريد الاستعانة بالله، وتريد أن تكون مع الله، فإنّ الله مع الصّابرين، فادخل نفسك في معيّة الله، ومعيّته مع الصّابرين، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾، الصّبر من أهمّ عناصر الإيمان، فما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “الصّبر نصف الإيمان”، لماذا الصّبر نصف الإيمان؟ والكثير من الآيات القرآنيّة تحثّ على الصّبر وتطلب من الإنسان الصّبر وحتّى عندما سئل الإمام عليّ كرّم الله وجهه عن حقّ الجار قال: “تقولون: إنّ حقّ الجار أن لا تؤذيه، وأنا أقول: إنّ حقّ الجار أن تصبر على أذاه”، هذا هو الإسلام الّذي يتّهمونه بالإرهاب والقتل والعنف والقسوة ويتّهمونه بالتّخويف وترويع الآمنين.. هذا الإسلام الّذي يقول: حقّ الجار عليك أن لا تؤذيه فحسب، وإنّما أن تصبر على أذاه، فأيّ رفعة وتكريم للإنسان ولحقوق الجوار ولحقوق النّاس، بغض النّظر عن معتقد هذا الجار سواء كان على دينك أم لا.

والصّبر يكون عندما يحدث للنّفس شيء من الجزع والخوف والألم، عندما يحدث لها مصاب فتصبر على هذا الأذى، فالله يطلب منّا حتّى يعطينا المعونة وحتّى ندخل في معيّته أن نصبر، وأن نتّخذ طريق الاستعانة بالصّبر والصّلاة، لذلك فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما حقّق معنى المعيّة الإلهيّة صبر على قريش، وصبر على مكر المشركين، وصبر على إيذائه وإيذاء أهله وأصحابه.

وخرج ليلة الهجرة عندما أحاط به المشركون وقال لأبي بكر رضي الله عنه: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»([2])، فسجّلها القرآن الكريم: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [التّوبة]، يا أبا بكر لا تحزن، إنّ الله معنا، إذاً هو في معيّة الله، لماذا؟ لأنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صبر، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا حزبه أمر يقول: «يا بلال، أقم الصّلاة، أرحنا بها»([3])، فالصّلاة هي صلة مع الله سبحانه وتعالى.

تحقيق الذّكر أن تعيش مع الله سبحانه وتعالى في كلّ الأحوال في فراغك وفي عملك وفي بيتك وطريقك، أن يحيا قلبك بذكر الله والقلوب الّتي تحيا بذكر الله لا تموت أبداً، قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرّعد]. مع نبض القلوب عبادة لا تحتاج إلى اقتطاع وقت ولا إلى تخصيص مكان، ولا إلى مكين ولا إلى زمان، وإنّما هي دائماً بالقلب أو باللّسان.

وبعد ذلك جاء الأمر بالصّلاة: وهي اقتطاع جزء من الوقت يتّصل به الإنسان مع ربّه، والصّلاة مع الله صلة، والصّلاة هي الدّعاء، والدّعاء هو اللّجوء والرّجاء والطّلب.

يا أيّها الّذين آمنوا ستتعرّضون لأنواع الابتلاءات في هذه الحياة، وتجاوزكم لهذه الابتلاءات دخولٌ في معيّتي، ويكون ذلك من خلال:

1- تحصينكم النّعم بسياج المنعم.

2- والاستعانة بالصّبر على الابتلاءات.

3- وتعزيز هذا الصّبر بالصّلاة، بالاتّصال بالله.

4- وأن تعيش في الذّكر والصّبر، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

والفارق بين الصّلاة والصّبر:

1- أنّك قد تصلّي رياءً ولكن لا يمكن أن تصبر رياءً.

2- الصّلاة قد تكون طقوساً أمّا الصّبر فلا يكون طقوساً.

3- الصّلاة حركة جوارح، أمّا الصّبر فهو فعل وانفعال بالنّفس لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولم يقل: (إنّ الله مع المصلّين).

قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون﴾ [الماعون]، ولم يقل: ويل للصّابرين؛ لأنّهم لا يمكن أن يكونوا عن صبرهم ساهين..

الصّبر: هو انفعال وجدانيّ نفسيّ، وهو عمليّة تتعلّق بكلّ جوارح الإنسان، وبكلّ خلجات نفسه، إذا تعرّض لمكروه أو أذى أو مصيبة، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

وإيّاكم أن تشردوا عن حضانة الله فحضانة الله تكون من خلال الصّلاة والصّبر والذّكر، فمن أراد أن ينفلت من حضانة الله سبحانه وتعالى فسيهدم هذه الأركان الثّلاثة، وهذا واضح في كتاب الله سبحانه وتعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: أحاديث عبد الله بن عبّاس، الحديث رقم (11265).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، سورة (براءة)، الحديث رقم (4386).
([3]) سنن أبي داود: كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، الحديث رقم (4985).

الآية رقم (165) - وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ

﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: رغم أنك علمت أنّه هو المنعم، وأنّه هو الّذي خلق، وأعدّ لك كلّ هذه النّعم من حولك، خلق لك الماء والهواء والبحار والأنهار والشّجر والنّبات والحيوان، وكلّ ذلك من أجلك أيّها الإنسان، ومع ذلك:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا﴾ ، ليس كلّ النّاس.

﴿أَندَادًا﴾: النّدّ: هو النّظير والمثيل والشّبيه.

إمّا أن تكون هذه الأنداد وهذه النّظائر، الآلهة الّتي صنعوها وعبدوها من الأصنام والحجارة أو من الشّمس، وإمّا أن تكون هوى الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: من الآية 43]، هوى الإنسان هو ندّ، أحياناً الإنسان من ضلاله يعبد نفسه أو يعبد الآخرين، يعتقد أنّه بيدهم ملكوت السّماوات والأرض، يعتقد أنّهم ينفعون ويضرّون، وأنّهم يُحيون ويُميتون، وأنّهم يعزّون ويذلّون، والله سبحانه وتعالى هو وحده الّذي يحي ويميت: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ﴾ [آل عمران: من الآية 26]، الله سبحانه وتعالى هو وحده المتصرّف وهو المالك الوحيد، لذلك يجب أن ننتبه ألّا يكون توجّه القلب نحو الأسباب، يجب أن لا نغفل عن ربّ الأسباب وهو المسبّب الحقيقيّ، ورغم كلّ هذه الدّلالات على وجود الله فهناك بعض النّاس ﴿مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾.

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾: والمؤمنون يعتقدون بأنّ الله هو النّافع وهو الضّارّ، يحبّون الله سبحانه وتعالى، ودليل حبّهم لله أنّهم يسلّمون لقضائه، فكيف تُعبّر عن حبّك لله؟

تعصي الإله وأنت تظهر حبّـــــه       هذا لعمري في القياس بديعُ

لو كان حبّك صــــادقاً لأطعتـــــه       إنّ المحــــــبّ لمــــــن يحبّ مطيــــعُ

المحبّة تقتضي الطّاعة ولا يمكن أن تحبّ الله سبحانه وتعالى وتعصيه. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾: فالمؤمنون يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى عند المصيبة، كما يشكرونه على النّعمة والعطاء، بينما الّذين يتخذون من دون الله أنداداً عندما يتعرّضون للمصائب ويشتدّ عليهم الكرب والألم هل يلجؤون إلى الّذين يحبّونهم كحبّ الله؟ إذا انقطع في الصّحراء أو كان في طائرة وكادت أن تحترق أو كان مريضاً وشارف على الموت فإنّه يقول: يا ربّ، أمّا الّذي لا يؤمن بالله هل يعتقد عندها وهو في هذه اللّحظات الحرجة بأنّ من يحبّه أو يلجأ إليه، ومن يتّخذه إلهاً من دون الله أنّه سينجيه؟ لا يلجأ إليه في هذه السّاعة؛ لأنّه يعلم بفطرته أنّ الله هو وحده الّذي يُنجيه ويكشف عنه الغمّ والهمّ، وهو الوحيد الّذي يستطيع أن يُزيل عنه ألمه.

هناك سعادةٌ لا يشعر بلذّتها إلّا المؤمن، هذه السّعادة منشؤها اليقين الّذي زرعه الإيمان في قلبه، عندما يعلم الإنسان أنّ الله هو الّذي يخفض ويرفع ويصل ويقطع فإنّه يعيش في انسجام روحيّ مع نفسه وذاته ومحيطه، فإذا أصابته مصيبة قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإذا نظر إلى النّعم الّتي يتقلّب فيها لجأ إلى ربّه بذكر المنعم وشكره.

فالمؤمن في سعادةٍ دائمةٍ وهي مبنيّةٌ على قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرّعد].

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾: الظّالم مَن يظلم غيره أو مَن يظلم نفسه، فالّذي يظلم غيره أي يتجاوز عليه في حقوقه، أمّا الّذي يظلم نفسه فالّذي يمتّعها ويعطيها شهوة عاجلة ويمنعها من نعيم دائم، فمن فعل الحرام وعلم أنّ نتيجة الحرام وجزاءه عذاب الله لا شكّ أنّه قد ظلم نفسه.

﴿إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾: يرون بعين اليقين، نحن في الدّنيا لا نرى العذاب عين اليقين، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التّكاثر].

فعين اليقين حين يرى الإنسان العذاب حقّاً يوم القيامة.

﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾: عندما يرى العذاب ويعلم أنّ كلّ القوّة لله عزَّ وجلّ، كلّ ما كان من سلطان المال، من سلطان الجاه، من سلطان الصّحّة، من سلطان الأسباب قد زال وأنّ القوّة لله جميعاً.

الآية رقم (143) - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: الوسطيّة الّتي نتحدّث عنها دائماً هي الّتي جاء بها الإسلام.

﴿لِّتَكُونُوا﴾: هل اللّام هنا لام الصّيرورة أم لام التّعليل؟ اللّام هنا للتّعليل وليست لام الصّيرورة، أي: لن تكونوا شهداء على النّاس إلّا بوسطيّتكم؛ لأنّكم إن كنتم متطرّفين ستؤذون النّاس، فالتّطرّف يؤدّي إلى الأذى والعنت والحرج، وربّنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجّ: من الآية 78]، والغلوّ مرفوض بأيّ شيء، وأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بوسطيّتها أُعطيت المنزلة العالية وتشهد يوم القيامة على باقي الأمم([1])؛ لأنّنا أمّة وسط سنشهد على كلّ الأمم، فنحن أمّة الوسطيّة والاعتدال، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بعثت بالحنيفية السمحة»([2])، فأيّ تطرّف وأيّ تكفير ليس من شريعتنا، بدليل النّصّ القرآنيّ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، فلن نكون شهداء على النّاس إذا لم نكن أمّةً وسطاً.

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾؛ لأنّ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ما خُيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» ([3])، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «سدّدوا وقاربوا وأبشروا» ([4])، فأيّ تيسير أكثر من هذا وأعظم؟! بينما يقول المكفّرون: هذا يُذبح، وهذا يُقتل، وهذا يُحدّ، وهذا يُجلَد..

إنّ هذا ليس دين الإسلام، بل هو إرهاب وإجرام.

ديننا دين الوسطيّة والاعتدال في كلّ شيء، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: من الآية 77]،  كلّ شيء على قصد، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف]، فكلّ شيء في ديننا وسط واعتدال، فالإسلام ليس دين قسوة، أين هؤلاء الّذين يقطّعون رؤوس النّاس من الدّين؟! أين نحن من رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم الّذي يقول: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا» ([5]) وأشار بالسّبابة والوسطى.

أين نحن من ديننا العظيم الّذي يقول: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون]، أين نحن من هذا الدّين العظيم الّذي عندما تحدّث عن الطّغاة قال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر]، إنّه الإسلام دين الوسطيّة، دين الاعتدال والخير والمحبّة، دين العطاء والرّحمة، حوّلوه إلى شعارات للقتل والإرهاب والتّكفير والطّائفيّة والبغضاء ولكن: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: من الآية 21].

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا: الرّسول شهيد على كلّ الأمم وكذلك أمّته.

﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: أي القبلة إلى المسجد الأقصى.

﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ: إلّا لنعلم من يّتبع الرّسول ممّن لا يتّبعه؛ ليكون حجّة وتمحيصاً وابتلاءً فإذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: توجّهوا إلى هنا، نتوجّه، أو قال: توجّهوا إلى هناك، نتوجّه؛ لأنّنا نؤمن بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبرسالته من عند الله، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: من الآية 7], وهذا مفهوم الطّاعة دون أن نعرف الغرض من تحويل القبلة، ولماذا تمّ نسخ هذا الحكم.

﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ: لقد رآها بعضهم كبيرة، فبعد أن صلّوا زمناً طويلاً وهم يتوجّهون لبيت المقدس، كيف يتّجهون ويصلّون لمكان فيه أصنام حول الكعبة؟! لكن المؤمنين يعلمون أنّ عليهم الطّاعة ولا ينظرون إلى علّة الأمر. ولم يترك اليهود عمليّة تحويل القبلة تمرّ دون إرجاف وتشكيك، فقالوا للمسلمين: إنّ صلاتكم خلال سنة ونصف كانت بلا أجر ولا ثواب، فقال الله سبحانه وتعالى للمسلمين: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ: الرّأفة أخصّ والرّحمة أعمّ.

ولو كان القرآن الكريم من عند غير الله لجاءت: (وما كان الله ليضيع صلاتكم) عِوَضاً عن: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، فعبّر الله سبحانه وتعالى عن الصّلاة بالإيمان؛ لأنّ الصّلاة عماد الدّين، من أقامها أقام الدّين، ومن تركها هدم الدّين، وهو مضمون الإيمان.

هناك أحاديث كثيرة عن رحمة الله سبحانه وتعالى، منها ما رواه سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أنّه قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبي فإذا امرأة تسعى إذ وجدت صبيّاً في السّبي أخذته فأرضعته، فقال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النّار؟»، قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها»([6]).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمّد وأمّته، فيشهدون أنّه قد بلّغ.. فذلك قوله جلّ ذكره: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)». والوسط: العدل. صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة (البقرة)، الحديث رقم (4217).
([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهليّ، الحديث رقم (22345).
([3]) صحيح البخاريّ: كتاب العلم، باب ما كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتخوّلهم بالموعظة والعلم، الحديث رقم (69).
([4]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب القصد والمداومة على العمل، الحديث رقم (6102).
([5]) كنز العمّال: ج3، الحديث رقم (5994).
([6]) شعب الإيمان: الخامس والسّبعون، الحديث رقم (11018).

الآية رقم (176) - ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى ما تقدّم، وما تقدّم هو الضّلالة الّتي ساروا فيها وتركوا الهدى، والعذاب الّذي أخذوه بدلاً من المغفرة، والنّار الّتي يُعذَّبون فيها، وكيف يصبرون عليها، إنّها ثلاثة أشياء ملتقية؛ العذاب، والضّلالة، والنّار. فالضّلال هو السّبب الأصيل في العذاب، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: عاقبتهم بكذا؛ لأنّهم ضلّوا، فذلك صحيح، وإذا قال: أنزلت بهم ذلك؛ لأنّهم استحقّوا العذاب، فهو صادق، والعذاب في الآخرة يكون بالنّار، إذاً، عندما يقول الحقّ سبحانه وتعالى: بالنّار أو بالعذاب أو بالضّلال فمرجعها جميعاً إلى شيء واحد.

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾: والّذي يُغيِّر الكتاب ويكتمه إنّما يكره الحقّ.

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾: إنّها هوّة واسعة يسقطون فيها، فالشّقاق في القيم المنهجيّة السّماويّة سقوط في هوّة سحيقة لا قرار لها، فلو كان الخلاف في أمور معيشيّة دنيويّة لأمكن للبشر أن يتحمّلوها فيما بينهم، ولكنّ الخلاف في أمر قيميّ لا يقدر البشر على أن يصلحوه فيما بينهم، من هنا فإنّ شُقّة الخلاف واسعة، ولا يقوى على الحكم فيها إلّا الله تبارك وتعالى، ولذلك قال جلّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزّمر].

الآية رقم (154) - وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ

أعظم الابتلاءات الّتي تحتاج إلى صبر هي أن يقدّم الإنسان نفسه بالشّهادة، فالشّهادة أعلى المراتب، الشّهادة قمّة الابتلاء الّذي يحتاج إلى الصّبر؛ لأنّ الشّهيد قدّم نفسه رخيصة أمام معتقده ودفاعاً عن وطنه، عندما تحدّثت الآيات عن الذّكر والصّلاة والصّبر ذكرت قمّة الابتلاءات وهي تقديم الإنسان نفسه فداءً لوطنه ولمعتقداته ولمقدّساته، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾ وهناك عدّة معانٍ عند ذكر الشّهادة والشّهداء.

عندما نتحدّث عن تكريم الشّهداء نرى أنّ أَيَّ تكريم في الدّنيا يكون تكريماً مقطوعاً؛ لأنّ الدّنيا زائلة؛ ولأنّ الدّنيا أغيار ماضية لسبيلها، أمّا إذا وصلنا الدّنيا بالآخرة فيكون النّعيم المقيم ويكون العطاء الدّائم، ويكون التّكريم غير محدود، والله سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾، عندما يقول الله عزَّ وجلّ في القرآن الكريم: ﴿فِي سَبيلِ اللّهِ﴾ من يحدّد القتل في سبيل الله؟ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقط الّذي يحدّد، مَن يدافع عن الوطن شهيد، من قُتل دون أرضه فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد.. كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد» ([1]). وليس المجرم الّذي ينتحر ليقتل ويخرّب هو الشّهيد، هذا أمر هامّ، هناك ضوابط يحدّدها الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر].

تحديد أيّ أمر شرعيّ لا يمكن أن يخضع للاجتهاد طالما ورد فيه نصّ من الكتاب أو السنّة، طالما هناك نصّ قرآنيّ أو نصّ نبويّ، فإذاً رفعت الأقلام وانتهى الأمر.

نحن نرى الموت والموت بالنسبة للإنسان ما هو؟ هو انتهاء حركة الإنسان في الحياة، هو خروج الرّوح من الجسد إمّا أن يموت الإنسان وإمّا أن يقتل، وهناك فارق بين الموت والقتل والدّليل قوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ [آل عمران: من الآية 144]

فما هو الفارق بينهما؟ الرّوح تخرج من الجسد وتنهدم البنية فهذا موت، أمّا إذا انهدمت البنية وخرجت الرّوح هذا قتل. بالموت تخرج الرّوح وبعد خروجها ينهدم الجسد، لكنّك تقول: مات لأنّه قُتل، فأقول لك: إذا مات انتهى أجله، وكان السّبب هو القتل، فالقتل هو هدم في البنية، هذه الرّوح لا تسكن في الجسد إلّا إذا كان الجسد سليماً. إذا أُطلق على الإنسان رصاصة أو مدفعيّة أو سمّ أو حرق أو غرق فتخرج الرّوح فهذا قتل.. والدّليل: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ﴾.

نحن نعتبر أنّ مَن فارق الحياة فهو ميّت؛ لأنّ روحه قد خرجت؛ ولأنّ جسده قد سكن، هذا بالنسبة لنا بالظّاهر، لكنّ الربّ الخالق البارئ العليم يقول: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ هم أحياء لكن عند ربّهم، وهناك آية أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران]، وطالما أنّها في العنديّة، العنديّة غيبيّة والغيبيّة لا يمكن أن يطلعك المولى سبحانه وتعالى على ماهيّتها ولا يمكن أن تعرفها مهما وصفها لك المولى فلن تصل بعقلك إليها؛ لأنّها عنده في العنديّة وليس في البرزخ وطالما أنّها عنده يعني يوجد حياة، يقول: ﴿يُرْزَقُونَ﴾  والرّزق من آلات الحياة وليس من آلات الموت، الميت لا يحتاج الى رزق، ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾. لا يمكن أن تشعروا ولا أن تقدّروا طريقة هذه الحياة؛ هم لا يمرّون بحياة البرزخ فقد استثناهم الله من حياة البرزخ ودخلوا في الحياة العنديّة (عند ربّهم)، هؤلاء هم الشّهداء وهذا تكريم لهم.

ساوى الله سبحانه وتعالى بين خلقه بالموت لكنّه فضّل فئة عليهم بالمجد وهذا المجد بالشّهادة؛ لأنّه قدّم نفسه وروحه في سبيل غيره، في سبيل وطنه ومواطنيه ومقدّساته ومعتقداته: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾.

أضف إلى الحياة العنديّة أنّ هذا الشّهيد لا يكفي أنّه تحرّك واستشهد، بل سيتحرّك مَن خلفه ويتمسّك بالمبادئ الّتي استشهد عليها الشّهيد، هذا معنى هامّ وعظيم عند الله لا يلتفت إليه الكثير، تلك المبادئ العظيمة الّتي استشهد لأجلها الشّهيد وبذل دمه من أجلها.

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: الآية 169، ومن الآية 170]، هم فرحون وأنتم حزينون، وأمر طبيعيّ أن يحزن الإنسان لفراق الأحبّة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون» ([2]). أنتم حزينون والله سبحانه وتعالى يقول: إنّهم فرحون بما آتاهم الله من فضله وليس من عدله، وهناك فرق بين الفضل والعدل: العدل أن تُعطى على قدر ما تُقدّم، والفضل: أن تُعطى زيادة على ما قدّمت.

أَقْدَموا ويريدون من الّذين خلفهم أن يُقدموا وأن يثبتوا على ما تحرّك الشّهداء من أجله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب الديّات، باب فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، الحديث رقم (1421).
([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الجنائز، باب قول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّا بك لمحزنون»، الحديث رقم (1241).

الآية رقم (166) - إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ

الله سبحانه وتعالى كان يتحدّث عن الّذين يحبّون الأنداد أو النّظائر وهي إمّا أن تكون حجراً أو بشراً أو أنّ الإنسان يحبّ نفسه ويعبد هواه، فالّذين كانوا يتعلّقون بغيرهم تبرّأ منهم من كانوا يعبدونهم من دون الله سبحانه وتعالى. والشّيطان الرّجيم -وقد اتُّبع من الكثيرين من البشر- هو أوّل من يتبرّأ ممّن اتّبعه، ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم]، تبرّأ الشّيطان من الّذين استجابوا لوساوسه، وهو أساس السّوء وأساس كلّ المظالم والجرائم، وما يحيك في صدر الإنسان من مفاسد فإنّما هو وسوسة الشّيطان وتزيينه.

إذاً الشّيطان أوّلاً، ثمّ كلّ من أغواك بالدّنيا يتبرّأ منك في الآخرة.

﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾: سيأتي الإنسان يوم القيامة فرداً: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم]، في هذا اليوم: ﴿لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ [لقمان]، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾  [المدّثر]، إذاً تنقطع الأسباب، لا يبقى أسباب، تعيش هناك في عالم الآخرة مع المسبِّب فقط، أمّا في الدّنيا فنحن في عالم الأسباب، إذا لم تشرب لا تروي الظّمأ، وإذا لم تأكل تجوع، وإذا لم تتحرّك لن تحصل على نتيجة للعمل؛ لأنّ الله ربط الأمور بالأسباب، الإنسان يضيع في الأسباب، ويعتقد أنّ الأسباب هي الفاعلة بحدّ ذاتها، أمّا في الآخرة فقد تقطّعت الأسباب.

الآية رقم (144) - قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

﴿قَدْ:  حرف تحقيق.

﴿نَرَىٰ﴾: رأى اللهُ تقلّبَ وجهكَ في السّماء، أتت ﴿نَرَىٰ﴾ بصيغة المضارع، كان الرّسول في منتهى الأدب مع الله سبحانه وتعالى وكانت عواطفه متّجهة إلى بيت الله الحرام ليكون قبلة له صلَّى الله عليه وسلَّم ولأمّته في الصّلاة، فقال الله: ﴿قَدْ نَرَىٰ﴾ هو لم يطلب من الله عزَّ وجلَّ. وتقلّب الوجه علامة على الميل والرّغبة والتّمنّي، وكان الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم راضياً بأمر الله وراضياً بتوجيه الله سبحانه وتعالى، بدليل أنّه امتثل لأمر الله، ولكن عواطف القلب لا يملكها، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»([1])، يعني القلب.

﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾: هذه من أعظم الآيات الّتي نزلت على سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم والّتي تُشير بأنّ الله يرغب في إرضاء حبيبه محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم، سيما وقد قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ [الضّحى].

﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾: توجّه بكلّيتك في صلاتك.

﴿شَطْرَ﴾: جهة أو نحو، والشّطر في اللّغة: النّصف.

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾: الله جلَّ جلاله مطّلع على سرائرهم، وجاء بالأمر التّكليفيّ بالتّوجّه إلى المسجد الحرام.

والمشركون هم أنفسهم كانوا يقرّون بقدسيّة البيت الحرام بعيداً عن الأصنام الّتي كانت حوله، فنصبوا الأصنام وأرادوا لها أن تأخذ قدسيّة من بيت الله الحرام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سنن أبي داود: كتاب النّكاح، باب في القسم بين النّساء، الحديث رقم (2134).

الآية رقم (177) - لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

هذه آية مُحكمة في كتاب الله سبحانه وتعالى شملت عناصر البرّ، ويجب أن نتوقّف عند مدلولاتها وعند معانيها؛ لأنّها تعطي الصّورة الحقيقيّة للإسلام بكلّ عناصره إيماناً وأركاناً وسلوكاً وعبادات.

﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾: تحدّثت الآيات السّابقة مطوّلاً عن الاتّجاه في الصّلاة، والأمر بالتّوجّه إلى الكعبة المشرّفة، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يبيّن لنا أنّ الإسلام لا يُعنى فقط بانضباط الحركات، وإنّما يعنيه وجدان القلب إضافة لعمل الجوارح؛ لأنّ الإسلام ليس دعوى كلاميّة تُقال وحسب، وإنّما هو تصديق وإيمان وعمل بالأركان، لذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ﴾: البرّ: هو جوامع كلّ خير، كلّ عناصر الإيمان والتّقوى والطّاعة والإحسان، فالخير الواسع من كلّ أبوابه هو البرّ. ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ﴾ بالحركة وبالشّكل وبالمظهر، بالتّوجّه قِبَل المشرق أو المغرب.

﴿وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾: وكأنّ البرّ ذاتٌ مجسَّدة، تُفسَّر بهذا المثال: فلان عادل معنى ذلك أنّه يقيم الحدود ويقف عند الإنصاف، أمّا إذا قُلت: فلان عَدْل، فأصبح العدل مجسّداً في ذاته، هناك فارق بين عَدْل وعادل عندما يكون عَدْل يكون مجسّداً.

الآية رقم (155) - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ

الحديث عن قمّة الابتلاء وهو الاستشهاد في سبيل الله والله قدّم بموضوع الصّبر، أنا لا أقول: استعن بالله واجلس فقط، بل الطّريق إليها بالصّبر والذّكر والصّلاة.

الابتلاء هو الامتحان، الحياة امتحان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك]، ليست المشكلة بالامتحان، والابتلاء ليس شرّاً بل نتيجة الامتحان هي الشرّ إذا رسبت بالامتحان، أمّا إذا نجحت فهو خير، ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: من الآية 35].

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوفِ﴾: لنختبرنّكم ولنمتحننّكم، عندما نقرأ القرآن الكريم يجب أن ننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82]،  لو كان من عند غير الله لما قال: ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوفِ﴾؛ لأنّ الله لو ابتلانا بالخوف لمتنا جميعاً، ولو ابتلانا بنقص الأموال لم نعش، لذلك قال: ﴿بِشَيْءٍ﴾، أي بجزء.

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوفِ﴾ الابتلاء يكون بخوف من شيء سيقع، والحزن على شيء وقع. الحياة فيها خوف، طالما أنّ فيها خوفاً فإنّك تعيش في ابتلاء، لا يوجد أحد منّا لا يخاف، إمّا من شخص أو مرض أو مصيبة.. ولكن أنت عندما تعيش مع الله سبحانه وتعالى، فإنّك لا تخاف من المصيبة قبل أن تقع؛ لأنّه لا يوجد ابتلاء يقع إلّا ويأتي معه اللّطف، فأنت عندما تستبق الخوف، فإنّك تفصل المصيبة عن اللّطف فتعيش بالخوف لفترة طويلة ممّا يؤدّي إلى انهيار الإنسان، ولا يوجد أحد في الدّنيا إلّا وسيتعرّض للخوف.

﴿وَالْجُوعِ﴾: الطّعام وقود حركة الإنسان، والمقصود بالجوع ما يؤدّي إلى تعطيل حركة الإنسان في الحياة، وهذا يأتي لعدّة أسباب، منها: القحط وقلّة الأمطار وغلاء الأسعار ونقص الغلال والثّمرات..

﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾: الإنسان عالم أغيار، اليوم غنيّ وغداً فقير، اليوم قويّ وغداً ضعيف.

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾: الصّابر مؤمن بوعد الله سبحانه وتعالى، وأخذ بأمر الله فأدخل نفسه في معيّة الصّابرين. لذلك عندما ورد في الحديث القدسيّ: «أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده؟»([1]) للمريض، لماذا (عنده)؟ لأنّه صابر، فإنّك تلاقي تجليات الله سبحانه وتعالى عنده. والبشرى تكون للصّابرين الّذين رضوا بقضاء الله سبحانه وتعالى، وصبروا على ابتلاءاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، الحديث رقم (2569).

الآية رقم (167) - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾: الّذين أطاعوا كبراءهم الّذين أضلّوهم أو الّذين اتّبعوا إبليس.

﴿كَرَّةً﴾: أي: مرّة أخرى، ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا﴾: ولا توجد مرّة أخرى، ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾: هي عليهم حسرة وندامة يوم القيامة، ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾: أُعطيتَ الفرصة وليس أمامك فرصة أخرى، ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾  [لقمان]، الآن أنت حرّ في الاختيار، إمّا أن تختار الجنّة أو الكفر والضّلال، لا يُجبرك أحد، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: من الآية 256]، أمّا في الآخرة: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾.