الآية رقم (91) - آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

﴿آلْآنَ﴾: أتقول أنّك آمنت الآن، وأنّك من المسلمين؟ قولك هذا مردودٌ عليك؛ لأنّه جاء في غير وقته، وهذا هو الفرق بين إيمان الإجبار وإيمان الاختيار، فلو أراد الحقّ سبحانه وتعالى أن يجبر الخلق على الإيمان لفعل، لكنّه ترك لنا الخيار.

فالرّدّ هنا ليس على القول، ولكن على زمن القول.

﴿وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾: الفساد يأتي دائماً من عدم الإيمان الّذي يستوجب القيم والأخلاق؛ فالدّين يؤدّي إلى الصّلاح والإصلاح، ومَن لا يرتبط بدينٍ لا يمكن إلّا أن يكون مفسداً؛ لأنّه لا توجد ضوابط قيميّة تضبط سلوكه، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ {الرّوم}، الله سبحانه وتعالى جعل لنا الكون، وسخّر لنا ما في الأرض جميعاً، لكنّنا أفسدنا المياه والأجواء وكلّ شيءٍ، فالعلّة الّتي بيّنها الله سبحانه وتعالى لفرعون هي الإفساد.

الآية رقم (92) - فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ

﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾: غرق فرعون بالبحر لكنّ الله سبحانه وتعالى نجّاه ببدنه، فرماه البحر بعد موته على السّاحل حتّى رآه بنو إسرائيل.

﴿بِبَدَنِكَ﴾: نحن نعرف أنّ الإنسان مكوّنٌ من بدنٍ؛ أي الهيكل المادّيّ المصوّر على تلك الصّورة، والرّوح الّتي في البدن، وبهما تكون الحركة والحياة، وحين نقول: بدنٌ، فلنفهم أنّها مجرّدةٌ عن الرّوح، وإذا أُطلقت كلمة جسد معناها الهيكل المادّيّ المجرّد من الرّوح.

﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾: لو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يأمر البحر أن يلفظ جثمان فرعون لكان من الجائز أن يقولوا: إنّه إلهٌ، وإنّه سيعود مرّةً أخرى، لكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يرى الجميع منذ تلك اللّحظة حتّى الآن هذه الجيفة الغارقة، حتّى لا يكون هناك شكٌّ أنّ فرعون قد غرق، فيعرفون أنّه مجرّد بشرٍ ويصبح عبرةً بعد أن كان جبّاراً مسرفاً طاغياً، ويتّعظ كلّ إنسانٍ عندما يرى كيف انهارت حضارة الفراعنة، وكيف بقيت تلك الأبدان آيةً نعتبر بها.

﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾: ليس كلّ النّاس، وهنا قانون صيانة الاحتمال، فبعضهم مؤمن، لكنّ كثيراً منهم عن آيات الله سبحانه وتعالى غافلون، آيات الله سبحانه وتعالى؛ أي الأمور الدّالّة على وجوده جل جلاله.

الآية رقم (93) - وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: كلمة تبوّأ تعني إقامة؛ مَباءة أي البيوت الّتي فيها السّكن الخاصّ، وإذا أُطلقت الكلمة (مبوأ) فهي تعني الإقليم أو الوطن، والحقّ سبحانه وتعالى أتاح لهم السّكن في زمن موسى عليه السلام، فقال لهم:﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ﴾ {الإسراء: من الآية 104}.

﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾: الصّدق تعني جِماع الخير والبرّ، لذلك نجد النّبيّ ﷺ عندما سُئل: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن كذّاباً؟ فقال: «لا»([1]).

﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: قال سبحانه وتعالى في آياتٍ أخرى عن شعب بني إسرائيل: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ {البقرة: من الآية 61}؛ أي أنّ الحقّ تعالى أعطاهم ورزقهم وأنجاهم من فرعون.

﴿فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾: كان من المفروض أن تستقيم أمورهم لكنّهم اختلفوا، فهل العلم هنا هو سبب الاختلاف؟ الجواب: إنّ علمهم بمجيء الرّسول أصبح مصدر اختلافٍ بينهم؛ لأنّهم سمعوا وعرفوا علامات الإيمان بالنّبيّ ﷺ واختلفوا في ذلك، مع أنّهم قبل نزول الوحي على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام كانوا متّفقين، وقد توعّدوا مشركي قريش بأنّ نبيّاً سيأتي، لكنّهم اختلفوا، يأتي عبد الله بن سلام وهو حبرٌ من أحبار اليهود إلى الرّسول ويقول: يا رسول الله، إنّ اليهود قومٌ بهتٌ، وإنّهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال النّبيّ ﷺ: «أيُّ رجلٍ عبد الله فيكم؟»، قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا، قال «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام»، فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فقالوا: شرّنا وابن شرِّنا، وانتقصوه، قال: فهذا الّذي كنت أخاف يا رسول الله([2]).

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾: أي أنّ الله سبحانه وتعالى يقضي بهذه الأمور، ونلحظ أنّ كلمة ﴿بَيْنَهُمْ﴾ توضّح أنّ الضّمير عامٌّ، والحقّ سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين، ويقضي بين الكافرين أنفسهم، فمن كان منهم ظالماً لغيره أو مختلساً أو مرتشياً فسيحاسب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ {الأنبياء}، والآية هنا تفيد العموم في القضاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بين كلّ مؤمنٍ وغير مؤمنٍ.

([1]) موطّأ الإمام مالك: كتاب الكلام، باب ما جاء في الصّدق والكذب، الحديث رقم (1795).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة البقرة، الحديث رقم (4210).

الآية رقم (94) - فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

الخطاب هنا لرسول الله ﷺ، ونحن نعلم أنّ الرّسول لا يشكّ على الإطلاق بالرّسالة، وهو القائل ﷺ: «والله لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»([1])، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾؟ الجواب: هنا يضمر الله سبحانه وتعالى خطاب الأمّة في خطاب رسوله ﷺ؛ لأنّ الأتباع حين يقرؤون ويسمعون الخطاب وهو موجَّهٌ بهذا الأسلوب إلى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فلن يستنكفوا عن أيّ أمرٍ يصدر إليهم، وجاء الأمر هنا للنّبيّ ﷺ لتفهم أمّته أنّه ﷺ: ما كان ليتأبّى على أمرٍ من أوامر الله سبحانه وتعالى أبداً، بل ينفّذ كلّ ما يؤمر به بدقّةٍ.

﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾: هذا القول دليلٌ على أنّ الّذين عندهم علمٌ في الكتاب من السّابقين يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته ﷺ.

﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: الحقّ القادم من الله سبحانه وتعالى ثابتٌ لا يتغيّر؛ لأنّه واقعٌ، والواقع لا يتعدّد، بل يأتي على صورةٍ واحدةٍ، أمّا الكذب فيأتي على صورٍ متعدّدةٍ.

﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: مجيء الخطاب بهذا الشّكل موجّهٌ للأمّة المؤمنة في شخص الرّسول ﷺ، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ {الزّمر}، هذا القول نزل على الرّسول ﷺ، ومن غير المعقول أن يُشرك النّبيّ ﷺ، فهذه الآيات الّتي تحمل توجيهاً في الأمور المنزّه عنها الرّسول الكريم هي خاصّةٌ بأمّته، فنفهم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أنّ الخطاب للنّاس المؤمنين بالرّسول ﷺ ألّا يشكّوا، أو للّذين يكذّبون بآيات الله سبحانه وتعالى.

([1]) الرّوض الأنف: مج2، ص6.

الآية رقم (84) - وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ

يوجد شرطان في الآية، فجاء الشّرط الأوّل وهو: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ ومعه الجواب وهو: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾، ثمّ جاء شرطٌ آخر، وهو الشّرط الأوّل ذاته، وهو الإسلام؛ لأنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقتضي الإسلام، فالإيمان كما نعلم عمليّةٌ وجدانيّةٌ قلبيّةٌ، والإسلام عمليّةٌ ظاهريّةٌ.

﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾: التّوكّل هو مطلوب الإيمان، وأن يسلم الإنسان زمامه في كلّ أمرٍ إلى من آمن به، لذلك لا ينفع الإيمان إلّا بالإسلام، فمع إيمانكم توكّلوا على الله سبحانه وتعالى، لكن إن كنتم قد آمنتم فقط، ولم تُسلموا الزّمام إلى الله سبحانه وتعالى في التّكاليف (افعل) و(لا تفعل)، فهذا التّوكّل لا يصلح، فإذا رأيت أسلوباً فيه شرطٌ تقدّم، وجاء جوابٌ بعد الشّرط، ثمّ جاء شرطٌ آخر، فاعلم أنّ الشّرط الأخير هو الـمُقدّم؛ لأنّه شرطٌ في الشّرط الأوّل، فإنّ التّوكّل لن ينشأ إلّا بالإسلام مع الإيمان.

الآية رقم (95) - وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ

النّبيّ ﷺ هو آيةٌ من آيات الله سبحانه وتعالى، فالخطاب موجّهٌ لأمّة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام.

الآية رقم (85) - فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾: إذا تقدّم الجار والمجرور فمعنى ذلك قصر وحصر الأمر؛ أي حصر التّوكّل على الله سبحانه وتعالى فقط، ولا توكّل على سواه.

﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: الفتنة: اختبارٌ، وهي ليست مذمومةً في ذاتها، بل المذموم هو النّتيجة، وجاءت هذه الكلمة من صهر الذّهب؛ أي استخلصت منه الشّوائب، فعندما يكون الذّهب مخلوطاً بعناصر أخرى يصفّونه، ويسمّى ذلك: فتنةً، كأنّهم يقولون: يا ربّ، لا تسلّط علينا فرعون بعذابٍ شديدٍ يفتننا عن ديننا.

الآية رقم (96) - إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ

إنّ الله سبحانه وتعالى قد عَلِم عِلْماً أزليّاً بأنّهم لن يوجّهوا اختيارهم للإيمان؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ترك فيهم الاختيار، ثمّ جاؤوا إلى الاختيار فتحقّق علمه سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم، فحكمه سبحانه وتعالى مبنيٌّ على الاختيار، وله سبحانه وتعالى تقديرٌ أزليٌّ، وحين يقدّر الحقّ فلا بدّ من وقوع ما قدّر، هنا يجب أن نفرّق بين حكمٍ لازمٍ قهريٍّ ليس للإنسان فيه تصرّفٌ، وبين قدرٍ قُدّر من الله سبحانه وتعالى أن يفعله الإنسان باختياره، مثال ذلك: سلوك أبي لهبٍ الّذي نزل فيه قوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ {المسد}، فهل قال له أحدٌ: لا تؤمن؟ فلا يقولنّ أحدٌ: إنّ الله سبحانه وتعالى يعاقب بعد أن قدّر مسبقاً؛ لأنّ تقدير الحقّ جل جلاله نابعٌ من علمٍ أزليٍّ، وأنتم تتمتّعون بحقّ الاختيار، وستُحاسبون على الاختيار، وليس على العلم الأزليّ.

الآية رقم (86) - وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

يطلبون من الله سبحانه وتعالى ويتضرّعون إليه، والدّعاء هو مخّ العبادة، فيلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجّيهم من عذاب فرعون برحمته؛ لأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيءٍ.

الآية رقم (97) - وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ

﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾: فمجيء الآيات لن يفيدهم في الاتّجاه إلى الإيمان؛ لأنّه سبحانه وتعالى يعلم أنّهم سيتوجّهون باختيارهم إلى الكفر، فقد قالوا من قبل ما أورده الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) ﴾ {الإسراء}، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يأمر رسوله ﷺ أن يقول موضّحاً: لستُ مَن ينزّل الآيات، بل الآيات من عند الله سبحانه وتعالى، ثمّ يأتي القرآن الكريم بالسّبب الّذي لم تنزل به تلك الآيات الّتي طلبوها، فيقول جل جلاله: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ {الإسراء: من الآية 59}..

الآية رقم (87) - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ﴾: يبيّن لنا الله سبحانه وتعالى أنّ الوحي شمل كلّاً من موسى وهارون، بحيث إذا جاء موقفٌ من المواقف يقتضي أن يتكلّم به موسى فهارون أيضاً يمكن أن يتكلّم في الأمر ذاته؛ لأنّ الشّحنة الإيمانيّة واحدةٌ والمنهج واحدٌ.

﴿أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا﴾: التّبوّء: هو اتّخاذ مكانٍ يُعدّ مباءةً؛ أي مرجعاً يبوء الإنسان إليه، فالتّبوّء هو التّوطّن في مكانٍ ما، والإنسان إذا اتّخذ مكاناً كوطنٍ له، فهو يعود إليه إذا ذهب لأيّ بلدٍ لفترة محدودةٍ.

﴿بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾: مصر إن أُطلقت يُفهم منها أنّها الإقليم الممتدّ من البحر المتوسّط إلى حدود السّودان؛ أي وادي النّيل.

﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: القِبلة: هي الـمُتّجه الّذي نصلّي إليه، ومثال ذلك المسجد، وهو قِبلةٌ لمن هو خارجٌ عنه، فحين ينادي المؤذّن للصّلاة يكون المسجد هو قِبلتنا، وحين ندخل المسجد نتّجه إلى القِبلة الّتي تتحكّم في وضعنا الصّفيّ.

هنا نلحظ أنّ الأمر بالتّبوّء كان لموسى وهارون عليهما السّلام، أمّا الأمر بالجعل فهو مطلوبٌ من موسى وهارون وأتباعهم، لذلك جاء الجعل بصيغة الجمع في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾.

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾: إقامة البيوت هنا مشروطةٌ بأن يجعلوا بها قِبلةً لإقامة الصّلاة بعيداً عن أعين الخصوم من قوم فرعون الّذين يضطّهدونهم، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كانوا يصلّون داخل البيوت، وهذا هو سرّ عدم الجهر بالصّلاة نهاراً، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ هذا الأمر نفهم منه أنّ الصّلاة فيها استدامة ولاءٍ لله سبحانه وتعالى، فنحن نشهد أن لا إله إلّا الله مرّةً في العمر، ونزكّي إن كان عندنا مالٌ مرّةً واحدةً في السّنة، ونصوم إن لم نكن مرضى شهراً واحداً هو شهر رمضان، ونحجّ إن استطعنا مرّةً واحدةً في العمر، ويبقى ركن الصّلاة يتكرّر كلّ يومٍ خمس مرّات، وكأنّ الحقّ تعالى ينبّه هنا إلى أنّ الصّلاة هي عماد الدّين.

﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: هذا تنبيهٌ وإشارةٌ إلى أنّ موسى عليه السلام هو الأصل في الرّسالة، لذلك جاء الأمر أن يحمل موسى البشارة، فلم يقل: (وبشّرا).

الآية رقم (88) - وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ

﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً﴾: الزّينة: هي الأمر الزّائد عن ضرورات ومقوّمات الحياة، فاستبقاء الحياة يكون بالطّعام والشّراب، والزّائد عن الضّرورات هو زينةٌ.

﴿وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: قيمة المال هو ما يقابله من الذّهب، والفضّة تأخذ المرتبة الثّانية، فالذّهب يُعتبر قيمة الرّصيد لغنى أيّ دولةٍ، ومهما اكتشفوا من أحجارٍ أغلى من الذّهب، كالألماس مثلاً، يبقى الذّهب هو الأساس؛ لأنّه مهما تفتّت يُعاد صهره ويُستخلص منه ذهباً، وقد كان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصراً حتّى منابع النّيل، ويُسخّرون النّاس في كلّ الأعمال حتّى استخراج الذّهب من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال.

﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾: اللّام هنا ليست لام التّعليل، بل لام المآل لام الصّيرورة، هم أخذوا هذه الأموال والزّينة فأصبحوا من خلالها ضالّين، وأضلّوا غيرهم، وحملوا وِزر إضلال غيرهم، فهل أعطاهم الله سبحانه وتعالى المال والزّينة للضّلال والإضلال؟ الجواب: ليس ذلك علّة العطاء، هذه لام العاقبة، مثال: أنت تعطي ابنك مبلغاً من المال، وتقول له: افعل به ما تريد، وأرجو أن تتصرّف به تصرّفاً يعود عليك بالخير، فإن اشترى الابن شيئاً غير مفيدٍ فتكون قد أعطيته قوّةً شرائيّةً، لكنّه لم يُحسن التّصرّف بها، هذا ما يسمّى لام العاقبة.

﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾: الطّمس هو إخفاء المعالم؛ أي إهلاك الصّورة الّتي بها الشّيء، وقد دعا موسى عليه السلام أن تُمسَخ أموالهم، قال بعض الرّواة: إنّها مُسخت، فمن كان يملك سبائك ذهبٍ وجدها حجارةً، ومن كان يملك أحجاراً كريمةً كالألماس وجدها زجاجاً… أو تأتي ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ بمعنى: أذهِبها؛ لأنّ الأموال كانت وسيلة إضلالٍ.

﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾: أي احكم يا ربّ الأربطة على تلك القلوب، فلا يخرج ما فيها من كفرٍ، ولا يدخل ما هو خارجها من الإيمان إليها؛ لأنّهم افتروا افتراءً عظيماً، وأن تظلّ هذه الأربطة على قلوبهم حتّى يروا العذاب الأليم في الآخرة، لماذا دعا سيّدنا موسى عليه السلام على آل فرعون هذا الدّعاء، ولم يدع سيّدنا رسول الله ﷺ على قومه، بل قال صلى الله عليه والسلام: «اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»([1])؟ الجواب: لا بدّ أنّ الله تعالى قد أطلع موسى عليه السلام أنّهم قومٌ لن تُفلح معهم دعوة الإيمان، وكان خوف موسى عليه السلام من استمرار إضلالهم لغيرهم، لذلك دعا عليهم.

هكذا يتبيّن لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقسر وبين إيمان الاختيار، فحين يأتي الرّسول داعياً للإيمان يصبح من حقّ السّامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر، أمّا إيمان الإلجاء والقسر فهو لا ينفع الإنسان، مثال ذلك فرعون حين جاءه العذاب وهو يغرق، قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ {يونس: من الآية 90}، دعا موسى عليه السلام على قوم فرعون، وسبقه سيّدنا نوح عليه السلام: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ {نوح}.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأنبياء، باب ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾، الحديث رقم (3290).

الآية رقم (79) - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ

لقد كان العصر عصر السّحر في دولة فرعون، لذلك أعطى أمراً بأن يأتي أعوانه من السّحرة، وفور أمره بذلك جيء بالسّحرة.

الآية رقم (80) - فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ

﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾: كأنّ المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر الفرعونيّ أضيق مسافةٍ وقتيّةٍ؛ لأنّها جاءت بالفاء مباشرةً، وليس (ثمّ)، وهذا أمر صاحب السّلطان لا يحتمل التّأجيل أو التّباطؤ بالتّنفيذ، فعندما يعالج القرآن الكريم أمراً من الأمور يُعطي صورةً دقيقةً للواقع، ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾:  اختصر هنا الموضوع، وقد جاء مُفصّلاً في سورٍ أخرى.

﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾: تلخيصٌ للموقف، فلم يأت سبحانه وتعالى هنا بالتّفصيل الكامل لهذه القصّة، وقد وردت في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وكلّ آيةٍ توضّح نقطةً، لذلك لا يوجد تكرارٌ بل أسرارٌ.

الآية رقم (81) - فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ

﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾: سيذهب به، فذهب به سبحانه وتعالى بأن سلّط عليه عصا موسى عليه السلام الّتي قُلِبَت ثعبانًا يتلقَّفه، حتّى لم يبق منه شيءٌ.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾: الصّلاح لا يمكن أن يحدث على يد المفسد الّذي غيّر وقلب المعايير الصّالحة في الكون، فالفساد الأخلاقيّ يؤدّي إلى الفساد الاقتصاديّ والماليّ وإلى الفساد والشّرور بشكلٍ عامٍّ، لذلك من يعمل على الفساد والإفساد لا يمكن أن يصدر منه الصّلاح والإصلاح حتّى ولو ادّعى ذلك.

الآية رقم (82) - وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ

﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾: حقّ الله سبحانه وتعالى الحقّ بكلماته؛ أي بأوامره، والمسألة الّتي يريدها سبحانه وتعالى تتحقّق بكلمة ﴿كُن﴾، والكاف والنّون لهما زمنٌ، والله سبحانه وتعالى ليس عنده زمنٌ، لذلك أمره بين الكاف والنّون، وعندما ألقى السّحرة عصيّهم، ألقى موسى عليه السلام عصاه، فالتقفت ما كانوا يأفكون.

﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾: ولو كره هؤلاء المجرمون.

الآية رقم (72) - فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ﴾: إن تولّيتم عن دعوتي لعبادة الله الواحد فأنا لا أدعوكم إلى شيءٍ شخصيٍّ، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم، ولا أريد أن أستولي على السّلطة الزّمنيّة منكم، ولا أبحث عن جاهٍ، فنوحٌ u لا يُمالئ الأعداء ولا يطلب أجراً، والأجر: يعني ثمن المنفعة، والأثمان عادةً تكون في المعاوضات، فإمّا أن تكون ثمناً للأعيان والذّوات، وإمّا أن تكون ثمناً للمنفعة، ونوح عليه السلام لم يطلب أجراً، ولا يريد نفعاً من أحدٍ، وكأنّه يقول: إنّ عملي كان يجب أن يكون له أجرٌ؛ لأنّ المنفعة تعود إليكم، لكنّني لا أطلب أجراً؛ لأنّ أجري على الله سبحانه وتعالى، فإن تولّيتم فلا جزع؛ لأنّكم لن تصيبوني بضرٍّ، ولن تمنعوا عنّي منفعةً.

﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾: الله سبحانه وتعالى هو الّذي بعثني، وهو الّذي سيعطيني أجري.

﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: وقد أمرني ربّي جل جلاله أن أكون من المسلمين له حقّاً وصدقاً، والأنبياء 4 كلّهم جاؤوا بالإسلام، وهو الاستسلام والانقياد لأوامر الله سبحانه وتعالى، فهو دين الرّسالات الّتي لها شرائع مختلفةٌ.

الآية رقم (83) - فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ

﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾: ذريّة تفيد الصّغار الّذين لم تلمسهم خميرة الفساد الّذي كان منتشراً، ولديهم طاقةٌ من النّقاء، ولم يصلوا إلى مرتبة السّيادة الّتي يحرص عليها الكبار، فآمنوا.

﴿عَلَى خَوْفٍ﴾: تُفيد الاستعلاء، ولكن من استعمالات (على) أنّها تأتي بمعنى (مع)، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ {الإنسان}؛ أي مع حبّه، وحين يأتي الله سبحانه وتعالى بحرفٍ مقام حرفٍ فلا بدّ من علّةٍ لذلك، ﴿عَلَى خَوْفٍ﴾؛ أي أنّهم فوق الخوف الّذي يسير بهم إلى دهاليز الآلام آمنوا.

﴿مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾: يبيّن الله سبحانه وتعالى لنا أنّ الخوف ليس من فرعون فقط؛ لأنّه يمارس التّخويف بمن حوله، فهو في وضعه ومكانته لا يباشر التّعذيب بنفسه، لكن بواسطة زبانيته الّذين لا يُقيمون كرامةً للإنسان.

﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾: لم يقل: (يفتنوهم) ليدلّنا على أنّ الزّبانية لا يمارسون التّعذيب لشهوةٍ عندهم، بل لإرضاء فرعون، وهكذا جاء الضّمير مرّةً جمعاً ومرّةً مفرداً ليكون كلّ لفظٍ في القرآن الكريم جاذباً لمعناه.

﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾: مُتعالٍ مُتكبّرٍ، والـمُسرف: الّذي يتجاوز الحدود، ففرعون تجاوز في إسرافه حتّى أنّه ادّعى الألوهيّة قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ {القصص: من الآية 38}، وادّعى الرّبوبيّة: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ {النّازعات}.

الآية رقم (73) - فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ

﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ﴾: كان الأمر الّذي وقع من الحقّ سبحانه وتعالى نتيجة عدائهم للإيمان، بأن نجّى نوحاً عليه السلاموالّذين آمنوا معه، وكلمة (مَن) تُستَخدم للعاقل، والّذين ركبوا في السّفينة من البشر قد أحضروا معهم من الحيوانات والطّيور، فإسقاط ذِكْرِها لا يعني عدم وجودها؛ لأنّ الأساس هم البشر الّذين آمنوا وصعدوا إلى السّفينة.

﴿ فِي الْفُلْكِ ﴾: كانت السّفينة مُعدّةً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ {هود: من الآية 37}، ومنذ وقتٍ طويلٍ: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ {هود}، ويركب نوحٌ عليه السلام، السّفينة، ويركب معه من آمن، وقد حملوا معهم من الطّير والحيوان اثنين من كلّ نوعٍ، ذكر وأنثى.

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ﴾: الخليفة هو من يجيء بعد سابقٍ، وكلمة الخليفة تأتي مرّةً للأعلى، فالصّالحون على ظهر السّفينة أنجاهم الله سبحانه وتعالى جميعاً، وتأتي أيضاً للأقلّ، كقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ {مريم}، وهناك معيارٌ وضعه الحقّ سبحانه وتعالى لتقييم الخليفة، وهو قوله جل جلاله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ {يونس].

﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾: فانظر: خطابٌ للنّبيّ ﷺ يشمل الأمّة جميعاً؛ أي اعلم، وكأنّه مجسّمٌ أمامك؛ لأنّك مؤمنٌ بالله سبحانه وتعالى، وإخباره لك أوثق من رؤية عينيك، وهنا يبيّن الله سبحانه وتعالى بأنّه لم يعذّب قبل أن يُنذر، فهو قد أنذر أوّلاً، ولم يأخذ القوم على جهلهم، وهذه الأخبار والقصص جاءت لتسلية الرّسول الكريم، فمهما صادفت من قومك لن تُصادف كما فعل قوم نوحٍ، واعلم أنّ العاقبة ستكون كعاقبة قوم نوحٍ، وفي هذا تحذيرٌ وتخويفٌ للمناوئين لرسول الله ﷺ .

الآية رقم (74) - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ

﴿ثُمَّ﴾: حرف عطفٍ للتّراخي.

﴿بَعَثْنَا﴾: البعث يكون لشيءٍ كان موجوداً ثمّ انتهى، فيبعثه الله سبحانه وتعالى، وكلمة ﴿بَعَثْنَا﴾ تُشير إلى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق أعطى المنهج القويم لآدم عليه السلام، فأبلغه آدم لأبنائه، وكلّ طمسٍ أو تغييرٍ من البشر للمنهج هو إماتةٌ للمنهج، وحين يُرسل الحقّ سبحانه وتعالى رسولاً فهو لا يُنشئ منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً عند آدم عليه السلامليُذكّر بالفطرة السّليمة، وهذا هو الفارق بين كلمة (البعث) و(الإرسال).

﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: بعد نوحٍ عليه السلام بعث الحقّ سبحانه وتعالى رسلاً، وقد قال العلماء عن نوحٍ عليه السلام، إنّه رسولٌ عامٌّ للنّاس، ولم يُبعث لقومٍ معيّنين، وحجّتهم بذلك أنّه قد صعد إلى السّفينة من كلّ سكّان الأرض، والباقي غرق كلّه، فهو رسولٌ للنّاس كلّهم، لذلك بدأت به سيرة وقصص الرّسالات.

﴿رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾: لم يقصّ الله سبحانه وتعالى علينا كلّ أخبار الرّسل؛ لأنّه قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾

 {غافر: من الآية 78}

فجاء المولى سبحانه وتعالى بقصص أولي العزم من الرّسل؛

لأنّه أرسل بعد ذلك هوداً عليه السلامإلى قوم عاد، وصالحاً عليه السلامإلى ثمود، وشُعيباً عليه السلام إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوحٍ عليه السلامبخبر قصّة موسى عليه السلام مباشرةً.

﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾: موكب الرّسالات لا يأتي إلّا عندما تحدث الغفلة.

﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾: طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم؛ لأنّهم كانوا معتدين، والطّبع هو الختم، فهؤلاء عشقوا الكفر فطبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان بعد ذلك، ولا يخرج منها الكفر.