تفسير سورة يونس

سورة (يونس) من السّور المكيّة، وهي سورةٌ تُعنى بالعقيدة، خاصّةً الإيمان بالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر والحساب والعقاب والرّسل ومجاهدة الأنبياء أقوامهم في سبيل نشر لا إله إلّا الله، وما يتعلّق بالقصص القرآنيّ الّذي يخدم الوظيفة الإيمانيّة، وسمّيت بسورة (يونس) نسبةً إلى النّبيّ الكريم يونس عليه السلام الّذي بُعث إلى الآشوريّين في نينوى، وله قصّةٌ عجيبةٌ، فقد أُلقي في البحر والتقمه الحوت فأصبح في جوفه، وأمّا قومه الّذين كذّبوه، فقد رفع الله سبحانه وتعالى  عنهم العذاب؛ لأنّهم آمنوا في اللّحظات الأخيرة، ويونس عليه السلام أطلق التّسبيحة الّتي بيّن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّها ترفع الهمّ والغمّ، كما رفعت عن يونس عليه السلام البلاء والغمّ وهو في ظلماتٍ ثلاثٍ، ظلمة اللّيل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وسنتحدّث عن تفاصيل القصّة عندما نصل إلى الآية الّتي تتحدّث عن يونس عليه السلام.

الآية رقم (11) - وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

هذه قضيّةٌ عقديّةٌ مهمّةٌ جدّاً، وتثير الإشكالات دائماً، حتّى أعداء الإسلام والّذين يتربّصون الشّرّ به من الصّهاينة والغرب والمستشرقين يقولون: ما هي قضيّة الدّعاء؟ من مئات السّنين نراكم وأنتم ترفعون أيديكم للسّماء وتدعون ولا يوجد مجيبٌ، وهنا يجيب الله سبحانه وتعالى على معنىً من معاني الدّعاء قائلاً: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾، وفي موضعٍ آخر يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾  ]الإسراء[، فلا أحد يعرف تقدير الأمور، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ]البقرة: من الآية 216[، فالإنسان قد يدعو بمقاييس الخير عنده، فتكون هذه المقاييس مقلوبةً، والخير الّذي يراه، الله سبحانه وتعالى  يرى الخير في غيره، أمّا قضيّة الدّعاء فهي من العقائد الأساسيّة؛ لأنّ «الدّعاء هو العبادة»([1])، كما قال نبيّنا ﷺ، ويقول الله سبحانه وتعالى:  ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ]غافر: من الآية 60[، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى  سيستجيب فعلينا ألّا نحمل همّ الإجابة كما يقول سيّدنا عمر رضي الله عنه، بل نحمل همّ الدّعاء؛ لأنّ له شروطاً، هذه الشّروط بيّنها الله سبحانه وتعالى ، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ ]البقرة: من الآية 186[، أين فعل الأمر؟ هو في قوله سبحانه وتعالى :﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ ]البقرة: من الآية 186[، فإذا أردت أن تكون مُستجاب الدّعاء، فلا بدّ أن تُجيب الأوامر، لذلك يقول النّبيّ ﷺ: «رُبَّ أشعثٍ أغبر ذي طمرين مصفّحٍ عن أبواب النّاس لو أقسم على الله لأبرّه»([2])، ويقول ﷺ: «أيّها النّاس، إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّباً، وإنّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المُرسَلين فقال:﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾] المؤمنون[، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ] البقرة: من الآية 172[، ثمّ ذكر الرّجل يُطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرام، فأنّى يُستَجاب لذلك؟»([3])، فلا يمكن أن يُستجاب له إذا كان قد غُذّي من حرامٍ، فهناك شروطٌ لاستجابة الدّعاء، وهناك مقاييس الخير أيضاً، حتّى ولو أنّ الشّروط محقّقةٌ، فالله سبحانه وتعالى بمشيئته يقرّر لون الإجابة فيمكن أن يدعو الإنسان بأمرٍ، والله سبحانه وتعالى  يدفع عنه أمراً آخر بهذا الدّعاء، ومثال ذلك: إنسانٌ مريضٌ قد استفحل فيه المرض، فيقول: يا ربّ، أرحني، والرّاحة لا تكون إلّا في الموت، والموت له أجلٌ، فبرأيه هو يطلب الخير بهذا الدّعاء، ولكن حقيقة مقاييس الخير يقدّرها المولى سبحانه وتعالى ، فيدفع عنه، أو يتحوّل هذا الدّعاء إلى عبادةٍ يؤجر عليها، ويكون الثّواب في الآخرة على كلّ دعوةٍ دعاها.

﴿فَنَذَرُ﴾: أي ندع.

﴿ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: الطّغيان: هو تجاوز الحدّ.

الّذي يرجو لقاء الله سبحانه وتعالى هو من استعدّ لهذا اللّقاء، والّذين لا يرجون لقاء الله جل جلاله لم يستعدّوا للقائه عز وجل، فيتركهم المولى سبحانه وتعالى في إسرافهم وتجاوزهم وطغيانهم.

﴿يَعْمَهُونَ﴾: العمه يكون للبصيرة، والعمى للعين.

([1]) سنن أبي داود: كتاب سجود القرآن، باب الدّعاء، الحديث رقم (1479).

([2]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: ج 1، ص 264، الحديث رقم (861).

([3]) صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصّدقة من الكسب الطّيّب وتربيتها، الحديث رقم (1015).

الآية رقم (1) - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

نبدأ قراءة سور القرآن كلّها باستثناء سورة (التّوبة) ببسم الله الرّحمن الرّحيم، فهذه القراءة تكون باسم الله I، وكما قال النّبيّ ﷺ: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم أقطع»([1])؛ أي مقطوع النّتيجة، وحتّى تكون القراءة خالصةً وصافيةً من الأغراض الدّنيويّة، فلا بدّ أن تبدأ ببسم الله I، والنّبيّ : عندما نزل عليه جبريل u قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ]العلق[.

﴿الر﴾ : الأحرف المقطّعة من ضمن أهمّ أسرار القرآن الكريم الّتي فيها إعجازٌ وتحدٍّ للبشر جميعاً، فهذا النّبيّ الكريم جاء إلى قومٍ هم سدنة اللّغة وسدنة البلاغة والشّعر، فتحدّاهم الله I:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ]الإسراء[.

وعندما سمع العرب هذه الأحرف المقطّعة لم يناقشوا النّبيّ ﷺ في المراد منها، وقيل في تفسيرها: إنّها للتّنبيه، وقيل: إنّها حروف اللّغة العربيّة الّتي أُخذ منها القرآن الكريم، فلا يمكن تأليف مثله، ولا حتّى تأليف سورةٍ أو آيةٍ من هذه الحروف، ولذلك ضُرِب فيها المثل، فهي للتّحدّي والإعجاز، وهذه الأقوال كلّها صحيحةٌ، ولكن تبقى هناك معجزةٌ روحيّةٌ وأسرارٌ لا نعلمها.

وقد جاءت الحروف المقطّعة في القرآن الكريم بدءاً من سورة (البقرة): ﴿الم﴾،﴿المص﴾،﴿الر﴾،﴿المر﴾،﴿كهيعص﴾،﴿طه﴾،﴿طسم﴾،﴿طس﴾، ﴿يس﴾،﴿ص﴾،﴿حم﴾،﴿حم (1) عسق﴾،﴿ق﴾،﴿ن﴾، وكلّها موجودةٌ في حروف الهجاء الّتي يبلغ عددها في لغتنا العربيّة ثمانيةً وعشرين حرفاً، وعدد الحروف الّتي تأتي مقطّعةً في فواتح السّور أربعة عشر حرفاً؛ أي نصف الحروف الأبجديّة، وهذا ليس أمراً عشوائيّاً، وإذا جمعنا هذه الحروف تُعطينا عبارة: (نصّ حكيمٍ له سرٌّ قاطعٌ)، ونحن نقرأ القرآن الكريم بسرّ الله I فيه، فهو ليس كلام بشرٍ، وهذه الأحرف المقطّعة هي مفاتيح روحيّةٌ لأسرار كلام الله I، وهي من الآيات المتشابهة، فهناك آياتٌ محكمةٌ وأخرى متشابهةٌ في القرآن الكريم، قال I:﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ]آل عمران[، أمّا المحكمة فهي واضحة المعنى، تتعلّق بالعقيدة والعبادات، أمّا المتشابهة فهي الّتي يشتبه معناها على النّاس، فهذه الآيات من حروف اللّغة العربيّة، وهي من جنس الكلام الّذي نُسج وصيغ بأرقى وأعظم أسلوبٍ يمكن أن تسمعه الأذن، لذلك قال الكافرون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ]فصِّلت[، لا تسمعوا؛ أي أنّ الأذن عندما تستمع إلى القرآن الكريم ستتأثّر وستتجاوب، والدّليل على ذلك أنّه ما سمع أحدٌ القرآن الكريم وهو لا ينوي اللّغو فيه إلّا وتأثّر فيه.

﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾: هناك آياتٌ كونيّةٌ تثبت صحّة آيات القرآن الكريم، وكلّ ما جاء من آياتٍ كونيّةٍ في القرآن الكريم ثبتت من خلال العلم والحجّة والدّليل والبرهان العقليّ، فالقرآن الكريم لا يمكن أن يصادم العقل البشريّ لا في وقت النّزول ولا في أيّ وقتٍ من الأوقات حسب تقدّم الأزمان وتطوّر العصور، وضربنا أمثلةً كثيرةً تتعلّق بمراحل تطوّر الجنين والأرض والسّماء والماء والهواء والنّبات وكرويّة الأرض وغيرها.

فآيات القرآن الكريم آياتٌ معجزةٌ، يقول الله I:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ]آل عمران[، فالّذي يستنتج ويستنبط ويأخذ الدّليل على وجود الله I هم أولو العقول، أمّا الّذين غيّبوا عقولهم فهؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا بالله I، ومع الأسف هناك الكثير من النّاس الّذين يحاولون أن يشوّشوا على الإيمان وعلى القرآن الكريم، ويدّعون بأنّ أهل القرآن وأهل الإيمان وأهل الإسلام يلغون العقل، والقرآن الكريم جاء ليناقش ويحاجج ويدحض ويبيّن ويثبت بالدّليل والبرهان، فهو يتعامل مع العقل، وبما أنّه يتعامل مع العقل فلا يقولنّ قائلٌ ويدّعي -وليست القضيّة قضيّة دعوة-: إنّي صاحب عقلٍ… إلى ما هنالك، فالله تعالى نزّل القرآن الكريم، وهو خالق الكون، وخالق العقل والعلم، فلا تصادم ولا تعارض بين القرآن الكريم وبين العلم والعقل، وهذا واضحٌ لا يقبل الجدل الّذي لا يغني ولا يسمن من جوعٍ.

﴿الْكِتَابِ﴾: نحن هنا ما بين الآيات الكونيّة والآيات القرآنيّة، فآيات الكتاب هي معجزاتٌ، الآية تعني المعجزة، كقوله I:﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ]الشّعراء[، فالقرآن الكريم كلّه معجزٌ من أوّله إلى آخره بكلّ حرفٍ فيه وبكلّ حركةٍ إعرابيّةٍ، ففيه إعجازٌ علميٌّ وبلاغيٌّ وأخلاقيٌّ ونفسيٌّ وروحيٌّ.

﴿الْحَكِيمِ﴾: الله I حكيمٌ، ووصف كتابه بالحكيم، والحكمة: أن تضع الشّيء في مكانه المناسب في الوقت المناسب، فالقرآن الكريم هو منتهى الحكمة والدّقّة والعظمة والعلم والعقل والعطاء والفكر والرّوح والرّحمة.

([1]) كنز العمّال: ج 1، ص 555، الحديث رقم (2491).

الآية رقم (12) - وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾: يبيّن لنا المولى سبحانه وتعالى حال البشر في الأزمات، كلّ إنسانٍ في هذه الحياة معرّضٌ إلى أن يمسّه الضّرّ، فيلجأ إلى الأسباب، وعندما لا يجد استجابةً من الأسباب، يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويلجأ إلى الدّعاء.

﴿ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾: لجنبه: مضطجعاً لجنبه، كأنّ المولى سبحانه وتعالى  يقول: عندما يفقد الإنسان القدرة على الأسباب فإنّه يلجأ إلى الدّعاء في حالات الضّرّ، فهذه حالات الإنسان، لكنّه لم يذكر من حالاته (ماشياً)؛ لأنّ الماشي يعتقد أنّ لديه قدرةً، فلا يفكّر باللّجوء إلى الله سبحانه وتعالى .

﴿ كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ ﴾: كشفنا: وكأنّ الضّرّ قد لفّ الإنسان لفّاً.

﴿ مَرَّ ﴾: وكأنّ له وقفةً عند الله عز وجل، فهو توقّف لحظاتٍ عندما مسّه الكرب والضّيق والضّرّ، ونادى: يا ربّ يا ربّ.

﴿ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾: كأنّه لم يمرّ هذا الضّرّ، ولم يدعُ الله تعالى أبداً.

﴿كَذَلِكَ ﴾: أي هكذا هو حال.

﴿زُيِّنَ ﴾: فعلٌ مبنيٌّ للمجهول، فمن الّذي زيّن؟ قد يكون الشّيطان أو نفس الإنسان..، لم يحدّد المولى سبحانه وتعالى بل تركها مجهولةً.

﴿لِلْمُسْرِفِينَ ﴾: الإسراف: هو تجاوزٌ لما أعطى الله سبحانه وتعالى للإنسان، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى لنا أنّه لا يحبّ المسرفين في كلّ أمرٍ من الأمور.

﴿ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: فاعتقدوا أنّ أعمالهم ستنجيهم.

الآية رقم (2) - أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ

﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾: يجب ألّا يتعجّب أحدٌ؛ لأنّه سبحانه وتعالى أرسل رسولاً من البشر، ولو أراد أن يُرسل رسولاً من الملائكة لأرسل، لكنّه يُريده من البشر، وعندما قال مشركو مكّة: ينزل القرآن على يتيم أبي طالب؟ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ]الزّخرف[، فهم ينظرون إلى العظمة من خلال المال والجاه والسّلطان، ولذلك تعجّبوا من نزول القرآن الكريم على بشرٍ وليس على مَلَكٍ.

ومن المنطقيّ ألّا يتعجّبوا؛ لأنّه يُتَعَجّب من الشّيء إذا بلغ من الحُسن مبلغاً فوق مستوى ما تعرفه البشر، فكيف يتعجّبون، وقد جاءهم رسولٌ من أنفسهم؟﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ]التّوبة[، أليس هذا هو المطلوب في النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ كيف تتعجّبون؟ إنّ إيحاءنا لرجلٍ منكم كان عجيباً عندكم، وما كان يصحّ أن يكون أمراً عجيباً؛ لأنّه أمرٌ منطقيٌّ.

﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا﴾: الوحي: هو الإعلام بخفاءٍ، هناك إعلامٌ واضحٌ وإعلامٌ بخفاءٍ، الإعلام الواضح كأن تقول لابنك: يا بنيّ، اسمع كذا وافعل كذا، المولى سبحانه وتعالى يوحي لمن شاء بما يشاء وكيفما يشاء، مثلاً: يوحي إلى الأرض كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ ]الزّلزلة[، ويوحي إلى الحيوان: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ ]النّحل[، المولى سبحانه وتعالى يوحي إلى غير الأنبياء أيضاً، قال سبحانه وتعالى : ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ]القصص[، فأوحى الله سبحانه وتعالى  إلى الأنبياء بالرّسالات، وبيّن لهم أنّه يجب أن يُجنّبوا النّاس الإنذار، لذلك قدّم الإنذار هنا على البشارة فقال:

﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: إنذارٌ بالعذاب وبشرى للّذين آمنوا.

الإنذار أوّلاً؛ لأنّ دفع المضرّة أولى من جلب المنفعة.

﴿النَّاسَ﴾ : النّاس هم الجنس المنحدر من آدم u إلى أن تقوم السّاعة، الله سبحانه وتعالى نزّل القرآن الكريم باللّغة العربيّة الّتي فيها أسرارٌ وفقهٌ وفيها العامّ والخاصّ، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى :﴿النَّاسَ﴾ فقد يكون المقصود المعنى الخاصّ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ ]آل عمران: من الآية 173[، ليس البشر كلّهم الّذين قالوا، وإنّما هو شخصٌ أو بضعة أشخاصٍ، وكقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ]النّساء: من الآية 54[، المقصود بالنّاس النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا فهم فقه اللّغة العربيّة، وقد قال بعضهم: إنّ الإسلام دين تطرّفٍ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أمرتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، ويُقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله»([1])، فهل يقاتل النّاس جميعهم؟ كيف ترك أهل الكتاب؟ كيف ترك المشركين؟ كيف هناك حريّة اعتقاد؟ بالتّأكيد لم يقصد النّاس كلّهم، فالمقصود من النّاس هنا المعنى الخاصّ؛ أي مشركي العرب الّذين قاتلوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعندما يقول كلمة: النّاس، يجب علينا أن نفهم أنّها لا تُطلق على النّاس كلّهم إلّا إذا كانت عامّةً، مثل قوله سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ ]آل عمران[، وهنا في هذه الآية الّتي يقول فيها عز وجل: ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾؛ أي النّاس كلّهم على الإطلاق.

﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: أي مكانةً ومنزلةً رفيعةً من عملهم.

كلّ جارحةٍ لها ظاهرٌ في الحركة والأعمال، فالقدم تسعى إلى الأشياء، واليد تتحرّك في العطاء، والأُذُن في السّمع، والعين في الرّؤية..، وهكذا يكون معنى: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ هو سابقةٌ في الفضل أهّلتهم بأن يكونوا موضع البشارة.

والصّدق: هو جماع الخير، وعليه تدور الحركة النّافعة في الكون، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ ]يونس: من الآية 93[، فكلمة الصّدق نجدها في القرآن الكريم: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾،﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾،﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ ]الإسراء: من الآية 80[، فأمور الحياة كلّها وفضائلها وخيراتها وما ينتظر النّاس من سعادةٍ كلّ ذلك قائمٌ على كلمة الصّدق؛ أي أنّ لهم سابقة فضلٍ عند ربّهم يجازيهم بها بالتّصديق.

﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾: لم يستطيعوا مواجهة الحقائق والأدلّة والبراهين والرّوحانيّات إلّا بالافتراء والكذب والدّجل والادّعاء بأنّ النّبيّ ﷺ ساحرٌ مبينٌ، وهذا ما جرى حتّى اضطرّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من مكّة إلى المدينة.

هكذا نفهم كيف كان موقفهم من سياق الآية، بأنّهم رفضوا واستكبروا، وقالوا: إنّه ساحرٌ، والسّاحر هو الّذي يصنع أشياء توهمك أنّها حقيقةٌ وهي ليست بحقيقةٍ، كسحرة فرعون الّذين أوهموا المسحورين بغير الواقع، فالسّاحر يرى الشّيء على حقيقته، أمّا المسحور فهو الّذي تتغيّر رؤيته إلى الشّيء فيُخيّل إليه أنّه شيءٌ آخر.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، بابباب ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ ، الحديث رقم (25).

الآية رقم (3) - إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾: أي أنّ الّذي ربّى وأعطى وأنعم هو الّذي كلّف، ويجب أن تستمعوا إلى منهجه.

﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ : بيّن سبحانه وتعالى  الحيثيّات، قال الله تعالى لنا أنّه خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام، وهناك آياتٌ في سورة (فصّلت) جاء فيها تفصيلٌ، ويظهر من أسلوبها أنّ الخلق استغرق ثمانية أيّامٍ هكذا يعتقد بعض النّاس، وهي قوله سبحانه وتعالى :﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ ]فصّلت[، ولكنّها حقيقةً ستّة أيّامٍ، ونحن نعلم أنّ المجمل يفسّره المفصّل، إلّا العدد فإنّ مفصّله محمولٌ على مجمله، فالأرض خلقها الله سبحانه وتعالى في يومين، وجعل فيها رواسي وبارك فيها، وكلّ مخلوقٍ ثانٍ هو تتمّةٌ للأوّل، فاليومان الأوّلان إنّما يدخلان في الأيّام الأربعة، وخلق السّماوات أخذ اليومين الأخيرين فصار المجموع ستّة أيّامٍ، سنتوقّف عند استثنائيّات الزّمن، فمثلاً اليوم على كوكب الزّهرة أطول من العام الزّهريّ؛ لأنّ العام الزّهريّ على توقيت الأرض مئتان وخمسةٌ وعشرون يوماً، أمّا طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مئتان وأربعةٌ وأربعون يوماً، وما أظهره الله سبحانه وتعالى  لنا في القرآن الكريم من الأزمنة إنّما يدلّ على اختلافها لا على التّعارض والتّناقض، وعندما يقول سبحانه وتعالى :﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ]الحجّ: من الآية 47[، أو: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ ]السّجدة: من الآية 5[، الزّمان والمكان مخلوقان لله سبحانه وتعالى ، ونحن لا نطبّق على قدرة الله سبحانه وتعالى ما يتعلّق بقدرة البشر، فالحدث يحتاج إلى زمانٍ ومكانٍ، أمّا الله سبحانه وتعالى  فهو خالق الكون، فلا نقول عنه سبحانه وتعالى: أين وكيف؟ فهو تبارك وتعالى لا يخضع لمعيار الزّمان والمكان، والزّمن عنده جل جلاله يختلف ببيان اختلافه.

﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: وقف العلماء عند كلمة استوى طويلاً، فوجدوها قد جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى  في اثنتي عشرة سورة: البقرة والأعراف ويونس والرّعد وطه والفرقان والقصص والسّجدة وفصّلت والفتح والنّجم والحديد، وأوّل سورةٍ جاء فيها ذكر استواء الله عز وجل على العرش هي (الأعراف) في قوله سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ]الأعراف: من الآية 54[، إنّ الصّفات الّتي توجد في البشر ووصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه مثل: قويّ، عالم، عليم، غنيّ، كريم..، لا تؤخَذ على مقتضى ما هي عند البشر، فكلّ إنسانٍ ممكن الوجود، لكنّ الحقّ سبحانه وتعالى واجب الوجود ليس كمثله شيءٌ، وما يُفسد الفهم أن يُقال: استوى، بمعنى جلس أو قعد، أو نأخذ الاستواء كتمثيلٍ للسّيطرة، وسبحانه مسيطرٌ على كلّ شيءٍ من غير كلمة الاستواء، والاستواء تعني التّمكّن، قال سبحانه وتعالى :﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ]القصص: من الآية 14[، استوى: تعني بلوغ الكمال في الذّات، أمّا بالنّسبة لله سبحانه وتعالى  فلا نقول ذلك بحقّه سبحانه وتعالى ، فكلّ استواءٍ لله سبحانه وتعالى  يجب أن يؤخذ على أنّه استواءٌ يليق بذاته وصفاته، فهي صفاتٌ مطلقةٌ في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ]الشّورى: من الآية 11[، وفعل الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتساوى مع فعل البشر، لذلك قلنا في حديث الإسراء: إنّ الكفّار عندما كذّبوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّه قد أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السّماء، قال سبحانه وتعالى بالآية ذاتها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ]الإسراء: من الآية 1[، أي تنزّه الله سبحانه وتعالى  في صفاته وقدرته عن الخلق، وهناك فرقٌ بين تمثيل الشّيء وبين حقيقته، فحين يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ ]النّور: من الآية 35[، فهذا مثلٌ توضيحيٌّ للبشر، فالأمر واضحٌ الآن إن سأل أحدهم: كيف استوى على العرش؟ هل له عرشٌ؟ فنقول له: بما يليق بذات الله سبحانه وتعالى ، ولا نأخذ الاستواء على المعنى الّذي يدلّ على المكان الـمُحيَّز؛ لأنّه سبحانه وتعالى  منزّهٌ عن ذلك، فذاته جل جلاله ليست كالذّوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصّفات، أمّا كيفيّة الاستواء فهي مجهولةٌ، ومعرفتها لا تُقدِّم ولا تؤَخِّر بالنّسبة للتّشريع والأوامر والنّواهي، ولا يجب إدخال النّاس بهذه المتاهات وهذه النّقاشات السّفسطائيّة.

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: أي يرتّب الوجود ترتيباً يجعل كلّ شيءٍ موضوعاً في مكانه بحكمةٍ، والحقّ سبحانه وتعالى  له صفة علمٍ وصفة إرادةٍ وصفة قدرةٍ، فصفة العلم هي الّتي تضع كلّ شيءٍ في مكانه بحكمةٍ، وصفة الإرادة هي الّتي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وصفة القدرة تبرز مراد الله سبحانه وتعالى ، فعندما يقول الله Y:﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي جاء ليؤكّد نفي التّعجّب من أن يكون الوحي للنّبيّ ﷺ عندما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ ]يونس: من الآية 2[، وعلّتها أنّ الله سبحانه وتعالى هو الرّبّ وهو الّذي خلق، وإذا استقرأنا الأفعال والأحداث سنجد الأمور المحرّمة قليلةً، والأمور الـمُباحة كثيرةً جدّاً، فالله سبحانه وتعالى  أباح لنا شرب الماء والعصير والمشروبات بأنواعها ما عدا الخمر، فالمحظور واحدٌ، والله سبحانه وتعالى  هو الّذي شاء أن نفعل ذلك، أو ألّا نفعل، والكون المادّيّ المخلوق لله جل جلاله في غاية الدّقّة والنّظام، فلن تمتنع الشّمس من أن تشرق أو أن تعطي ضوءها وحرارتها للنّاس، وما امتنع القمر أن يعطي نوره لأحدٍ، وإذا نظرنا إلى معنى كلمة: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ نجد أنّ كلّ شيءٍ ينشأ عن قوله: ﴿يإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ]يس[، فسبحانه يدبّر الأمر في السّنن المادّيّة الّتي لا تتناولها يد الإنسان، فإن أراد الإنسان أن يضبط أمور حياته فليأخذ المنهج الّذي أنزله الله جل جلاله: (افعل ولا تفعل)، والمباحات -كما قلنا- كثيرةٌ، والإنسان حرٌّ في الاختيار بين البدائل، لكنّه ليس حرّاً بأن يقول للشّمس: اغربي ولا تشرقي، أو يقول للهواء: امتنع عن فلانٍ؛ لأنّني أكرهه، أو يقول: لا أريد أن أتنفّس، أو: لا أريد النّور…، فهذا الأمر يدبّره الله سبحانه وتعالى  ووضع للبشر نظاماً مستقيماً محكماً لا يتخلّف، ونواميس الكون تعمل بدقّةٍ ينتفع بها المؤمن والكافر، حتّى بعض العلماء الّذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى  ومنهجه حدّدوا مواعيد الكسوف والخسوف الجزئيّ أو الكلّي للشّمس أو القمر بدقّةٍ متناهيةٍ؛ ذلك لأنّ هناك استقراراً لمعطيات الكون.

﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾: جاء الحقّ سبحانه وتعالى بمسألة الشّفاعة بعد مسألة تدبير الأمر؛ لأنّ هؤلاء المشركين الّذين تعجّبوا من إرسال الله سبحانه وتعالى  لرسوله الكريم كانوا يعبدون ما لا يضرّهم ولا ينفعهم، ويقولون: إنّ تلك الأصنام تشفع لهم عند الله عز وجل، ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ﴾ ]يونس: من الآية 18[، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾  ]البقرة: من الآية 255[، وفي آيةٍ أخرى يقول جلّ وعلا : ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ]طه[، فالشّفيع لا بدّ له من إذنٍ ورضاً من الله جل جلاله.

﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُو﴾: فسبحانه خلق الكون، واستتبّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون.

﴿ذَلِكُمُ: أي إشارةٌ إلى ما تقدّم من خلق السّماوات والأرض والاستواء على العرش وتدبير الأمر كلّه، وأنّه لا أحد يشفع عنده إلّا بإذنه، هذا هو الله ربّكم عز وجل، وما دام هو ربّكم فاعبدوه؛ لأنّه هو الّذي خلق من عدمٍ وأمدّ من عدمٍ، وله صفات الكمال المطلق، والعبادة لا تعود عليه بمنفعةٍ أو فائدةٍ فهو منزّهٌ عن ذلك، فأنتم تعبدونه لمصلحتكم، ولا تزيدوا في مُلكه شيئاً إذا عبدتموه، كما جاء في الحديث الشّريف: «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضُرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً»([1]).

﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾: المخّ فيه ملكاتٌ متعدّدةٌ مثل مَلَكة التّخيّل، والحفظ والاختزان، والكثير من الـمَلَكات الأخرى، ومنها ملَكَة التّذكّر، ومعنى التّذكّر: أنّ شيئاً سبق لك به إلفٌ أو فطرةٌ، ونسيت هذه الفطرة فيذكّرك بها، وقد قال سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ ]الأعراف[، وقد نسي الإنسان هذه الفطرة فأرسل الله سبحانه وتعالى  الرّسل مبشّرين ومنذرين ومذكّرين، قال سبحانه وتعالى :  ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ الغاشية[، مذكِّرٌ يذكّر بعالم الفطرة الأولى، وكلّ ما في الكون يدلّ على وجود اللّطيف الخبير.

([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

الآية رقم (4) - إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ

﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ : هذا إعلامٌ للخلق أنّ الأمور معلومةٌ له سبحانه، فقد أنزل جل جلاله التّكليف الّذي قد يُطاع وقد يُعصى، فمن أطاع سيفرح بقوله سبحانه وتعالى : ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ ، ومن عصى سيحزن؛ لأنّه سيلقى عقاب العصاة حين يرجع إلى الله عز وجل.

﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: وقد جاء هنا قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ ؛ ليفيد بأنّ الخروج إلى الوجود بالميلاد، ثمّ بعد ذلك الخروج عن الحياة إلى الموت، ومن بعد ذلك البعث، فإن قال قائلٌ: كيف يكون ذلك؟ يأتي قول الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، فالّذي قدر على أن يخلق من عدمٍ أيعجز عليه أن يعيد من وجودٍ؟ إنّه الحقّ سبحانه وتعالى القائل: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ ]مريم: من الآية 9[، فإذا شاء أن يعيدكم فلا تتساءلوا كيف؟ لأنّ ذرّاتكم موجودةٌ، والحقّ سبحانه وتعالى يقول:  ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ]ق[، فجاء هذا القول مُطَمئناً للملتزمين بالمنهج بأنّ هناك بعثاً وحساباً.

﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾: يضيف الله سبحانه وتعالى لوصفه هذا الوعد بأنّه حقٌّ، قد يقول قائلٌ: أليس كلّ وعدٍ من الله جل جلاله هو حقٌّ؟ نقول: نعم، كلّ وعدٍ من الله سبحانه وتعالى  هو حقٌّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى  أراد أن يصف هذا الوعد بأنّه حقٌّ ليذكّرنا بأنّ الحقّ هو الشّيء الثّابت، فإن خُيّل إليك في بعض الأوقات أنّ الباطل هو السّائد والسّيّد، فلتعلم أنّ الباطل لا ثبات له ولا سيادة، وأنّه سيزول، وإن أفلت الإنسان من عدالة الأرض فلن يفلت من عدالة السّماء، والله تعالى يقول: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ] الرّعد[، فحين ينزل المطر نجد كلّ وادٍ يأخذ من الماء على قدر حاجته، فينظّف المكان الّذي ينزل عليه، فتطفو الأشياء الخفيفة وغير المفيدة، كذلك الباطل يطفو على السّطح، لكنّه لا يفيد ولا يزعزع الحقّ الّذي يستقرّ وينفع النّاس والأرض، وبما أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾، فلا بدّ أنّه الوعد الحقّ؛ لأنّه سبحانه يملك ما يَعِد به، وهو سبحانه وتعالى  أقوى ممّا خلق وممّن خلق، فلا تخونه إمكاناته؛ لأنّه يملك الكون كلّه.

﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾: المؤمن المطيع لا بدّ أن ينال حُسن الثّواب، والعاصي الشّرير الّذي شقيت الدّنيا به وبعصيانه لا بدّ أن ينال العقاب، لذلك لا بدّ من الإعادة ليجزي الله سبحانه وتعالى كلّ واحدٍ بعمله بالقسط.

القسط: كما أوضحنا سابقاً معناه: العدل، والمادّة هي القاف والسّين والطّاء، تُقرأ بفتح القاف وكسر القاف، قَسَط بالفتح تعني الظّلم، لذلك نجد قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ ]الجنّ[، القاسطون: أي الظّالمون الجائرون على حقوق غيرهم، ونجد قول الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾  ] المائدة: من الآية 42[، بالكسر؛ أي العادلين بين النّاس.

﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: لا تأتي الّذين ﴿ آمَنُوا ﴾ إلّا وتأتي معها  ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، فهي ليست أقوالاً إنّما عملٌ صالحٌ، فالمولى سبحانه وتعالى  يجزيهم؛ لأنّهم عدلوا في العقيدة والاستقامة والمنهج والحياة، فالقرآن الكريم يحكم بين النّاس في قضايا العقائد وقضايا الاختيار في الأفعال، قال سبحانه وتعالى : ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴾ ] النّجم[، فإن كان الإنسان لا يأخذ إلّا جزاء ما سعى، فسيقول بعضهم: فكيف يُجزى عن الحسنة بعشر أمثالها؟ وكذلك ماذا تُفيد صلاة الجنازة للميّت؟ وهل ينتفع بها الـميّت حين ندعو له بالمغفرة؟ ولماذا كُلّفنا من قِبل الحقّ سبحانه وتعالى بصلاة الجنازة كفرض كفايةٍ مع أنّ الميّت ليس له إلّا جزاء سعيه؟ الجواب: كُلّفنا بها؛ لأنّ الدّعاء للميّت يعود عليه، وإنّ فعل الميّت في الحياة قبل موته سببٌ ليكون هناك من يدعو له، فهي من فِعله، ونعلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمةٍ وفضلٍ»([1])، فهذه من رحمة الله سبحانه وتعالى  أن جعل الحسنة بعشر أمثالها، ومن رحمته عز وجل أنّ الدّعاء يعود على الـميّت، خاصّةً من الأولاد لآبائهم وأمّهاتهم.

﴿ بِالْقِسْطِ ۚ ﴾: أي جزاء منه بالعدل.

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾: كلمة: ﴿ شَرَابٌ﴾ تفيد الارتواء، وقد وصف سبحانه وتعالى  شراب أهل النّار: ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ ] الكهف: من الآية 29[، وهم يستغيثون للنّجاة فيأتيهم الغوث بما يُنَاسب عذابهم: ﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾.

 ﴿ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾: هذا العقاب نتيجة عملهم وجحودهم وكفرهم بآيات الله سبحانه وتعالى، فكان جزاؤهم العذاب الأليم والشّراب الحميم.

([1]) مسند أحمد بن حنبل: مسند أبي هريرة رضي الله عنه، الحديث رقم (7473).

الآية رقم (124) - وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ﴾: تحدّثنا عدّة مرّاتٍ أنّ القرآن الكريم يقول مرّةً: ﴿أَنْزَلَ﴾، ومرّةً:﴿أُنْزِلَ﴾، ومرّةً:﴿نَزَّلَ﴾، فالقرآن الكريم نزل من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزّله الحقّ سبحانه وتعالى  نجوماً، فالتّنزيل معناه موالاة النّزول لأجزاء القرآن الكريم، فالقرآن قد أُنزل كلّه من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ بعد ذلك نزل به جبريل u على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمعت الآية تنزيل الحقّ للقرآن الكريم من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزول جبريل u بالقرآن الكريم على رسول الله : عندما قال سبحانه وتعالى :﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ]الإسراء: من الآية 105[، وفي سورةٍ أخرى قال سبحانه وتعالى :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ]الشّعراء[.

﴿سُورَةٌ﴾: السّورة: هي طائفةٌ من القرآن الكريم مسوّرةٌ بسورٍ خاصٍّ أوّله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وتأتي بعده سورةٌ أخرى، تبدأ بقول الحقّ سبحانه: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، مأخوذةٌ من السّور الّذي يحدّد المكان، والمقصود هو نزول أجزاءٍ من القرآن الكريم الّذي كان ينزل على رسول الله عليه الصّلاة والسّلام مُنَجّماً.

﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ﴾: المقصود هنا هو المنافقون الّذين رجعوا عن الإيمان.

﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾: القرآن الكريم حقٌّ، وهو من عند الله سبحانه وتعالى ، وله فاعليّةٌ إشراقيّةٌ في صفاء النّفس، قد سمعه الكفّار من قبل، وشهدوا له، أمّا المؤمن فحين يسمعه فإنّه يستبشر، لكن حين يستقبل القرآن الكريم إنسانٌ يحمل في قلبه كراهيةً له فلن يتأثّر، وذلك مثلما قابل بعض المنافقين القرآن الكريم، وقالوا: لن نتأثّر به، هذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، والقائل لم يزده سماعه للقرآن الكريم شيئاً، وهو يهمس لمنافقٍ مثله، أو لضعيف الإيمان،﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾؟ فيردّ الله سبحانه وتعالى  على القضيّة النّفسيّة، ويعلّمنا أنّه سبحانه وتعالى  قد قسّم لنا قسمين:

الأوّل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.

الثّاني: هم المذكورون في الآية الآتية:

الآية رقم (125) - وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ

﴿رِجْسًا﴾: الرّجس هو الشّيء المستقذر، وتكون القذارة حسيّةً ومعنويّةً، فالميتة مثلاً قذارتها حسيّةٌ؛ لأنّها ماتت ودمها محبوسٌ فيها، أمّا المعنويّة فهم يزدادون رجساً على رجسهم، ويصبح الكفر مركّباً عندهم.

الآية رقم (126) - أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ

كلّ عامٍ هناك مصائب وفضائح للمنافقين، وهنا يذكّرهم الحقّ سبحانه وتعالى  بأنّ رسول الله ﷺ يصفّيهم في كلّ عامٍ؛ أي يقول: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء منافقون، بدليل أنّه عند موت المنافق كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصلّي عليه وذلك بعد أن أمره الله سبحانه وتعالى  بقوله: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ]التّوبة[.

﴿يُفْتَنُونَ﴾:الأصل في الفتنة أنّها امتحانٌ واختبارٌ، والاختبار ليس مذموماً، لكنّ المولى سبحانه وتعالى يبيّن أنّه كان لا بدّ أن يتوبوا أو يتّعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضدّ الإسلام لم ولن يحجب الإسلام أبداً، فلماذا لا يتذكّر كلٌّ منهم نفسه، ويرى أنّ مصلحته الدّنيويّة والأخرويّة في الإيمان؟

الآية رقم (127) - وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون

إنّ هؤلاء المنافقين يشعرون بالضّيق والحصار، ويخافون أن يتكلّموا لوجودهم مع المسلمين، ولكنّهم لا يُعدِمون وسيلةً للتّعبير عن إشراكهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارةً بيده، فإذا كانوا قد تساءلوا من قبل: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ فقد كان سؤالاً يتعلّق بالتّكاليف، أمّا في هذه الآية فليس فيها تكاليف جديدةٌ، بل كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنّهم لم يستطيعوا التّكلّم بأفواههم فتكلّموا بأعينهم ونظراتهم، فكأنّ النّظر نفسه كان فيه هذه العبارة: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ فما أجمل التّعبير القرآنيّ، أحياناً انفعالات وجه الإنسان هي الّتي تعطي الإجابة وعدم الرّضا.

﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾: دليلٌ على أنّهم في خوفٍ من أن يضبطهم أحدٌ، وبعد ذلك يتسلّلون خارج دائرة الاستماع للقرآن الكريم أو الرّسول الكريم، فهم لا يستطيعون الاستماع إلى منطق الحقّ؛ لأنّه يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادرٍ على الإعلان بأنّه كافرٌ، فينسحب وينصرف كلّ واحدٍ منهم، لذلك نجد أنّ بعضهم قد قال من قبل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ]فصّلت: من الآية 26[، وذلك نتيجةً لانصرافهم نفسيّاً إلى النّفاق، فيساعدهم سبحانه وتعالى على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان فليذهبوا بعيداً عنه.

﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾: يقول الحقّ سبحانه وتعالى  ذلك؛ لأنّهم انصرفوا عن الإيمان، والله سبحانه وتعالى  هو مصرّف القلوب، فلا يقولنّ قائلٌ: ما ذنبهم والله سبحانه وتعالى هو مصرّف القلوب؟ الجواب: لقد انصرفوا، فصرف الله سبحانه وتعالى  قلوبهم.

﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾: أي لا يفهمون، والفهم أوّل مرحلةٍ من مراحل الذّات الإنسانيّة، هناك فرقٌ بين الفهم والعلم، فالفهم هو امتلاك قدرةٍ على تفهّم ذاتيّة الأشياء لِـمَلَكةٍ في الشّخص، لكنّ العلم أنّك قد لا تفهم بذاتك، وإنّما يُفهمك غيرك ويُعلّمك، فأنت قد تعلم جزئيّةً لا من عندك ولكن من معلّمٍ لك، لكن قد يقول قائلٌ: ما داموا لا يفهمون ما ذنبهم؟ نقول: الّذي لا يفهم عليه أن يتقبّل التّعليم، لكنّ هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلّموا، بل وأصرّوا على عدم قبول العلم.

الآية رقم (128) - لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾: نسب الله سبحانه وتعالى المجيء إلى رسول الله ﷺ، ولم يقل: (جئتكم برسول)، فكلمة رسولٍ تدلّ على أنّه ليس من عنده، وإنّما من عند الله سبحانه وتعالى، كلمة ﴿جَاءَكُمْ﴾ تدلّ أنّ الشّحنة الإيمانيّة جعلت لذاته عملاً، فهو صلى الله عليه وسلم يعشق الرّسالة والصّدق والخير.

﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾: ليس غريباً عنكم، وإنّما واحدٌ منكم، قادرٌ على التّفاهم معكم، وقوله سبحانه وتعالى :﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ له معانٍ متعدّدة، فيمكن أن تكون من جنسكم، وهناك قراءةٌ: (من أَنفَسِكم)، ومن معانيها أنّه عربيٌّ؛ أي من جنس العرب، هنا يجب أن ننوّه إلى أنّه لا يمكن الفصل بين العروبة والإسلام، فالقرآن عربيٌّ والنّبيّ عربيٌّ والتّعبّد عربيٌّ والصّلاة تكون بالعربيّة، فلا يعتقدنّ أحدٌ بأنّه يستطيع أن يفصل بين العروبة والإسلام.

لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم تعلمون تاريخه، وتعلمون أنّه أهلٌ لتحمّل أمانة السّماء للأرض، كما تحمّل أماناتكم في الأرض، رسولٌ من أنفسِكم ومن أنفسَكم مرسلٌ من الله سبحانه وتعالى.

﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾: لا يريد أن يشقّ عليكم، فهو : يعزّ عليه ما يتعبكم وما يعنتكم.

كلمة عزيزٍ؛ أي يعزّ عليه، والشّيء العزيز؛ أي نادر الوجود، والمراد هنا: مشقّةٌ، أو أن يعنتكم بحكمٍ، فقلبه ﷺ رحيمٌ بكم، فهو لا يأتي لكم بالأحكام لكي يشقّ عليكم، بل تتنزّل الأحكام من الله سبحانه وتعالى  لمصلحتكم، لذلك يقول الرّسول الكريم: «إنّما مثلي ومثل النّاس كمثل رجلٍ استوقد ناراً، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدّوابّ الّتي تقع في النّار يقعن فيها، فجعل ينزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذٌ بحجزكم عن النّار وأنتم تقحمون فيها»([1]).

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: الرّأفة والرّحمة قد تلتقيان في المعنى العامّ، ولكنّ هناك أموراً تسلب مضرّةً، وأموراً تجلب منافعَ، وسلب المضرّات مقدّمٌ على جلب المصالح والمنافع، فحين نواجه عملاً يضرّ وعملاً ينفع نقوم بدرء ما يضرّ قبل أن ننجز العمل النّافع، لذلك فهو : رؤوفٌ رحيمٌ، فالرّأفة سلب ما يضرّ من الابتلاء والمشقّة، والرّحيم هو الّذي يجلب ما ينفع من النّعيم والارتقاء، يقول سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ]النّحل: من الآية 7[.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، الحديث رقم (6118). ينزعهنّ: يدفعهنّ ويمنعهنّ، فيقتحمن: يهجمن ويرمين بأنفسهنّ، آخذٌ: أمسك بشدّة، بحجزكم: جمع حجزة، وهي معقد الإزار، وهو كنايةٌ عن حرصه: على منع أمّته عن الإتيان بالمعاصي الّتي تؤدّي بهم إلى الدّخول في النّار، وأنتم تقحمون: أصلها تتقحمون فحذفت إحدى التّائين تخفيفاً. وفي رواية: «وهم يقتحمون».

الآية رقم (118) - وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ الثّلاثة هم: كعب بن مالك وهلال بن أميّة ومرارة بن الرّبيع، قد تخلّفوا عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذرٌ في التّخلّف، فكلّ واحدٍ منهم كان يملك راحلته وعنده مالٌ، وعنده من النّفقة ما يكفيه، وقد قصّ علينا أحدهم فيما روت كتب السّيرة بأنّه لم يكن لهم عذرٌ فقال: ما كنت في يومٍ من الأيّام أقدر على المال والرّاحلة منّي في تلك الغزوة؛ أي غزوة تبوك، فكنت أقول: أتجهّز غداً ويأتي الغد ولا أتجهّز حتّى انفصل الرّكب، فقلت: ألحق بهم، ولم ألحق بهم.

﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾: نعود للآيات السّابقة: (وآخرون مرجون لأمر الله) بما أنّه قد تأخّر الحكم فيهم، فلا بدّ من الانتظار، وهؤلاء الثّلاثة ضاقت عليهم الأرض وحاصرهم المجتمع، فلم يجد أحدٌ منهم مكاناً يذهب إليه، فالكرب قد أحاط بهم من كلّ جانبٍ.

﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾: فقد تخلّف الثّلاثة عن الغزوة لا لعذرٍ، وإنّما لمجرّد الكسل والتّواني والتّخلّف عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر : بمقاطعتهم، فكان كعب بن مالك يخرج إلى السّوق فلا يكلّمه أحدٌ، ويذهب إلى أقربائه فلا يكلّمه أحدٌ، ويتسوّر على الحائط لعلّهم ينظرون إليه، وكذلك هلال بن أميّة فعل الشّيء ذاته، لكنّ المجتمع حاصرهم لمدّة خمسين يوماً إلى أن أنزل الله سبحانه وتعالى  توبتهم، وفي ذلك تمحيصٌ لهم.

﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾: فلا يجير إلّا الله سبحانه وتعالى ، وهو جل جلاله يجير من نفسه، فلا منجا ولا ملجأ منه إلّا إليه، فكأنّ الله سبحانه وتعالى  يقول: لا سلطان لأحدٍ غيره، فأنت تلجأ منه إليه ليحميك من صفات جلاله: القويّ القادر المقتدر .. إلخ.

﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾: شرع التّوبة من أجل أن يتوبوا؛ أي أن يرجعوا ويعودوا إلى ما كانوا عليه قبل المعصية.

 ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: فلا توّاب ولا رحيم سوى الله سبحانه وتعالى ، ويجب أن نبيّن أمراً مهمّاً، بأنّه عندما يقول المولى سبحانه وتعالى :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾هل تاب عليهم ثمّ أعطى الأمر ليتوبوا؟ (تاب عليهم)؛ أي شرع لهم التّوبة وبما أنّه فتح لهم باب التّوبة ليتوبوا، فتتحقّق المغفرة والرّحمة.

﴿التَّوَّابُ﴾: توّاب صيغة مبالغةٍ، جاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله عليه الصّلاة والسّلام فقال: يا رسول الله، إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذاً تكثر ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([1])، ورحمة الله سبحانه وتعالى  سبقت غضبه، ووسعت كلّ شيءٍ، وهو الغفور الرّحيم التّوّاب، هذه رحمة ديننا الإسلاميّ العظيم.

(([1] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

الآية رقم (119) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ

هذه الآية العظيمة تبيّن أهميّة الصّدق، وكما قال نبيّنا ﷺ: «إنّ الصّدق يهدي إلى البرّ وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكون صدّيقاً»([1])، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فالأمر يتعلّق بالإيمان، وعلى المؤمن تطبيق ما يُطلب منه، وقوله Y للمؤمنين: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ؛ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الله U وقايةً.

﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: أي كونوا من الصّادقين، لكن لماذا قال: مع؟ هنا﴿مَعَ﴾بمعنى (من)، والمقصود أن يعطي هذا القول معنىً إجماليّاً عامّاً، وهناك فرقٌ بين: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ وبين: (كونوا من الصّادقين)، ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ ؛ أي التحموا بهم فتكونون في معيّتهم، بحيث تكون لُحمة الصّدق لبناء المجتمعات هي الأساس، فالصّدق هو تطابق النّسبة الكلاميّة مع الواقع، وهو الخلّة الّتي تجمع الإيمان كلّه، عندما سأل أبو الدّرداء النّبيَّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: فهل يزني المؤمن؟ قال: «بلى، وإن كَرِه أبو الدّرداء»، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: «إنّما يفتري الكذب من لا يؤمن»([2])؛ لأنّ مدخل الإيمان هو التّصديق بالقضيّة العقائديّة الجازمة، فالصّدق هو رأس الأمر كلّه.

كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: أي لا تقولوا كلاماً لا يُصادقه الواقع، وكذلك إيّاكم أن تقولوا كلاماً يُناقض أفعالكم، وهذا هو الكذب، قال سبحانه وتعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ]الصّف[، ويقول سبحانه وتعالى : ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾  ]البقرة: من الآية 177[،  هذه هي صفات الّذين صدقوا، وهذه الآية الّتي نحن بصددها تبيّن بشكلٍ قاطعٍ مكانة الصّدق بالنّسبة لدين الإسلام.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: ﱣﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ  ﱩﱪﱢ، الحديث رقم (5743).

(([2] كنز العمّال: ج 3، ص 874، الحديث رقم (8994).

الآية رقم (120) - مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

الحديث هنا فيه رجوعٌ إلى الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك.

﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾: لأنّ هذا يُناقض الإيمان.

﴿وَلَا يَرْغَبُوا﴾: قولك: رغبت؛ أي أنّك ملت ميلاً قلبيّاً، أمّا إن قلت: رغبت في، فهو ميلٌ قلبيٌّ إلى ممارسة الفعل، وقولك: رغبت عن: فيه تجاوزٌ؛ أي أنّهم فضّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله :، لذلك نجد سيّدنا عمر t لـمّا سمع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والنّاس أجمعين»([1])، قال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيءٍ إلّا من نفسي، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا والّذي نفسي بيده، حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك»، فقال له عمر: فإنّه الآن والله لأنت أحبّ إليّ من نفسي، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»([2]).

﴿ظَمَأٌ﴾: عطشٌ، ونعلم أنّ الظّمأ قد أصاب جيش العسرة في هذه المعركة.

﴿وَلَا نَصَبٌ﴾: نصبٌ: تعبٌ، وقد كانت الغزوة في جوٍّ حارٍّ مرهق.

﴿وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾: أي مجاعةٌ، فقد كانوا يأكلون التّمر حتّى ولو أصابه الدّود.

﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾: حيث كان للكفّار رقعةٌ من الأرض يتمركزون فيها، وحين يغير عليهم المؤمنون في تبوك ويزحزحونهم عن هذا المكان، ينزلون إلى الوديان والبساتين الّتي كان فيها الرّوم، ممّا يغيظ أهل الكفر والشّرك.

﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾: يأخذون من عدوٍّ منالاً؛ أي أن يقهروا العدوّ فيتراجع ويشعر بالخسران، وحينئذٍ يأخذون الجزاء الخيّر من الله تبارك وتعالى.

(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب حبّ الرّسول : من الإيمان، الحديث رقم (15).

(([2] صحيح البخاريّ: كتاب الأيمان والنّذور، باب كيف كانت يمين النّبيّ :، الحديث رقم (6257).

الآية رقم (121) - وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

كلّ شيءٍ محسوبٌ عند الله عز وجل، حتّى هؤلاء الّذين أنفقوا فالله سبحانه وتعالى  يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم عليه، وهؤلاء الّذين ساروا في الطّريق الطّويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك سيكتب الله سبحانه وتعالى  لهم الخير.

الآية رقم (122) - وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

هذه الآية جاءت عقب آيات المتخلّفين عن غزوة تبوك مع رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، لكن يبقى أمرٌ آخر هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان هناك من يضحّي بنفسه وينفق من ماله -وهذا دليل صدقٍ- فهذا لا يعني أبداً الاستغناء عن العلم وعن هؤلاء الّذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يوحي به الله سبحانه وتعالى، فهناك منهجٌ من الله U وهناك استقبالٌ لهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً، ومن السّامعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثانياً؛ ليسيحوا به في البلاد، فكيف دخل الإسلام إلى شرق آسيا وإلى العالم كلّه؟! لقد كان ذلك من خلال أخلاقهم وتعاليم دينهم الّذي ينشر الفضائل والاستقامة.

﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾: هو جحودٌ لهذه المسألة؛ أي ما كان يصحّ أن ينفر المسلمون﴿ كَافَّةً﴾ ؛ أي جميعاً دون أن يبقى منهم أحدٌ من أجل العلم، فالعلم هو أساسٌ، ولذلك أوّل ما نزل من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى :  ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ]العلق[.

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾: لا يكفي أن يذهب النّاس إلى الجهاد فقط، بل لا بدّ أن يبقى بعضٌ منهم ليستمعوا إلى الوحي ويتفقّهوا، والرّسول الكريم كان في كثيرٍ من الغزوات والمعارك يبقى في المدينة.

﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾: يتعلّمون أحكام الدّين والأخلاق والاستقامة؛ لتكون إنذاراً للنّاس من ارتكاب المعاصي، فارتكاب المعاصي والمحرّمات هو إضرارٌ بالمجتمعات، فإذا تعلّم النّاس الاستقامة والأخلاق والإيمان والدّين، وتعلّموا عدم الكذب وعدم الغيبة وعدم السّرقة وعدم شرب الخمر وعدم لعب القمار وعدم السّطو وعدم الرّشوة… فسيصلح المجتمع، فالتّفقّه وفهم الدّين الحقيقيّ هو لمصلحة المجتمع، وليس كما حوّله الإرهابيّون والتّكفيريّون إلى أداةٍ لقتل النّاس وتشويه هذا الإسلام العظيم، فالدّين وتعاليمه والفقه فيه يجب أن يكون أساساً للسّير فيما يرضي الله سبحانه وتعالى  ويحقّق الخير للبشريّة جمعاء، فالتّفقّه هو سبب النّفرة، مثلما نبعث في أيّامنا بعثةً إلى أيّ بلدٍ متقدّمٍ لنأخذ بعلوم الحضارة.

وكلمة (الفقه) في اللّغة: تعني الفهم، أمّا اصطلاحاً: فتعني فهم أحكام الدّين الإسلاميّ الّذي يحدّد الصّواب والخطأ.

﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾: أي يتجنّبون ما يضرّهم.

الآية رقم (123) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾: أي العدوّ الأقرب منكم؛ أي بقتال العدوّ الأقرب على الإضرار بكم، وهنا لا بدّ من الشّدّة والجرأة والشّجاعة، لذلك قال سبحانه وتعالى:

﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾: لنفرّق بين أمرين، أمر الغلظة في أن تكون الحجّة قويّةً، وأمر الغلظة الّتي يتطلّبها قتال المعتدين من المشركين، فهذا أمرٌ ضروريٌّ، فالغلظة ليست صفةً دائمةً، بل فقط لردّ الاعتداء عن بلادكم؛ أي الغلظة بما يناسب الموقف؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى  قال للنّبيّ ﷺ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ ]آل عمران: من الآية 159[، هذا هو الدّين الكامل، فردّ العدوان يتطلّب الشّدّة.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾: بما أنّك اتّقيت الله سبحانه وتعالى ، فإنّك أدخلت نفسك في معيّته عز وجل.

الآية رقم (103) - خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾: الصّدقة هنا ليست الزّكاة، قال سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ ]الذّاريات[، فعندما يقول سبحانه وتعالى : ﴿حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ فهذه صدقةٌ، أمّا عندما يقول﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ ]المعارج[، فهذه زكاةٌ، هنا صدقةٌ للتّكفير عن أفعالهم، والمال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى ، وليس ملكاً للإنسان، لكنّ الله U عندما يطمئن الإنسان إلى حركته في الحياة يقول له: إنّ هذا المال هو مالك.

﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾: تطهّرهم من الرّجس، وتزكّيهم لتطهير ما قاموا به من تخلّفٍ عن رسول الله : عند ذهابه إلى غزوة تبوك.

﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: أي ادع لهم؛ لأنّ الصّلاة في اللّغة هي الدّعاء.

﴿ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾: دعاء النّبيّ ﷺ سيكون سكناً؛ أي اطمئناناً.

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: لم يقل: (غفورٌ رحيمٌ)؛ لأنّ صدر الآية يختلف عن صدر الآية السّابقة الّتي فيها﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، بينما هنا يقول سبحانه وتعالى  للنّبيّ ﷺ: خذ من أموالهم صدقةً لتطهيرهم وتزكيتهم، وادعُ لهم، فالله سبحانه وتعالى  سميعٌ وعليمٌ بما في قلوبهم.

الآية رقم (114) - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ

قال سيّدنا إبراهيم u في آياتٍ أخرى لأبيه -وهو عمّه آزر-:﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ ]مريم[،  بما أنّ ربّ إبراهيم u يحبّه وسيُكرمه، فسيستغفر لأبيه.

﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾: إبراهيم عليه السلام له صفات الخير لدرجة أنّ الله سبحانه وتعالى يقول عنه:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ ]النّحل: من الآية 120[.

-﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾: طَبْعُ سيّدنا إبراهيم عليه السلام أنّه أوّاهٌ حليمٌ، الأوّاه: هو الّذي يُكثر التّأوّه والتّوّجع على نفسه مخافةً من الله سبحانه وتعالى، ويخاف على النّاس إن رأى منهم معصيةً، فيُحدّث نفسه بما سوف يقع عليهم من عذابٍ ممّا يجعله دائماً رحيماً رؤوفاً بهم، فهذه فطرة إبراهيم u، فهو أوّاهٌ، والتّأوّه لونٌ من السّلوى يجعله الله سبحانه وتعالى  في بعض عباده.

وهنا يقف بعض النّاس ويقول: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله اختار العرب فاختار منهم كنانة، أو النّضر بن كنانة، ثمّ اختار منهم قريشاً، ثمّ اختار منهم بني هاشم، ثمّ اختارني من بني هاشم، فأنا خيارٌ من خيارٍ إلى خيارٍ»([1])، لكن يجب أن ننتبه أنّ أبا إبراهيم عدوٌّ لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ]الأنعام[،  وآزر هو عمّه، وليس الأب الحقيقيّ، ولا نجد في نسب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحداً عدوّاً لله سبحانه وتعالى ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لم أزل أُنقَل من أصلاب الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهرات»([2])، فالأب في عُرف القرآن الكريم يُطلق على العمّ وعلى الجدّ، قال سبحانه وتعالى :﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ]يوسف: من الآية 38[،﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ]البقرة: من الآية 133[، فيعقوب عليه السلام أبوه إسحاق عليه السلام، وعمّه إسماعيل عليه السلام، فقال عنه: أبٌ؛ لذلك نجد قوله سبحانه وتعالى :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ]الأنعام[.

﴿حَلِيمٌ﴾: الحليم هو خُلُقٌ يجعله دائماً صابراً صبوراً على الأذى، صفوحاً عن الذّنب.

([1]) جامع الأحاديث للسّيوطيّ: حرف الهمزة، إن المشدّدة مع الهمزة، الحديث رقم (6619).

([2]) سبل الهدى والرّشاد في سيرة خير العباد: الجزء الأوّل، ص 256.