الآية رقم (11) - فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

(فَإِن تَابُوا): إنّ فتح باب التّوبة هو عمليّة إصلاحٍ، فلو أغلق الله تبارك وتعالى باب التّوبة لفُتح باب الجريمة على مصراعيه.

(وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ): وعلامة التّوبة الصّادقة هي إقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة.

(فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ): إن فعلوا ذلك أصبحوا معكم ومن إخوتكم، وكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([1]).

(وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): وهنا ملحظٌ عظيمٌ نفصّل الآيات لقوم يريدون أن يعلموا؛ لأنّ هناك كثيرٌ من النّاس لا يريدون معرفة الحقيقة، فالله سبحانه وتعالى يفصّل الآيات لقومٍ يريدون أن يعلموا، أمّا من أخذ موقفاً مسبقاً ولا يريد أن يعلم ولا يريد أن ينصاع إلى الحقّ فتفصيل الآيات لا يفيده، لوجود رانٍ على قلبه كما قال سبحانه وتعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطفّفين].


([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).

الآية رقم (12) - وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ

(وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ): أي لم ينفّذوا بنود العهد.

(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ): وعابوا في الدّين عيباً كبيراً، وهذا ما فعلته اليهود وقريش أيضاً فهم لا عهد لهم ولا عقد، وطعنوا في أمور المسلمين كلّها ونكثوا كلّ المواعيد والمواثيق الّتي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء الأمر بالقتال.

(فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ): أئمّة الكفر: مجرمو الحرب؛ وهم الرّؤوس الأساسيّة الّتي حرّضت على قتال المسلمين، كأبي جهلٍ والوليد وأميّة بن خلف وغيرهم، وقد خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بدر مع الفئة القليلة المؤمنة ليستردّوا أموالهم ولم يكونوا يريدون القتال، ففرّ أبو سفيان بالقافلة، لكنّ مشركي العرب في ذلك الوقت أصرّوا على أن يرسلوا جيشاً جرّاراً بقيادة أبي جهل عمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فهم أئمّة الكفر وأئمّة الضّلال، وهم مجرمو الحرب الّذين عذّبوا صُهيباً وبلالاً وآذوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فإذاً جاء الإذن بقتالهم فقاتلوهم.

الآية رقم (13) - أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ

(أَلَا): أداة تحضيض.

(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ): قريش نكثت العهود كلّها وأخرجت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة، وكذلك اليهود فعلوا الفعل ذاته، وهم نكثوا أيمانهم وأرادوا إخراج الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة المنوّرة، فهي تنطبق على مشركي العرب من قريش وتنطبق على اليهود.

(وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ): فالإسلام لم يبتدئ أحداً بالحروب والقتال بل كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه في حالة الدّفاع عن النّفس، والاعتداء يكون من الغير، إذاً أوّل مرّةٍ أخرجوه من مكّة وثاني مرّة أرادوا إخراجه من المدينة المنوّرة، لذلك عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يحضّ المؤمنين على القتال ومواجهة المشركين في بدر قال لهم: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ)

، هذا كلّه ليتبيّن للنّاس حقيقة أنّه لم يكن هناك اعتداءٌ من المسلمين في أيّ حالٍ من الأحوال، ولا في أيّ زمنٍ من الأزمان.

(أَتَخْشَوْنَهُمْ): هذا استفهامٌ استنكاريٌّ، أيعقل أن تخافوا منهم؟!

(فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): الإنسان المؤمن بالله سبحانه وتعالى يعلم بأنّ الله سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره وأنّه سبحانه وتعالى على كلّ شيءٍ قدير، وأنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يصل ولا يقطع ولا يخفض ولا يرفع إلّا الله تعالى، وأنّ ما نراه في هذه الدّنيا من مظاهر هي أسباب الله سبحانه وتعالى في خلقه، لذلك فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لابن عبّاس رضي الله عنه في الحديث المعروف: «يا غلام، إنّي أعلّمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلّا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلّا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصّحف»([1]).

وهذا هو معنى الإيمان الحقيقيّ، بأنّه لا يجتمع في قلب عبدٍ مخافتان، إمّا أن تخاف الله عزّ وجلّ وإمّا أن تخاف من خلق الله سبحانه وتعالى وهنا المعيار الإيمانيّ لذلك جاء الاستفهام الاستنكاريّ: (أَتَخْشَوْنَهُمْ).


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، الحديث رقم (2516).

الآية رقم (14) - قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ

(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ): الله سبحانه وتعالى ليس بحاجةٍ أن يُعذّبهم بأيدي المؤمنين، فهو قادرٌ على أن يُنزل عليهم عذاباً من السّماء ويُريح المؤمنين منهم، لكنّ سنّة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يكون هناك أسبابٌ في الدّنيا، لذلك طلب إعداد القوّة لإرهاب الأعداء، ثمّ يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) لكنّه سبحانه وتعالى يطلب الأخذ بالأسباب.

(وَيُخْزِهِمْ): الخزي؛ أي الفضيحة؛ لأنّ بعضهم كأبي جهل والوليد وغيرهم الخزي بالنّسبة لهم كالعذاب بل أشدّ.

(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ): كعبد الله بن مسعود وسيّدنا بلال وغيرهم من المؤمنين الأوائل الّذين عُذّبوا وكانت صدورهم مجروحةً من كثرة العذاب والإيلام فشفى الله سبحانه وتعالى هذه الصّدور من خلال موقعة بدر.


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، الحديث رقم (2516).

الآية رقم (15) - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ): ويُذهب الله سبحانه وتعالى بهذه المعركة العظيمة وهذا الانتصار السّاحق الّذي تحقّق يوم بدر غيظ السّنوات كلّها الّتي مرّت من الحصار والعذاب والاضطهاد والقتل والإيلام الّذي مارسته قريش خلال فترة وجود النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكّة.

(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ): لا يستطيع على هذا الكلام إلّا ربٌّ؛ لأنّ النّاس والبشر عندهم انتقامٌ وردّ العدوان، أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه يفتح باب التّوبة لعباده دائماً؛ لأنّه يريد أن يسدّ منافذ الجريمة في المجتمعات، فمن ارتكب القتل والسّرقة وغيرهما من الآثام وأغلق أمامه باب التّوبة فإنّه سيستمرّ في جرائمه، أمّا دعوة الإصلاح فهي فتح باب التّوبة حتّى يرجع الإنسان عن غيّه وعن جرائمه ويعود صالحاً فيصلح بذلك المجتمع.

الآية رقم (5) - فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

يأخذ الإرهابيّون والتّكفيريّون والمتطرّفون والّذين يريدون أن يهاجموا القرآن الكريم على غير علمٍ ودرايةٍ وعلى غير معرفةٍ المعنى الّذي يريدون عكس ما جاءت به الآية تماماً.

(انسَلَخَ): الانسلاخ: ما يتمّ ببطء.

(الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ): الأشهر الحُرُم هي أربعةٌ: واحدٌ فردٌ وهو رجب، وثلاثةٌ سردٌ: ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم.

(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ): قد يعتقد بعض من يقرأ هذه الآية بغير فهمٍ أنّ علّة القتل هنا الإشراك، وهذا غير صحيحٍ على الإطلاق، فعلّة القتال هي للاعتداء والعدوان وليس للإشراك، فعلينا أن نفهم المراد من خلال جوّ السّورة، فقد بيّن المولى سبحانه وتعالى بأنّه يجب الالتزام بالمواثيق والعقود والعهود، ولكنّ المشركين نقضوا العقود والعهود، فأعطاهم فترة أربعة أشهر وبعد أن ترك لهم هذه المدّة أعلمهم بأن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وبعد ذلك يكون القتال؛ لأنّهم نقضوا العقود والعهود وخانوا وغدروا، ففي هذا الجوّ واجه الإسلام جبروت سادة العرب في أربع مراحل: المرحلة الأولى: كانت اضطهاد من قِبل سادة العرب وقريش للمؤمنين، المرحلة الثّانية: خداعٌ ومكرٌ، المرحلة الثّالثة: هي القتل من قِبلهم، والمرحلة الرّابعة: هي مرحلة نقض العهود، فالأمر بالقتال هنا للدّفاع؛ لأنّهم نقضوا العهود والمواثيق وقتلوا بني خزاعة غدراً، فلا بدّ من ردّ العدوان، فلا يحقّ لأحدٍ أن يبتر الآية من سياقها ومن أسباب نزولها ومن معانيها ومن جوّها.

(وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ): أي تقيّدون حركتهم.

(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ): أي ارصدوا كلّ حركةٍ وكلّ سكنةٍ وكلّ أمرٍ يتعلّق بهم؛ لأنّهم أعداء، وهم الّذين اعتدوا على المسلمين.

(فَإِن تَابُوا): فتح لهم باب التّوبة.

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ): فإن تاب هؤلاء الّذين أخذتموهم والّذين حصرتموهم وعادوا إلى رشدهم -وعلامة التّوبة إقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة- فخلّوا سبيلهم، فلا أحقاد في الدّين.

الآية رقم (16) - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا): أم هنا إضرابيّة؛ أي ما كان الله سبحانه وتعالى أن يترككم من غير اختبار.

(وَلَمَّا يَعْلَمِ): هذا علم الحجّة، فالله سبحانه وتعالى يعرف ولديه علمٌ كاشفٌ، لكنّ الله سبحانه وتعالى لا يحاسب النّاس على علمه الأزليّ الكاشف، وإنّما يُحاسبهم على أعمالهم، فعندما يقول سبحانه وتعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران]، هذا علم الحُجّة على النّاس يوم القيامة.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ): وليجة على وزن فعيلة؛ أي بطانة سوءٍ، فقد كان هناك أقرباء وصلات رحم بين المشركين في مكّة المكّرّمة وبين المسلمين الّذين ذهبوا إلى المدينة المنوّرة، إضافةً إلى حركات النّفاق الّتي بدأت تظهر في المجتمع بعد أن دخل في الإسلام عددٌ من القبائل العربيّة وقويت شوكة الإسلام، لذلك لا بدّ من أن يكون هناك اختبارٌ إيمانيٌّ، فالإنسان يتعرّض للابتلاءات وهذه سنّة الله سبحانه وتعالى في خلقه، وهنا أراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لهم: إيّاكم أن تعتقدوا أنّكم ستتركون قبل أن يجعل الله تعالى حُجّةً عليكم ببيان فحوى إيمانكم.

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): لأنّه لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السّماء، فهو يعلم السّرّ وأخفى.

الآية رقم (6) - وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ

(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ): أي طلب منك الحماية والجوار وهو مشركٌ.

(فَأَجِرْهُ): أعطه الأمان.

(حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ): عندما تعطيه الأمان ويكون عندك لا بدّ أن تسمعه كلام الله سبحانه وتعالى.

(ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ): فإن رفض فعليك ألّا تقتله بل أوصله إلى المكان الّذي يؤدّي به إلى الأمان هذا هو دين الأمان والسّلام والأمن والاطمئنان، وليس دين القتل والإرهاب.

(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ): فهم لا يعلمون، فلا بدّ أن تعلّمهم فالعلم هو الطّريق الأساسيّ بالنّسبة للدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالإسلام لم ينتشر بالسّيف ولا بالجزية، وإنّما انتشر بالقدوة، أي بالقيم والأعمال الصّالحة، وقد قال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطَّؤون أكنافاً الّذين يألفون ويؤلفون، وليس منّا من لا يألف ولا يؤلف»([1])، هنا يتبيّن لنا من خلال هذه الآيات أنّ رصد الحركة والعقوبة تختلف باختلاف مواقع المشركين في تلك البيئة الّتي نزلت فيها هذه الآيات، فلا يأتينّ إنسانٌ ويأخذ هذه الآية ويبترها من مكانها وسياقها ويقول: واقتلوا المشركين كافّة حتّى يصلّوا، فهذا تحريفٌ للدّين.


(([1] المعجم الأوسط: ج4، من اسمه عبد الله، الحديث رقم (4422).

الآية رقم (17) - مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ

(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ): ما ينبغي للمشركين.

(أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ): إمّا المراد عمارة الإنسان؛ أي يكون هو من يجلس داخلها ويعبد الأوثان، أو المراد بالعمارة الاهتمام بشؤون البيت الحرام.

(شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ): المسجد هو مكان تأديّة العبادة لله سبحانه وتعالى، والبيت الحرام هو أوّل بيتٍ وضع للنّاس، كما قال سبحانه وتعالى:  (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)  [آل عمران]، فما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله جلّ جلاله، فهم لا يؤمنون به سبحانه وتعالى فكيف سيعمرون مساجده جلّ وعلا بشكلٍ عامّ، والمسجد الحرام بشكلٍ خاصّ؟

(أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): أي مهما عملوا من سقاية الحاجّ ورعاية الأمور المتعلّقة بالبيت الحرام فهذه الأعمال كلّها ستذهب هباءً، فقد حبطت أعمالهم وأصبحت لا قيمة لها.

الآية رقم (72) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

يعدّد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أصناف المؤمنين:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا): المهاجرون الّذين تركوا ديارهم وأموالهم في مكّة وجاؤوا إلى المدينة.

(وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): وخرجوا يوم بدر وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك.

(وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا): الأنصار أهل المدينة الّذين آووهم ونصروهم.

(أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ): هذا ما كان فعلاً، فكلّ إنسانٍ من الأنصار جعل من بيته وسكنه نصيباً لأخيه من المهاجرين، فكان كلٌّ منهم أحقّ بالآخر من كلّ أحدٍ؛ ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدّماً على القرابة، حتّى نسخ الله سبحانه وتعالى ذلك بالمواريث.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا): الّذين آمنوا ولكن لم يهاجروا بل بقوا من أجل أموالهم.

(مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ): لن تستطيعوا أن توالوهم حتّى يهاجروا ويكونوا في المدينة.

(وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): إن استنصروكم وأوذوا وعُذّبوا واضطهدوا في دينهم فعليكم أن تقوموا بنصرهم.

(إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ): إلّا إن كان هناك ميثاقٌ بينكم وبين من استنصروا عليهم؛ لأنّ الإسلام يؤمن بالمواثيق والعهود، فالإسلام ليس همجيّاً، وليس دين قتلٍ وإرهابٍ، فحتّى إن استنصروكم في الدّين فعليكم أن تنصروهم إلّا على قومٍ بينكم وبينهم معاهدات ومواثيق.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): الله سبحانه وتعالى بصيرٌ بكلّ ما يجري في الكون، وهو مطّلعٌ على خائنة الأعين وما تخفي الصّدور.

الآية رقم (73) - وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ): وهذا ما نراه من اليهود ومشركي العرب في ذلك الوقت، كيف أنّهم تولّوا بعضهم بعضاً وناصروا بعضهم بعضاً في مواجهة الرّسول الكريم، كما نرى إسرائيل والولايات المتحدّة الأمريكيّة والغرب كيف يتناصرون علينا جميعاً، وهذا مِصداقٌ لقول الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ): إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وتكونوا يداً واحدةً، بهذه اللُّحمة الإيمانيّة الّتي بيّنها الله سبحانه وتعالى ، فإنّه ستكون هناك فتنةٌ وفساد كبيرٌ؛ لأنّ هؤلاء المعتدين والمجرمين والقتلة من اليهود ومشركي العرب سيدخلون بينكم، وتُثبت أحداث التّاريخ صحّة القول القرآنيّ ففي كلّ يومٍ نجد إصبعاً لليهود ولأعداء الإسلام في الجرائم الّتي نراها ماثلةً أمام أعيننا، وفي كلّ ما يجري.

الآية رقم (74) - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

لـمّا ذكر سبحانه وتعالى حكم المؤمنين في الدّنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، وأنّه سبحانه وتعالى سيجازيهم بالمغفرة والصّفح عن ذنوبهم، وبالرّزق الكريم وهو الحسن الكثير الطّيّب.

(لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): لهم مغفرةٌ من الله سبحانه وتعالى، والرّزق يأتي للإنسان ولا يأتيه الإنسان، وقد يكون بالاستقامة أو بالأخلاق أو بالعلم أو قد يكون بأيّ أمرٍ من الأمور.

الآية رقم (75) - وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ): لأنّه سيأتي أناسٌ لم يكونوا قد آمنوا.

(وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ): هذا إخبارٌ عن المستقبل.

(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ): مثّل الله سبحانه وتعالى الرّحم الإيمانيّة بالرّحم الحقيقيّة، وقد أولى الإسلام صلة الأرحام عنايةً خاصّةً، قال :: «إنّ للرّحم لساناً ذلقاً يقول يوم القيامة: ربِّ صِلْ مَن وصلني، واقطعْ مَن قطعني»([1])، أمّا الرّحم الإيمانيّة فقد قال عنها سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: من الآية 10]، فيجب أن تكون هناك هذه الأخوّة وهذه المحبّة الّتي تؤدّي إلى التّعاضد والتّكاتف والتّناصر كما قال :: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([2]).


 ([1]) شعب الإيمان: السّادس والخمسون من شعب الإيمان وهو باب في صلة الأرحام، الحديث رقم (7936).
([2]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).

تفسير سورة التوبة

الآية رقم (66) - الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

التّرخيص بالحكم بيّنه الله سبحانه وتعالى بأنّ هناك طاقة قوّةٍ للمؤمنين في معركة بدر؛ لأنّها المعركة الأولى والفاصلة، لذلك واحدٌ يُقابل عشرة، بينما في المعارك الأخرى وفي الحالات العاديّة بعد مرور الزّمن سيكون واحدٌ مقابل اثنين، وهذا هو التّخفيف.

(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): علّة الغلبة هي الصّبر، والصّبر نصف الإيمان، وقال سبحانه وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ) [البقرة: من الآية 45]، وهو أساسٌ في الانتصار، والإنسان إذا أدخل نفسه في معيّة الله سبحانه وتعالى فلن يُغلب؛ لأنّ القوّة الّتي لا تُقهر تكون إلى جانبه، فالله سبحانه وتعالى يكون ناصره ومعينه ومتولّيه ووكيله.

الآية رقم (1) - بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ

لسورة التّوبة أسماءٌ متعدّدةٌ، وهي من أواخر السّور نزولاً، وهي الوحيدة من بين مئةٍ وأربعَ عشرةَ سورةً من سور القرآن الكريم الّتي لا تبدأ بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم)، ومن المعلوم أنّ بسم الله الرّحمن الرّحيم هي أوّل آيةٍ في سورة (الفاتحة)، وسور القرآن الكريم كلّها لا بدّ أن تبدأها بالبسملة؛ وذلك لأنّ النّبيّ : قال: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم فهو أقطع»([1]) أي ناقص، هذا أمرٌ، أمّا الأمر الآخر فأنت تقرأ القرآن الكريم بسرّ الله سبحانه وتعالى فيه، تقرؤه باسم الله جلّ وعلا، فعندما نزل جبريل عليه السلام فأوّل كلمةٍ قالها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)  ]العلق[، إذاً (بسم الله الرّحمن الرّحيم) موجودةٌ في سور القرآن الكريم كلّها باستثناء هذه السّورة، والسّؤال الآن: لماذا لم تبدأ سورة (التّوبة) بـ (بسم الله الرّحمن الرّحيم)؟ قال العلماء: إنّ سورة التّوبة هي براءةٌ من عهود المشركين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى تبرّأ هو والرّسول من عقود المشركين وعهودهم الّتي نكثوها؛ لذلك بدأت مباشرةً ببراءةٍ بلا بسملة، فالله سبحانه وتعالى منع عنهم هذا الأمان، وبسم الله الرّحمن الرّحيم هي أمانٌ، والله أعلم بعدم ورود بسم الله الرّحمن الرّحيم.

الآية رقم (67) - مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قلنا: بأنّ المعارك الّتي تمّت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين إنّما كانت لردّ الاعتداء وليست من أجل نشر الدّين، ولم يؤذن للمؤمنين أن يقاتلوا إلّا عندما اُعتدي عليهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)  [الحجّ: من الآية 39]، وهذا القتال هو دفاعٌ عن النّفس والأرض والعرض والوطن، وهو أمرٌ مشروعٌ في قوانين السّماء والأرض كلّها، وبما أنّها الموقعة الأولى والمرّة الأولى الّتي يحدث فيها قتالٌ، فسيكون هناك أسرى، وقد اختُلف في موضوعهم، لذلك بيّن الله سبحانه وتعالى لهم الحكم بعد الفعل:

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ): لا بدّ من التّمكين في الأرض أوّلاً، ثمّ تكون هناك مبادلةٌ للأسرى، ليصبح للمؤمنين قوّةٌ توازي قوّة المشركين حتّى يكون الأمر بالفعل وردّ الفعل والمساواة.

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ): لا تبحثوا عن الأمر الدّنيويّ وعن عَرَضٍ زائل في الدّنيا، فالله جلّ وعلا يريد منكم أن تبحثوا دائماً عن الآخرة.

الآية رقم (2) - فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ

(فَسِيحُوا): ساح: أي سار ببطء. كلمة (سيحوا) دليلٌ على إعطائهم راحتهم، ولم يقل: فرّوا واهربوا.

(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ): أعطاهم أماناً أربعة أشهر.

بعض العلماء قال: المراد بـ (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) الأشهر الحُرُم، لكن أغلب العلماء قالوا: هذه الأشهر الأربعة حُدّدت عند نزول سورة (براءة) يوم قام سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه بتلاوتها على النّاس جميعاً حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، فخاطب بها المؤمنين أوّلاً آمراً بقطع المواثيق والعهود مع المشركين، بعد ذلك عليكم أن تقولوا للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر؛ أي خذوا راحتكم في الأرض أربعة أشهر.

(وَاعْلَمُوا): أي ضعوا في أذهانكم.

(أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ): لن تعجزوا الله سبحانه وتعالى هرباً، ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فهو القويّ والمتين والنّاصر والمعين.

(وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ): الخزي هو الإذلال والفضيحة، وهذا ما تمّ فعلاً، فكان فتح مكّة وكانت خيبر وغيرها من المواقع، فكان كلّ ما قاله الله سبحانه وتعالى عنهم وأخزاهم جبّ جلاله.

الآية رقم (68) - لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

أي أنّ الله سبحانه وتعالى كتب أنّه لا يُحاسب إلّا إذا بلّغ ووضّح وأمر ونهى وبعد ذلك يُحاسب، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)  [الإسراء: من الآية 15].

الآية رقم (3) - وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ

(وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ): الأذان هو إعلامٌ، إذاً هو إذاعة هذا الأمر؛ أي أنّ الأمر ليس سريّاً، بل للنّاس كلّهم، وهذا ما فعله سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وهذا من عظمة ورحمة الإسلام واحترامه للإنسان.

(فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ): يفتح الإسلام دائماً باب التّوبة، وهو دعوةٌ للإصلاح وفتحٌ لباب الخير والرّحمة للنّاس، مع أنّ المواثيق والعهود قد نُقضت، فالله سبحانه وتعالى أتبع البراءة من عهودهم بفتح باب التّوبة.

(وَإِن تَوَلَّيْتُمْ): أعرضتم عن التّوبة وما رضيتم بذلك.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ): لم يقل: (وأنذر الّذين كفروا بعذابٍ أليمٍ)، فهم لديهم المعايير مقلوبة، لذلك قال: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فهم لا ينظرون بالمنظار والمعيار الحقيقيّ، لذلك استخدم كلمة (وَبَشِّرِ) بمعنى: (وأنذر).