الآية رقم (164) - قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾: أبغي: أريد، يناقشهم هل أبغي ربّاً غير الله، حجراً أو صنماً أو…

﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾: الله سبحانه وتعالى ربّ كلّ شيءٍ؛ لأنّه هو المعطي وهو المنعم.

﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾: انظر إلى عظمة القرآن الكريم، فالله تبارك وتعالى لم يقل: (ولا تكسب كلّ نفسٍ إلّا لها)، بل قال: ﴿إِلاَّ عَلَيْهَا﴾؛ لأنّك تعتقد أنّ الكسب إن لم يكن لله سبحانه وتعالى فهو لك، بل هو عليك؛ لأنّك ستحاسب عليه أين أنفقته؟، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزول قدما عبدٍ حتّى يُسأل عن أربعٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»([1]).

﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾: الوزر: هو الثّقل بمشقّة، كلّ إنسانٍ يحمل وزره، ولا يحمل وزر غيره إلّا إذا أضلّ غيره.

﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾: قد كان الخصام والجدل والمحاكاة مع اليهود، فبيّن سبحانه وتعالى أنّ العودة إليه جلَّ جلاله، وهو الّذي ينبّئهم بما كانوا يختلفون فيه مع الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومع المسلمين، وهذا حال كلّ النّاس.


([1]) كنز العمّال: الجزء 14، ص371، الحديث رقم (38982).

الآية رقم (165) - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ﴾: وكلمة: ﴿خَلاَئِفَ﴾ لها معنيان:

1- أي الإنسان إمّا هو خليفةٌ لله سبحانه وتعالى في الأرض؛ لأنّ الله جلَّ جلاله استأمنه على خلقه، واستخلفه في هذه الحياة الدّنيا.

2- أو يأتي بمعنى آخر: خلائف الأرض: أي واحدٌ يخلف الآخر، جيلٌ يخلف جيلاً، الأبناء يخلفون الآباء.. هذه المدينة إن كانت لكم الآن، فلن تكون لكم بعد مئة عام، ستصبح لغيركم.

﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾: مَن المرفوع ومن المرفوع عليه؟ الجواب: كلّ إنسانٍ هو مجموع المواهب الّتي تكون فيه، قد تكون أنت مرفوعاً في جانبٍ ويكون غيرك مرفوعاً في جانبٍ آخر، أنت أعطاك الله سبحانه وتعالى مثلاً طاقةً في الذّكاء، وأعطى غيرك طاقةً في العضلات، وأعطى فلاناً طاقةً في الخبرة، رفع الله سبحانه وتعالى بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ، هذا مرفوعٌ وهذا مرفوعٌ عليه.

﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾: ليمتحنكم وليختبركم فيما آتاكم.

الآية رقم (155) - وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

﴿وَهَذَا﴾: الحديث هنا عن القرآن الكريم، ﴿وَهَذَا﴾: إشارةٌ لشيءٍ تقدّم، وعندما تأتي: ﴿وَهَذَا﴾ إشارةٌ لمتعيَّنٍ لا ينصرف الذّهن إلّا إليه، ولا ينصرف الذّهن إلّا إلى القرآن الكريم لعظمة كتاب الله جلَّ جلاله.

﴿كِتَابٌ﴾: لأنّه مكتوبٌ في السّطور محفوظٌ في الصّدور، هذا الكتاب كُتب بعد أن حُفظ واسُتخرج من صدور الحافظين.

﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: وهو الإنزال من الله سبحانه وتعالى عن طريق جبريل الأمين عليه السَّلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدّخان].

﴿مُبَارَكٌ﴾: أكثر صفةٍ وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى هي ﴿مُبَارَكٌ﴾، ومباركٌ، أي: هناك حجمٌ، هذا الحجم لا يتناسب مع العطاء، لا تنقضي عجائبه، هذا يقرأ القرآن الكريم فيأخذ منه، وهذا يقرأ القرآن الكريم فيأخذ منه، وهذا يقرأ القرآن الكريم منذ ألف عامٍ، فيأخذ منه ويصلح له، وهذا يقرأ القرآن بعد ألف عامٍ وحتّى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها فيأخذ منه.. فإذاً عطاؤه متجدّدٌ، وإذا مثّلنا الأمر بالطّعام الّذي يكفي اثنين، فأكل منه عشرةٌ فنقول: هذا الطّعام فيه بركةٌ، أي أنّ حجمه قليلٌ ولكنّ عطاءه كبيرٌ، مباركٌ، عطاء القرآن يتناسب مع قدرة العقول البشريّة في كلّ زمانٍ، فأنت في كلّ زمنٍ تأخذ من القرآن الكريم ما يناسب عقلك البشريّ، فعندما تقرأ وأنت في القرن الواحد والعشرين أو الثّاني والعشرين أو الثّالث والعشرين أو الرّابع والعشرين فإنّك ستجد بأنّ كلّ كلمةٍ من كتاب الله سبحانه وتعالى تتناسب مع استطاعة وقدرة العقل بما استوعب من علومٍ واكتشافاتٍ حديثة، وهي لا تناقض القرآن الكريم؛ لأنّه كلام الله سبحانه وتعالى المنزّل على رسوله محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وعجائبه لا تنقضي كما قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الّذي رواه سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنها ستكون فتنة»، قال: قلت: فما المخرج؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى -أو قال: العلم- من غيره أضلّه، هو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، وهو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلقُ عن كثرة الرّدّ، ولا تنقضي عجائبه»([1]).

الآية رقم (156) - أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ

الخطاب الآن للعرب وللمشركين الّذين كانوا في المدينة ولقريش ولكلّ النّاس الّذين ناهضوا الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من غير اليهود.

﴿أَن تَقُولُواْ﴾: لمشركي مكّة ومشركي المدينة.

﴿إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا﴾: من أجل ألّا تقولوا: أنزل على اليهود التّوراة، وعلى النّصارى الإنجيل، ونحن لم ينزل علينا شيءٌ.

﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾: لأننّا أمّيّون لا نعرف أيّ شيءٍ.

الآية رقم (157) - أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ

﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾: لو أنزل علينا التّوراة لكنّا أهدى، ولأخذنا أكثر ممّا أخذ اليهود.

﴿فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾: البيّنة هي القرآن الكريم.

﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾: الهدى: هو الطّريق الموصل إلى الغاية، إذاً فيه هدىً ورحمةٌ لكم.

﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: الإنسان عندما يظلم نفسه يكون أظلم ممّن يظلم غيره.

﴿وَصَدَفَ عَنْهَا﴾: أي انصرف وأعرض عنها.

﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا﴾: هم انصرفوا عنها وصرفوا غيرهم عن آيات الله سبحانه وتعالى.

﴿سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ﴾: أي بما كانوا يعرضون ويصرفون أنفسهم وغيرهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى وعن كتابه وعمّا جاء به رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم.

الآية رقم (158) - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ

ملائكة الموت عندما تأتي وتبسط أيديها تقول لهم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: من الآية 93].

﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾: الإتيان من الرّبّ هل هو كالإتيان من البشر؟ الجواب: الله سبحانه وتعالى كما أخبر جلَّ جلاله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، فأنت تبصر والله سبحانه وتعالى بصيرٌ، فهل أنت ببصرك كما هي صفات الله سبحانه وتعالى؟ الإتيان من الرّبّ ليس هو انخلاعٌ من مكانٍ إلى مكانٍ، فهذا يكون للإنسان، فعندما يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ينزل الله إلى السّماء الدّنيا كلّ ليلةٍ حين يمضي ثلث اللّيل الأوّل فيقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الّذي يسألني فأعطيه، من ذا الّذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتّى يضيء الفجر»([1])، فإنّه جلَّ جلاله ينزل نزولاً يليق بجلاله وبكمال صفاته، وليس هو نزولٌ من مكانٍ إلى مكانٍ، وليس هو إتيان انخلاعٍ من مكانٍ إلى مكانٍ، الإتيان من الرّبّ بالنّسبة لنا غير معلومٍ، لكنّ المعلوم هو أنّه ليس كمثله شيءٌ.

الآية رقم (159) - إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾: يفرّقون الدّين؛ لأنّهم يناقضون منهج السّماء، فالدّين أمر بالوحدة، وأمر أن يكون النّاس في صفٍّ واحدٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: من الآية 103].

﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾: كلّ دعوةٍ دينيّةٍ تفرّق النّاس فهي ليست من الدّين؛ لأنّها تخالف وتناقض منهج السّماء، فإنّ الّذين فرّقوا دينهم لست منهم يا محمّد في شيءٍ؛ لأنّ كلّ دعوات التّفرقة والتّمزيق والطّائفيّة هي دعواتٌ لا علاقة لها بالدّين؛ لأنّ الدّين يدعو إلى الوحدة.

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾: ينبّئهم يوم القيامة بما فعلوا في هذه الحياة الدّنيا.

الآية رقم (160) - مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ

﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ﴾: التّاء في كلمة الحسنة ليست تاء تأنيثٍ، إنّما هي تاء المبالغة، الحسنة هي الخير الّذي يورث الثّواب.

﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾: عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يروي عن ربّه عزَّ وجلّ قال: «إنّ الله كتب الحسنات والسّيئات ثمّ بيّن ذلك، فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو همّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، ومن همّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيّئةً واحدةً»([1])، ما هذه العظمة؟ وما هذه الرّحمة من الله سبحانه وتعالى؟ الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ مضاعفةٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة].

﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: هذه قمّة العدل مع الرّحمة.


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب من همّ بحسنةٍ أو بسيّئةٍ، الحديث رقم (6126).

الآية رقم (161) - قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

﴿قُلْ﴾: قل يا محمّد.

﴿إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي﴾: أي دلّني ربّي.

﴿إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: هو صراط الله سبحانه وتعالى، الصّراط الموصل إلى الغاية، والصّراط هو أقصر مسافةٍ بين نقطتين، بين الدّنيا والآخرة، بين الدّنيا والجنّة، وهو طريق الأنبياء عليهم السَّلام.

﴿دِينًا قِيَمًا﴾: قيماً تقوم عليه الحياة بالقيم، جاء غذاءً للرّوح، فالدّين كلّه قيمٌ وأخلاقٌ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»([1])، الصّدق، الأمانة، الإيثار، المحبّة، التّعاون، العطاء، الغيرة.. كلّ السّيّئات الأخلاقيّة طرحها جانباً.

﴿مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾: حنيفاً: أي مائلاً عن الشّرك، والحنف هو الميلان؛ لأنّ اليهود كانوا يدّعون بأنّهم يتّبعون إبراهيم عليه السَّلام، وهو جدّ الرّسول وهو أبو الأنبياء عليهم السَّلام.


([1]) سنن البيهقيّ الكبرى: كتاب الشّهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها التي من كان متخلّقاً بها كان من أهل المروءة، الحديث رقم (20571).

الآية رقم (162) - قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

﴿قُلْ﴾: قل يا محمّد.

﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي﴾: الصّلاة هي عمدة الأركان؛ لأنّها لا تسقط عن الإنسان في حالٍ من الأحوال، فالحجّ من استطاع إليه سبيلاً، والصّيام كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: من الآية 184]، والزّكاة تحتاج لنصابٍ، فإن لم يبلغ المال النّصاب فلا زكاة فيه، وفي الصّلاة يوجد حجٌّ بالتّوجّه إلى الكعبة، وفيها صيامٌ؛ لأنّك صائمٌ عن الطّعام والشّراب أثناء الصّلاة، وفيها زكاةٌ؛ لأنّها اقتطاع جزءٍ من الوقت، والوقت هو أصل العمل، والعمل هو الّذي يعطي ثمرة المال والزّكاة.

﴿وَنُسُكِي﴾: كلّ عبادةٍ اسمها نُسك، ولكن اشتهرت بها مناسك الحجّ، مأخوذة من النّسيكة، وهي السّبيكة من الفضّة الّتي تصهر حتّى تكون صافيةً، فالنّسك أي العبادات يجب أن تكون خالصةً لله سبحانه وتعالى، أنت تفعل خيراً لكي يسجّله الله سبحانه وتعالى لك وليس من أجل أن يُقال عنك: محسنٌ كريمٌ، تصلّي ليس من أجل أن يُقال عنك: مصلٍّ، وتزكّي ليس من أجل أن يمدحك النّاس، وتحجّ ليس ليُقال عنك: الحاجّ فلان، يجب أن تكون صافيةً كالسّبيكة. إذاً الصّلاة والنّسك والعبادات بيدك.

﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾: هذه بيد الله سبحانه وتعالى.

﴿لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: الحياة يجب أن تكون لله سبحانه وتعالى حتّى يكون الموت في طاعة الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (163) - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ

﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾: أُمرت بأن تكون العبادات والصّلاة خالصةً صافيةً لا شِرك فيها ولا رياء، لله سبحانه وتعالى لا شريك له.

﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾: أُنزِل عليّ الإسلام، فأنا أوّل من آمن بالإسلام، وكلّ الأنبياء أُخذ منهم العهد بأن يؤمنوا بالنّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو أوّل المسلمين.

الآية رقم (142) - وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

 ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ﴾: الأنعام: الإبل والبقر والضّأن والماعز.

﴿حمُولَةً﴾: أي الكبير الّذي يُحمل عليه، وتنقل بضائعكم من مكانٍ إلى مكانٍ.

﴿وَفَرْشًا﴾: وهو الصّغير الّذي لا يُحمل عليه، تتّخذون فرشاً من أوبارها ومن أصوافها، يصنعون منه السّجاد وغيره.

﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾: لأنّ الأصل فيه أكل اللّحم وشرب اللّبن وما يتعلّق بذلك.

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: بيّن سبحانه وتعالى بأن الشّيطان عدوٌّ لنا، فقال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر]، الشّيطان قال منذ اللّحظة الأولى كما أخبرنا الله عزَّ وجلّ: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص]، فهو أقسم بعزة الله سبحانه وتعالى، باستغناء الله جلَّ جلاله عن عبادة خلقه، بأن مهمّته مع بني آدم العداوة، وطالما أنّه العدوّ فلا تتّبعوا خطواته؛ لأنّ الخطوة تجرّ الخطوة، وهذه الخطوات تؤدّي إلى الهلاك وإلى نار جهنّم.

الآية رقم (153) - وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾: أي قل لهم يا محمّد: إنّ هذا صراطي، والصّراط: هو السّبيل والطّريق الموصل إلى الغايات.

﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾: كان الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم جالساً مع أصحابه فخطّ خطّاً مستقيماً، وخطّ على جانبيه عدّة خطوط، ثمّ قرأ الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾، أي عن سبيل محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا هو أمر الله سبحانه وتعالى.

﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾: هنا قال: ﴿تَتَّقُونَ﴾؛ لأنّ سبيل محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو سبيل التّقوى وهو سبيل جوامع الخير.

قال كعب الأحبار: هذه هي الوصايا العشر الّتي جاءت لسيّدنا موسى عليه السَّلام في التّوراة، وهذه الأمور الأخلاقيّة القيميّة المعنويّة الّتي تعطي نور القيم للإنسانيّة جميعاً إنّما جاءت في كلّ الأديان، ولم تُنسخ في أيّ دينٍ، ففي كلّ الأديان هي محرّمةٌ على النّاس جميعاً.

الآية رقم (143) - ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾: ذكر الضّأن اسمه كبش، والأنثى اسمها نعجة.

﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾: ذكر الماعز اسمه تَيس، والأنثى اسمها عنزة.

أمّا البقرة فتطلق على الذّكر وعلى الأنثى، زوجان من كلٍّ منهما ذكرٌ وأنثى، وعندما يتحدّثون عن التّحريم يتساءلون: ماذا حرّم؟ حرّم الذّكرين أم حرّم الأنثيين؟

﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ﴾: أم حرّم ما يوجد داخل أرحام الأنثيين؟

﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: أعطونا عن علمٍ دليل التّحريم الّذي تقولونه وتدجّلون به على النّاس.

الآية رقم (154) - ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ

جاء هنا بهذه الآيات بما يتعلّق بسيّدنا موسى عليه السَّلام؛ لأنّ الجدل وكلّ ما يتعلّق بالتّحليل والتّحريم كان يقوده اليهود في المدينة ضدّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعندما جاء النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بهذه الوصايا العشر دحض بها حجج اليهود وأحبارهم الّذين كانوا يناقشونه، لذلك قال كعب الأحبار عندما نزلت هذه الآيات: إنّها والله هي الوصايا العشر الّتي كانت في التّوراة.

﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: نحن نعلم بأنّ ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطفٍ تأتي للتّراخي الزّمنيّ، فهل تعني هنا أنّ الله سبحانه وتعالى آتى موسى عليه السَّلام الكتاب بعد أن آتى محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الأوامر؟ الجواب: بالتّأكيد لا، فهذا عدم فهمٍ باللّغة العربيّة، فكما أنّ: ﴿ثُمَّ﴾  تأتي حرف عطفٍ لترتيب الأفعال والأحداث، فكذلك تأتي أيضاً لترتيب الأخبار، فتقول مثلاً: أنا فعلت معك كذا وكذا، ثمّ قد كنت فعلت مع أبيك كذا وكذا، وثمّ قد كنت فعلت مع جدّك كذا وكذا.. فإذاً تتصاعد الأخبار، إذاً هنا هي ليست لترتيب الأفعال والأحداث، وإنّما لتصاعد الأخبار، والدّليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف]، هو أوّلاً قال للملائكة: اسجدوا لآدم، وقبلها كان قد صوّرنا، وقبلها كان قد خلقنا، فإذاً هذا تصاعد الخبر، فالمعنى: عندما قلنا للنّبيّ الوصايا العشر، ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ وسابقاً آتينا موسى عليه السَّلام الكتاب.

الآية رقم (144) - وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

يبيّن المولى سبحانه وتعالى ذلك بالتّفصيل، هل حرّم الأنثيين أو حرّم الذّكرين من كلّ الأنعام؟ ثمانية أزواجٍ؛ من الضّأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.

﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا﴾: وصية الله سبحانه وتعالى هي أمره الدّائم.

﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: هي كلّها عمليّة ضلالٍ وإضلالٍ، فلا أحد أظلم ممّن يفتري على الله سبحانه وتعالى الكذب ويحرّم ما حلّله سبحانه وتعالى ويحلّل ما حرّمه عزَّ وجلّ، إن كان فيما يتعلّق بالأنعام، أو بالإنسان، أو بالزّرع، أو ما يتعلّق بالمعاملات، أو العبادات، وكلّ ذلك يبيّنه المولى سبحانه وتعالى بشكلٍ كاملٍ.

﴿لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: السّبب ليضلّ النّاس وهو لا يعلم ما هو الحلال وما هو الحرام، فهم يحرِّمون بغير علمٍ، ولم يأتوا ببيّنةٍ ولا دليلٍ، أم كنتم شهداء عندما حرّم الله سبحانه وتعالى هذه وأحلّ هذه؟!.

الآية رقم (145) - قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿قُل﴾: فالجواب على كلّ هذا الكلام من رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم لهؤلاء اليهود والمشركين في مكّة الّذين يعبدون الأصنام والأوثان ويتّخذونها من أجل مصالحهم ويأخذون اللّحوم والأضاحي افتراءً، ويدّعون بأنّ الله سبحانه وتعالى حرّم هذا وحلّل هذا، ويقسّمون هذا لشركائهم وهذا لغيرهم، وكلّه كذبٌ وافتراءٌ، فيقول المولى سبحانه وتعالى: قل يا محمّد: ﴿لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ ، فيما أوحي إليّ من القرآن الكريم.

﴿مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾: على آكلٍ يأكله.

﴿إِلَّا أَن يَكُونَ﴾: أي الطّعام.

﴿مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾: ومرّ بنا في سورة (المائدة) قوله سبحانه وتعالى: ﴿حرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ﴾ [المائدة: من الآية 3]، في القرآن الكريم يوجد المجمل والمفصَّل، وهنا في سورة (الأنعام) أجمَلَ القرآن الكريم؛ لأنّه جمع ضمن دائرةٍ واحدةٍ الميتة والمنخنقة والموقوذة والنّطيحة وما أكل السّبع، فكلّها تدخل ضمن إطار كلمة الميتة.

الآية رقم (146) - وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾: هنا تحريم تأديبٍ، وليس تحريم ضررٍ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يؤدّبهم، فحرّم على اليهود ما هو حلالٌ لغيرهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النّساء]؛ لأنّهم ظلموا حُرِّمت عليهم هذه الطّيبات.

﴿كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾: كلّ شيءٍ ليس بمشقوق الأصابع، فالبعير لا ينفرج خفّه، وكذلك خفّ النّعامة، وقائمة الوز، فاليهود لا تأكل الإبل ولا النّعام ولا الوز، ولا كلّ شيءٍ لم تنفرج قائمته.

﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾: إلّا ما علق على الظّهر من الشّحوم.

﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾: يعني الأمعاء.

﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾: إلّا ما اختلط من الشّحوم بالعظام فقد أحللناه لهم، كشحم الألية اختلط بالعصعص، فهو حلالٌ، وكلّ شيءٍ في القوائم والجنب والرّأس والعين وما اختلط بعظمٍ، فهو حلالٌ.

﴿ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾: ذلك جزيناهم ببغيهم واعتدائهم، فهذا التّضييق إنّما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاةً لهم على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا، فهو تحريم تأديبٍ، فالإبل والنّعام والبطّ والإوز حُرّم تأديباً على اليهود حصراً، وأحلّ لهم ما فوق الظّهر من الشّحم -كما قلنا- والأمعاء وما اختلط بعظم.

الآية رقم (136) - وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ

﴿ذَرَأَ﴾: أي خلق وبثّ ونشر، فمن الخروج عن منهج الله سبحانه وتعالى أنّهم جعلوا له جلَّ جلاله نصيباً ممّا ذرأ من الحرث والأنعام وهو مَن خلقهم. والحرث: هو الزّرع، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة]، جعلوا لله سبحانه وتعالى شركاء في خلقه فيما خلق وبثّ ونشر من الحرث والأنعام؛ الإبل والبقر والضّأن والماعز.

﴿فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا﴾: فقد كانوا يأخذون نصيباً من الأنعام ونصيباً من الزّروع ويعطونها للسّدنة ولمن يقومون بخدمة الأصنام.

الآية رقم (147) - فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ

﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾: يا محمّد.

﴿فَقُل رَّبُّكُمْ﴾: هل قال: (ذو عذابٍ شديدٍ؟)، الجواب: لا، بل قال: ﴿ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾، لكن إيّاكم أن تطمعوا بالرّحمة الدّائمة، إنّها رحمة تأجيلٍ.

﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾: سيأتي بأسه، ولن يُردّ عن القوم المجرمين.