الآية رقم (80) - وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ

﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ﴾: حاجّه: أي حاججه، والحِجاج: هو الجدل المبطل لرأي الآخر.

﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾: بعد أن تحدّث عن الكواكب وعن القمر وعن الشّمس.. وكيف أنّها لا تضرّ ولا تنفع، وبيّن لهم أنّه مؤمنٌ بالله تبارك وتعالى الّذي فطر السّماوات والأرض، وقدّم الحجّة والبرهان على ذلك، ردّ على قومه عندما جادلوه وناقشوه بالباطل: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾، أنتم تحاجّون في أمر الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾: أي أنّهم خوّفوه.

﴿إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾: لماذا استثنى هنا؟ والجواب: معنى هذا كأنّه يقول: بأنّكم تخوّفونني بالأدوات والوسائل، وقد يعتقد بعض النّاس أنّ الأسباب تفعل بمشيئتها، والواقع أنّ الأسباب تفعل بمشيئة الخالق سبحانه وتعالى، لذلك كان علماؤنا الأجلّاء يقولون: لا تقلق من تدابير البشر، فإنّ أقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى فيك، أي لا تقلق من تدابير البشر؛ لأنّها لن تكون فاعلةً إلّا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾: أفلا تتعظون.

الآية رقم (91) - وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ

﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾:  القدر أي المقدار الّذي تنظر فيه، هم لم يعرفوا ولم يقدّروا الله سبحانه وتعالى حقّ قدره، لذلك النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عبّر عن هذا بأجمل وأرقى تعبير، فقال: «لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك»([1])، هذه هي العبارة الّتي علّمنا إيّاها النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما نتحدّث عن عطاء الله سبحانه وتعالى وعن رحمته وفضله، والله سبحانه وتعالى لا يريد قصائد في المديح ولا في الشّكر، وإنّما جعل العالِـم والجاهل، والأمّيّ والمثقّف يمدحونه بكلمةٍ واحدةٍ: (الحمد لله)، الّتي تجمع كلّ معاني الشّكر لله سبحانه وتعالى على عطائه ونعمه الّتي أنعم بها على الإنسان.

﴿إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾: ذُكر في سبب نزول هذه الآية: أنّه جاء رجلٌ من اليهود يُقال له: مالك بن الصّيف يخاصم النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم, فقال له النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنشدك بالّذي أنـزل التّوراة على موسى, أما تجد في التّوراة أنّ الله يُبْغِض الحَبْر السّمين؟»، وكان حبراً سميناً, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشرٍ من شيء! فقال له أصحابه الّذين معه: ويحك! ولا موسى؟! فقال: والله ما أنـزل الله على بشرٍ من شيءٍ! فأنـزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية.

الآية رقم (81) - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾:  كيف: للتّعجب.

﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾: هناك تحديدٌ لمحل النّزاع، ما هي الغاية من الحجاج والنّقاش؟ هل الغاية فقط أن أنتصر عليك في الحجّة والبرهان؟ بالتّأكيد لا، فأنا أعرض وجهة نظر أو فكرةً معيّنةً وأنت تعرض الفكرة المضادّة، والمهمّ أن نصل إلى الحقّ، وليس المهمّ أن أنتصر أنا أو تنتصر أنت، المهمّ القضيّة الّتي نبحث عنها والّتي نتحاور من أجلها، فلذلك قال الخليل عليه السَّلام: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾، سلطان العلم، والعلم قضيّةٌ واقعيّةٌ تستطيع أن تدلّل عليها عقليّاً، هذا سلطان العلم والحجّة والبرهان.

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: هنا المساواة الّتي وضعها الخليل بينه وبين من يحاججه، والأمن: هو كلّ ما يتعلّق بسلام الإنسان الدّاخليّ والمجتمعيّ والأخرويّ، لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا»([1]).

 


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب الزّهد، الحديث رقم (2346).

الآية رقم (92) - وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ

﴿وَهَذَا﴾: اسم إشارةٍ إلى القرآن الكريم.

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ﴾: الهمزة للتّعدّي، أي من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر]، فعندما يتحدّث المولى جلّ وعلا عن إنزال القرآن الكريم، ويكون بالهمزة، فالمقصود إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا.

﴿مُبَارَكٌ﴾: هناك صفاتٌ متعدّدةٌ وردت لكتاب الله تبارك وتعالى، وأكثر الصّفات هي: ﴿مُبَارَكٌ﴾، قال سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص]، وفي هذه الآية قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾، ولتفسير كلمة: ﴿مُبَارَكٌ﴾ نضرب هذا المثال: إن جئت بطعامٍ يكفي شخصين، فجاء خمسة أشخاصٍ، فتُصاب بالدّهشة عندما تعلم أنّ هذه الكميّة القليلة الّتي لا تكفي إلّا لشخصين قد أطعمت الخمسة، فإذاً حجم العطاء أكبر من حجم البناء، والمقصود بأنّ القرآن الكريم مباركٌ، صحيحٌ بأنّه كتابٌ، لكنّ عطاءه لا ينفد، بل ممتدٌّ عبر الزّمن وعبر القرون، فلو أنّ عطاء القرآن الكريم أُفرغ في وقت النّزول لكان القرآن الكريم قد عطّل بعد قرنٍ، وأصبحت تقرأ كتاباً من الماضي، ولكنّ القرآن الكريم مُباركٌ، أي أنّ عطاءه مستمرٌّ بما اكتُنز فيه إلى يوم القيامة، فكلّما تطوّر العقل البشريّ استمدّ من كتاب الله سبحانه وتعالى ما يوافق هذا التّطوّر في كلّ مكانٍ وزمانٍ، لذلك قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن القرآن الكريم: «هو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدّ، ولا تنقضي عجائبه…»([1]).


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن، الحديث رقم (2906).

الآية رقم (82) - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ

عن عبد الله رضي الله عنه قال: لـمّا نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾، شقّ ذلك على النّاس وقالوا: يا رسول الله، فأيّنا لا يظلم نفسه؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّه ليس الّذي تعنون! ألم تسمعوا ما قال العبد الصّالح: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: من الآية 13]، إنّما هو الشّرك»([1])، إذاً المقصود هو الإشراك بالله سبحانه وتعالى، والإشراك بالله سبحانه وتعالى ليس فقط أن تعبد صنماً أو قمراً.. الإشراك بالله سبحانه وتعالى أن تعتقد أنّ أحداً يضرّ وينفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، غير الله عزَّ وجلّ، الإنسان يشرك أحياناً هواه، قال تبارك وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: من الآية 43].

﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾: لأنّهم لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ، أي أنّه إيمانٌ صافٍ خالصٌ، اعتقادٌ أنّ الله سبحانه وتعالى يملك مقادير الحياة والموت، والله جلّ وعلا لا غالب لأمره وسلطانه.


([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الحديث رقم (3589).

الآية رقم (93) - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾: لا يوجد أحدٌ أظلم ممّن افترى على الله سبحانه وتعالى كذباً، كيف يفتري الإنسان على الله عزَّ وجلّ الكذب؟ الجواب: يوجد طريقان، الطّريق الأوّل: هناك من ادّعى بأنّه نبيٌّ، وأنّه قد أوحي إليه فكذب على الله سبحانه وتعالى، والطّريق الثّاني: الإنسان الّذي يقول بالقرآن بالكذب.

﴿وَلَوْ تَرَى﴾: لو: شرطيّة، نجد هنا (لو) الشّرطيّة لا جواب لها، والجواب يُترَك للسّامع؛ لأنّ الجواب لا حصر له وقت غمرات الموت، وهي الشّدّة الّتي لا يستطيع الإنسان منها خلاصاً، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا إله إلّا الله، إنّ للموت سكرات»([1]).

﴿إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾: غمرات: سكرات وشدّة الموت.

﴿وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾: باسطوا أيديهم، هذا التّمثيل لإخراج الرّوح، والله سبحانه وتعالى يبيّن أنّ الملائكة عندما يخرجون الرّوح يكونون باسطي الأيدي.

﴿أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾: أي أخرجوا أنفسكم من العذاب إن كنتم تستطيعون إلى ذلك سبيلاً، وقال بعض المفسّرين: إنّه عندما تأتي ملائكة الموت إلى الظّالمين فإنّ الرّوح تتوزّع في كلّ أجزاء الجسد، وأثناء الخروج تحاول ألّا تخرج، فتكون أكثر شدّةً من خروج الرّوح بالنّسبة للإنسان المؤمن.

﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾: العذاب المهين الأليم.

﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾: ومن هؤلاء النّاس من يدّعي بأنّه نزل عليه قرآنٌ، كمسيلمة الكذّاب وسجاح وطليحة و…، ومنهم من يحرّم الحلال ويحلّل الحرام ويبتدع من عنده ما يريد، ويفسّر القرآن الكريم كما يحلو له، كما فعل الإرهابيّون والمتطرّفون والقتلة والمجرمون عندما أخذوا وبتروا آيات القرآن الكريم، وقالوا ما لا يعلمون، ونسبوا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى أمر أوامر ونهى عن نواهي، وحدّ حدوداً في كتابه الكريم، وكلّف النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتّشريع فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: من الآية 7]، فكلّ الأوامر وكلّ ما يتعلّق بالعقيدة والشّريعة والأخلاق الّتي وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى، والقصص القرآنيّ هي مُلزمةٌ للإنسان المسلم، ولا يمكن أن يأخذ ما يحلو له ويترك ما لا يحلو له، فيجزّئ الأمر.

﴿وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾: أي يقولون: لا أريد الدّين، ولا الإسلام، ويتأبّى على كلّ الأوامر الإلهيّة، فهؤلاء يجزون عذاب الهون.


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب المغازي، باب مرض النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ووفاته، الحديث رقم (4184).

الآية رقم (83) - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾: إذاً حتّى الأنبياء جاؤوا بالحجج حتّى يقنعوا العقول؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق العقل، والعقل هو مناط التّكليف، فهذا هو الاحترام الكبير للعقل البشريّ، لذلك نرى أنّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق آدم عليه السَّلام: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، احتجّ بالعلم، والعقل هو مناط العلم والتّكليف، وهذا هو الإسلام الّذي يتحدّث عنه فلا يزايدنّ أحدٌ علينا بموضوع العلم والإيمان والعقل البشريّ، فهذا أمرٌ من أسس الشّريعة الإسلاميّة، وهو واضحٌ تماماً، وهنا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ أراد الله سبحانه وتعالى أن تؤمن بالعقل، بالعلم، بالحجّة، بالبرهان، لذلك أعطى تبارك وتعالى الأنبياء عليهم السَّلام الحجج والبراهين.

﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾: واستخدم الله سبحانه وتعالى هنا صفة العلم والحكمة؛ لأنّ الموضوع يتعلّق بالحجّة والعقل والبرهان والحكمة في وضع الأمور في نصابها وفي مكانها.

الآية رقم (94) - وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أي كلّ فردٍ وحده؛ لأنّه عندما خُلق الإنسان أوّل مرّةٍ خُلق فرداً أو كما خلقناكم أوّل مرّةٍ جئتمونا من غير أن يكون معكم أموالٌ ولا أتباعٌ ولا أحسابٌ ولا أنسابٌ ولا مناصب ولا أيّ شيءٍ.

﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ﴾: ما خوّلناكم إمّا من أولادٍ، وإمّا من أموالٍ، وإمّا من أتباعٍ، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾ [الشّعراء]، في هذه اللّحظات يأتي الإنسان فرداً أمام الله سبحانه وتعالى ليس له شفيعٌ، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء﴾، أين الّذين كنتم تستنصرون بهم؟ أين الّذين كنتم تعتزّون بهم؟ أين المال الّذي كنتم تنفقونه من أجل إقامة الظّلم بين النّاس أو سرقتهم أو الاعتداء عليهم وانتهاك حرماتهم؟ كلّ ذلك لن يشفع لكم إلّا العمل الصّالح.

﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: أي تقطّع الّذي كان يصل بينكم وبين أموالكم أو بين جاهكم أو بين أحسابكم أو بين أنسابكم.

﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: تاه وضاع.

الآية رقم (84) - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

يتابع المولى سبحانه وتعالى عن تكريمه لإبراهيم الخليل عليه السَّلام:

﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾: الله سبحانه وتعالى وهب له إسحاق وإسماعيل، لكنّ الله سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ لماذا؟ الجواب: لأنّ يعقوب ابن ابنه أي حفيده الّذي جاء منه أنبياء بني إسرائيل، فمعظم الأنبياء الّذين جاؤوا بعد إبراهيم الخليل عليه السَّلام جاؤوا من نسل إسحاق وليس من نسل إسماعيل، بينما اُختصّ إسماعيل بنبيٍّ واحدٍ هو النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فقط، أمّا كلّ الأنبياء الّذين سيأتي ذكرهم الآن جاؤوا من نسل يعقوب بن إسحاق.

﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾: إسحاق عليه السَّلام كان نبيّاً، ويعقوب عليه السَّلام كذلك، لكن لكي لا يعتقد أحدٌ أنّ الهداية محصورةٌ بهم فقط، وأنّها بدأت من إبراهيم الخليل ومن أبنائه إسحاق ويعقوب، فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾، فمن قبل أيضاً أرسلنا بهدايتنا وبرسالتنا أنبياء آخرين، وعلى رأسهم نوح، فلم بدأ من عند نوح عليه السَّلام؟ الجواب: لأنّ البشريّة قد تعرّضت للفناء في الطّوفان الّذي حدث، فنوحٌ عليه السَّلام ومن نجا معه هم الّذين يتحدّث القرآن الكريم عنهم وعن الهداية.

الآية رقم (85) - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ

﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾: كلّهم من النّسل ذاته، وهنا هؤلاء الأنبياء الأربعة اجتمعوا بقضيّةٍ واحدةٍ، وهي الزّهد، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.

الآية رقم (86) - وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: الملائكة من ضمن العالمين، إذاً الأنبياء مفضّلون على الملائكة.

الّذي يجمع هؤلاء الأربعة: إسماعيل واليسع ويونس ولوط عليهم السَّلام، هو أنّهم لم يبق لهم أتباعٌ.

ذكر المولى سبحانه وتعالى هنا ثمانية عشر نبيّاً، وجاء في مواضع أخرى: آدم وإدريس وهود وذو الكفل وصالح وشعيب ونبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، هذه كلّ أسماء الأنبياء الواردة في كتاب الله عزَّ وجلّ، وعددهم خمسةٌ وعشرون نبيّاً.

الآية رقم (87) - وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾: أي أنّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا الصّلاح في آبائهم وذرّيّتهم وإخوانهم.

﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾: قرّبناهم.

﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: صراط الله سبحانه وتعالى وهو الإسلام، والإسلام كما قلنا: هو الاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وكلّ الأنبياء جاؤوا بالإسلام بمعناه العامّ، وليس بشريعته، أمّا بشريعته فجاء به النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أنعم الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الأنبياء بأنّهم كانوا هم الهداة الّذين يهدون البشريّة إلى هذا الصّراط، والصّراط المستقيم هو أقصر طريقٍ يوصل إلى الغاية، والغاية هي الوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى وإلى جنّات الخلد، نردّد في كلّ صلاةٍ: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ [الفاتحة]، صراط الّذين أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم من النّبيّين والصّديقين والشّهداء والصّالحين.

الآية رقم (88) - ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ﴾: أي ما مرّ هو هدى الله سبحانه وتعالى، وقلنا: بأنّ الهداية لها نوعان: إمّا هداية دلالةٍ، أو هداية معونةٍ، هداية الدّلالة كُلّف بها الأنبياء عليهم السَّلام، فهُدى الله سبحانه وتعالى هو الرّسالات السّماويّة، والبلاغ عن الله سبحانه وتعالى الّذي كُلّف به الأنبياء عليهم السَّلام.

﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾: قد تقول: لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يهديني، الله سبحانه وتعالى لم يشأ عندما لم تختر، وهو ترك لك الخيار ووضع لك مشيئةً، لو لم يشأ لم تكن لك مشيئةٌ، ولأجبرك على الاختيار، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس]، والإنسان يُحاسَب على اختياره، ولا يُحاسَب على علم الله سبحانه وتعالى باختياره، وهذا هو مناط التّكليف، ومناط الثّواب والعقاب، وهو واضحٌ للنّاس جميعاً، وأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بهذا الطّريق ولكنّنا نحن اخترنا الطّريق الآخر، لذلك: ﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾، فمشيئة الله سبحانه وتعالى بأن جعل لك مشيئةً، ولو أراد سبحانه وتعالى لما جعل لك مشيئةً.

﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: فكلّ عملٍ مع الإشراك لا يغني.

الآية رقم (67) - لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾: أي اطمئنّوا، فلكلّ نبأٍ وقتٌ يخرج فيه.

﴿مُّسْتَقَرٌّ﴾: أي ميلادٌ يستقرّ فيه، أي لا تتعجّلوا الأحداث فإنّها ستأتي، لها مستقرٌّ، فعندما قال سبحانه وتعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر]، استغرب سيّدنا عمر رضي الله عنه، لأنّهم كانوا مستضعفين في مكّة، ثمّ رآها بعينه في غزوة بدرٍ، وكذلك قوله جلَّ جلاله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الرّوم]، رأوها بأعينهم، وهذا معنى مستقرّ، أي ميلادٌ يستقرّ فيه، فلا تتعجّلوا الأحداث.

الآية رقم (68) - وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

فإذا رأيت يا محمّد الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم، مع أنّه مكلّفٌ بالتّبليغ لماذا يقول له الله سبحانه وتعالى: ﴿يَخُوضُونَ﴾؟ الجواب: لأنّ الخوض هو الغوص، كأنّهم يخوضون في الماء، هم لا يتحدّثون، بل يخوضون، فماذا تفعل؟ الجواب: أعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره، لماذا؟ لأنّه إذا خاض الإنسان في شيءٍ خارجٍ عن علمه، وبغير اختصاصٍ، فإنّك لن تستفيد من النّقاش معه، لذلك فأعرض عنه واتركه، وهذا ما حدث فعلاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: هذا الحديث لأتباع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن المخاطبة تكون من خلال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

لماذا نسب النّسيان للشّيطان؟ الجواب: لأنّ القرآن الكريم هو حقٌّ، ولا يمكن أن ينسى الإنسان الحقّ، وإنّما الّذي يُنسي الحقّ هو الشّيطان.

الآية رقم (69) - وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

إن قمت من مجلسهم يا محمّد فهو شيءٌ أكثر أهمّيّةً من هذا المجلس؛ لأنّ قيامك من المجلس والإعراض عنهم هو تذكرةٌ لهم.

﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾: وليس عليك شيءٌ يا محمّد، فهم يتحمّلون أوزار أنفسهم بما قدّموا وبما عملوا وبما خاضوا بآيات الله سبحانه وتعالى بغير هدى.

الآية رقم (70) - وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ

﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾: اللّعب: هو الاشتغال بما لا يفيد ولا ينفع، وإذا شغلك اللّعب عن واجباتك يصبح لهواً، هذا هو الفارق بين اللّعب واللّهو، اللّعب لا بأس به، لكنّ اللّهو أن تُشغل عن واجباتك وعن مسؤولياتك. فهم اتّخذوا الدّين لعباً ولهواً.

﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾: في هذه الآية بيانٌ عظيمٌ لكلّ البشر بأنّ الحياة الدّنيا هي متاع الغرور، ومشكلة النّاس بأنّهم نقلوا الغايات إلى الوسائل، والوسائل أصبحت غاياتٍ، فوجودك في الدّنيا وسيلةٌ لا غايةٌ؛ لأنّ هناك موتاً، ولو لم يكن هناك موتٌ لقلنا: هذا الكلام صحيحٌ، فمثلاً: درست وحصلت على الشّهادة الثّانويّة ثمّ تخرّجت من الجامعة وبعدها عملت وتزوّجت.. ماذا بعد ذلك؟ الّذي ليس له بعد هو الّذي يكون الغاية، المشكلة هي أنّ النّاس جعلوا الوسائل غاياتٍ، الحياة هي وسيلةٌ للوصول إلى ما بعد الموت، أي إلى الحساب والعقاب أو الثّواب، ولو أنّ الإنسان استطاع أن يوقف عجلة الموت، وأن يردّ مَلَك الموت، وأن يخترع ما يبقيه على قيد الحياة لكان هناك تفكيرٌ آخر، لكن الحقّ أنّه ما تخلّف أحدٌ منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السَّلام إلى هذه اللّحظة عن قانونٍ اسمه قانون الموت، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، وقال جلّ وعلا: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران]، والدّنيا أغيار، ما معنى أغيار؟ هل هناك شيءٌ ثابتٌ بالنّسبة للدّنيا؟ عمرك يومٌ، هل تثبت على عمرك يوم؟

الآية رقم (60) - وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾: لماذا سمّى المولى سبحانه وتعالى النّوم وفاة؟ وهل قانون النّوم هو ذاته قانون الوفاة؟ وما هي العلاقة بين النّوم والوفاة؟ الجواب: أوّلاً لنفهم ما هو النّوم، النّوم ليس عمليّةً اختياريّةً من الإنسان، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى إذا سلّط هموماً على بعض النّاس فإنّهم لا يستطيعون النّوم، إذاً النّوم عمليّةٌ قصريّةٌ خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان لتردعه عن الحركة، أمّا الوفاة فهي خروج الرّوح من الجسد، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا: إيّاكم أن تظنّوا أنّ وجود الرّوح في الجسد هو الّذي يعطي للإنسان الحياة والحركة والتّصرّف، إنّي سأحتفظ بالرّوح في الجسد، ولن يستطيعَ الجسدُ التّصرّف الاختياريّ، فعند النّوم لا تستطيع أن تتصرّف اختياريّاً، فلا تحرّك يدك ولا قدمك ولا تقوم بأيّ فعلٍ باختيارك، إذاً النّوم نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، ولذلك إن أردت أن تنام فذلك ليس بمقدورك، ولكنّه بمقدور الحقّ سبحانه وتعالى، يقول العلماء: النّوم ضيفٌ إذا طلبته أتعبك، وإن طلبك أراحك، النّوم آيةٌ كاملةٌ بمفردها، ولا يأتي النّوم فقط باللّيل، وإنّما قد يكون بالنّهار؛ لأنّ هناك أناساً يعملون في اللّيل، وفي النّوم نرى أحلاماً وألواناً، ولكن بماذا نرى الألوان والأحلام؟ العين مغلقةٌ فكيف نرى؟ هناك قانونٌ للنّوم يختلف عن قانون اليقظة، عندما نقوم بفعلٍ أو بحركةٍ نحتاج إلى زمنٍ، بينما أثناء النّوم نسافر إلى أقصى الأرض ونعود، ونقوم بعمليّاتٍ كثيرة ولا نستغرق أكثر من سبع ثوانٍ فقط، فنحن نخرج من قانون الزّمان أيضاً، وهذا يدلّنا أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن لنا بأنّ للنّوم قانوناً، وهو يقرّب إلينا الأمر، فقد ترك الرّوح في الجسد، وعطّل الحركات الاختياريّة الّتي نفعلها حال اليقظة، كتحريك اليد، فهذه حركةٌ اختياريّةٌ وليست حركةٌ اضطراريّةٌ، بينما دقات القلب حركةٌ اضطراريّةٌ لا نستطيع أن نتحكّم بها، إذاً سمّى الحقّ سبحانه وتعالى النّومَ وفاةً، وسمّى الاستيقاظ بعثاً؛ لذلك قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنها الجنّة أبداً أو النّار أبداً»([1]).

الآية رقم (71) - قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

﴿قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا﴾: هذه دعوةٌ للعقل البشريّ، إن كنت تعبد صنماً أو وثناً أو شمساً أو قمراً أو تعبد إنساناً، فحاكم الأمر بعقلك، هل يضرّ أو ينفع؟ هذه الشّمس أو هذه الأوثان والأصنام الّتي عبدوها، هل كانت تقدّم لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضرّاً؟

﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾: الردّ على العقب هو رجوعٌ خطوة إلى الوراء.

﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾: كأنّه ما بين أمرين، الشّيطان يدعوه لأن يهوي، وأصحاب الصّلاح يدعونه إلى الهدى، وعندما يتحدّث القرآن الكريم عن الشّيطان فهو من عالم الغيب، وهو كلّ شريرٍ مُفسدٍ من الجنّ، والله سبحانه وتعالى بيّن لنا بأنّ هناك مخلوقاتٍ تسمّى الجنّ، والمشكلة لدينا أنّنا نريد أن ندرك كلّ ما هو مخلوقٌ بحواسّنا، ولكن هذا يستحيل على الإنسان، لذلك ليس كلّ ما لا ندركه هو غير موجودٍ، هو موجودٌ حتّى لو لم ندركه، ويكفي أنّ الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنّ هناك خلقاً من خلقه يطلق عليهم الجنّ، فإذاً نحن نؤمن بما جاء في القرآن الكريم.

الآية رقم (61) - وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ

﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾: أي المتحكّم بقدرةٍ فائقةٍ.

﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: الفوقيّة ليست الفوقيّة المكانيّة، وإنّما هي فوقيّة قدرة وفوقيّة علوّ، والحمد لله أنّه القاهر فوق عباده، فعندما يقهر إنسانٌ إنساناً فهناك إلهٌ قاهرٌ فوق عباده يُلجأ إليه، وما دام هو قاهر سبحانه وتعالى فكلّ ما سواه مقهورٌ له، كيف؟ الجواب: الله سبحانه وتعالى أوجد الوجود وقهره، فقهر الغنى فأفقر، وقهر الفقر فأغنى، وقهر الصّحّة فأمرض، وقهر المرض فشفى.. كلّ شيءٍ في الوجود مقهورٌ لله سبحانه وتعالى، حتّى الرّوح هي مقهورةٌ تُفارق الجسد فيموت الإنسان.

﴿حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾: وكأنّ الموت هو الّذي يجيء، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: من الآية 8]، أنتم تفرّون منه إلى الأمام، وهو ملاقيكم من الأمام، أبهم الله سبحانه وتعالى زمان ومكان الموت بالنّسبة للإنسان، وقد قيل:

هَبْ أنّك قد ملكت الأرض طُرّاً
أليس غداً مصيرك جوف قبرٍ

ودانَ لك البلاد فكان ماذا؟!
ويحثو التّرب هذا ثمّ هذا؟!