الآية رقم (35) - وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ

الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم معصومٌ، وليس المقصود بهذه الآية مظنّة أنّه سيفعل ذلك، وأنه سيكون من الجاهلين، لا، فهي تنزيهٌ للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من أن يكون في صفّ الجاهلين، حتّى لا يحمل الإنسان الآية على غير محملها، وكثيرٌ هم الّذين يتصدّون لآيات القرآن الكريم ويفسّرونها بأقوالهم كيفما شاؤوا، ويخرجون عن كلّ قواعد اللّغة العربيّة وقواعد التّفسير والدّين.

الآية رقم (34) - وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ

هذه هي سنّة الخلق ما بين الحقّ والباطل، عبر الزّمن كُذّب الرّسل الّذين أُرسلوا لأقوامهم نوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان عليهم السَّلام ولكنّهم صبروا، والصّبر هو سلاح المؤمن، بيّنه الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾  [البقرة]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة]، لم يقل: مع المصلّين؛ لأنّ الصّلاة قد تكون مجرّد ركعاتٍ وسجودٍ وحركاتٍ، أمّا التّعبير الحقيقيّ عن الصّلاة فهو أن تصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى، وتعتقد أنّ قضاءه جلّ وعلا فيه خيرٌ لك، وأنّ هذه المحنة ستنقلب إلى نعمةٍ، وأنّ كلّ محنةٍ في باطنها نِعَمٌ من الله سبحانه وتعالى فتصبر على هذا الإيذاء.

الآية رقم (32) - وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾: الفرق ما بين اللّعب واللّهو: اللّهو يشغلك عن الواجب، أمّا اللّعب فلا يشغل عن الواجب، فمثلاً: لعبة كرة القدم هي لعبةٌ لكنّ النّاس وضعوا لها قوانين جادّة، أوّلاً يأتي النّاس قبل ساعتين ينضبطون في المدرّجات، وهناك حكمٌ يحكم بين الفريقين، وهناك ضربة جزاءٍ، إذاً وضعوا قانوناً جادّاً للعبة، واللّعب بشكلٍ عامٍّ يختلف عن اللّهو، فاللّعب لا يلهيك عن مسؤوليّةٍ أو عن عملٍ، أمّا اللّهو فلا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يُغني عنك من الله شيئاً، ويشغلك عن مسؤوليّتك وعن عملك المكلّف به، فالحياة الدّنيا هي لعبٌ ولهوٌ، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «ما لي وما للدّنيا، ما أنا في الدّنيا إلّا كراكبٍ استظلّ تحت شجرةٍ ثمّ راح وتركها»([1])، هذا الحديث النّبويّ يمثّل معنى هذه الآية تماماً، إذاً أنت تمرّ في دار ابتلاءٍ، وهي ليست دار قرارٍ، وإنّما هي دار مرورٍ، فإمّا أن تحصّل منها ما يفيد لآخرتك، وأن تبني قبرك وما بعد القبر، وإمّا أن تكون وبالاً عليك.

الآية رقم (31) - قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ

﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ﴾: لماذا الخسارة؟ الإنسان يعمل فيزيد رأس المال، فإذا نقص رأس المال نقص الرّبح فخسر العمل والرّبح معاً، والّذين كذّبوا بلقاء الله عزَّ وجلّ كلّ عملهم ذهب هباءً منثوراً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان].

﴿حَتَّى﴾:  جسرٌ ما بين شيئين، ما بين الدّنيا والآخرة.

﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾:  لأنّ السّاعة ستأتي بغتةً، والسّاعة بالنّسبة لكلّ إنسانٍ قيامته، وساعته عند وفاته أقرب إليه من نفسه، وهو لا يعلم في أيّ لحظةٍ يأتي هذا الأجل فعندما يأتي الأجل فقد قامت قيامة الإنسان، وبالتّأكيد القيامة الكبرى عندما يقف النّاس لربّ العالمين، لكن الانتهاء من دور الحياة الدّنيا يكون في اللّحظات الّتي يموت فيها الإنسان في هذه الدّنيا لذلك قال الشّاعر:

نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ
ولم أر مثل الموت حقّاً كأنّما
وما أصعب التّفريط في زمن الصّبا
ترحّل من الدّنيا بزادٍ من التّقى 

 

وأعمارنا تُطوى وهنّ مراحل
إذا ما تخطّته الأمانيُّ باطل
فكيف به والشّيب للرّأس شامل
فعمرك أيّامٌ وهنّ قلائل

﴿قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: يومئذٍ يتحسّرون، ولكن لا يفيدهم تحسّرهم.

﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾: هذه الأوزار تتحوّل إلى أحمالٍ وأثقالٍ على ظهورهم.

﴿أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾: ما يحملون.

وهم لا يحملون أوزارهم فقط، بل وأوزار من كانوا قدوتهم في هذا العمل، ومن كانوا قدوتهم في البعد عن الله عزَّ وجلّ وعن نهجه وعن سبيله وعن عطائه وعن رحمته.

الآية رقم (30) - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ

﴿وَلَوْ تَرَى﴾: يا محمّد.

﴿إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ﴾: وقفوا في هذا الموقف.

﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾: هذا ما كنتم تنكرونه في الدّنيا بأنّنا لسنا بمبعوثين ولن نقف هذا الموقف، ﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾.

عندما تحوّلوا إلى علم اليقين، ورأوا الجنّة جنّةً، والنّار ناراً، كان سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “والله لو كُشف عنّي الحجاب ورأيت النّار ناراً ورأيت الجنّة جنّةً ما زاد ذلك في إيماني شيئاً”؛ لأنّه آمن بالله سبحانه وتعالى وآمن برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. أمّا مشكلة بأنّنا نتمنّى أو نقول أو ندّعي بأنّ هذه الحياة الدّنيا هي منتهى الأمور فهذا لا يصحّ حتّى عقليّاً، فمن الأجدر أن نؤمن بأنّ هناك يوم حسابٍ لتنضبط حركة الإنسان في الحياة، وحتّى لا يتفلّت من الضّوابط القيميّة والأخلاقيّة، وليعلمَ بأنّه في هذا اليوم ستُنشر أعماله وسيُحاسب على الكبير والصّغير والقليل والقطمير ويتعرّض لرحمات الله سبحانه وتعالى ويتعرّض أيضاً لعذابه عزَّ وجلّ نتيجة لما ارتكب من آثام.

الآية رقم (27) - وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

انتقل الله تبارك وتعالى إلى الصّورة المقابلة؛ لأنّها مهما طالت فهي قصيرةٌ، مهما طال عمر الإنسان فسيقف هذا الموقف، فبعد أن كانوا ينهون عن الاستماع للقرآن الكريم وينأون عنه ويشوّشون عليه ويمنعون كلّ ما يتعلّق به.

﴿فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: يا ليت هي كلمةٌ يقولونها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون].

الآية رقم (29) - وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ

هذا القول هو مشكلة كلّ الدّنيا وما زلنا حتّى الآن وفي كلّ لحظةٍ إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها سنناقش هذه القضيّة وهي قضيّة: ﴿وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، لماذا تقولون: حياتنا الدّنيا؟ طالما هي حياةٌ دنيا فهذا يعني أنّ هناك حياةً عُليا مقابلها.

﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾: ما هو الدّليل على أنّكم غير مبعوثين إلى يوم القيامة وإلى الحساب والعقاب؟ الدّليل بالنّسبة لنا الّذي نقوله هو الدّليل على وجود الله سبحانه وتعالى، فنحن نناقش بالقمّة، نناقش موضوع وجود الله سبحانه وتعالى، فإذا ثبت علميّاً وعقليّاً وإيمانيّاً وجوده سبحانه وتعالى، وصدق البلاغ عنه عزَّ وجلّ من قِبل الرّسل عليهم السَّلام، فإذاً علينا أن نؤمن إيماناً مطلقاً بعد أن حاكمنا العقل والحجّة والبرهان وعرفنا بأنّ هذا الوجود له موجدٌ، وأنّه موجد الوجود، وأنّ الأثر يدلّ على المؤثّر، وأنّه لا يمكن أن يوجد هذا الكون بهذا الاتّساع وهذا النّظام من دون فاعلٍ ومن دون موجدٍ، ونؤمن بأنّ هذا الرّسول جاء وهو صادقٌ وأمينٌ وبلّغ القرآن الكريم وتحدّى البشريّة بصدق القرآن الكريم وببلاغته وعلومه وبما ورد فيه، وإلى هذه السّاعة ما استطاع أحدٌ أن يُنكر أيّ آيةٍ في القرآن الكريم، أو أن يقول: هذه الآية قد تصادمت مع العلم الحقيقيّ والعلم الثّابت التّجريبيّ، ولكن الّذي حدث أنّهم كما أخبر جلّ وعلا: ﴿وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾: فهم يتمنّون ألّا يبعثوا ليرتكبوا كلّ الموبقات والشّهوات ويتفلّتوا من كلّ الضّوابط، وألّا يوجد يوم حسابٍ، والّذي هو الأساس بالنّسبة للإيمان، فإذا آمنت بالله سبحانه وتعالى فيجب أن تؤمن بأنّ هناك يوماً آخر، وأنّ الله تبارك وتعالى ما خلقنا عبثاً، فهناك ظالمٌ وهناك مظلومٌ، هناك قاتلٌ وهناك مقتولٌ، هناك سارقٌ وهناك مسروقٌ، هناك فقيرٌ تحمّل وهناك غنيٌّ أسرف.. كلّ هذا كما أخبر سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء]، هذا هو اليوم الّذي يهربون منه.

الآية رقم (28) - بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

﴿بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾: من كفرهم وإشراكهم ومن صدّهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى بدا لهم: أي أصبح واضحاً؛ لأنّه تُنشر الأعمال في ذلك اليوم، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ﴾ أي إلى الدّنيا مرّةً أخرى، ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: الكذب هو صفةٌ ملازمةٌ لهم.

الآية رقم (26) - وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

﴿عَنْهُ﴾: عن القرآن الكريم.

ارتكبوا جريمتين اثنتين: ينهون عن القرآن الكريم، وينأون عنه ليمنعوا من أن يستمع إليه أحدٌ خوفاً من أن تتسلّل أنوار القرآن الكريم إلى قلوب المستمعين له.

﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾: كلّ هذا الكلام والتّشويش واللّغو لا يفيد، وهم لا ﴿يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعتقدون بأنّهم ينالون من القرآن الكريم ويشكّكون فيه، ولكنّ القرآن الكريم باقٍ إلى قيام السّاعة.

الآية رقم (33) - قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ

هذه الآية تسليةٌ لقلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿قَدْ﴾: هنا للتّحقيق، أي تحقيقٌ بعلم ما يحدث.

﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾: والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يحزن عندما يرى أنّه يدعو النّاس إلى الخير وهم يقابلونه بالشّرّ، فقالوا عنه: ساحرٌ، وقالوا: مجنونٌ، وقالوا: كذّابٌ، وقالوا: مفترٍ، وقالوا: أضغاث أحلامٍ، لم يتركوا صفةً من الصّفات المذمومة إلّا وقالوها، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم الصّادق الأمين، لذلك أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع الحزن عن هذه النّفس العظيمة، نفس محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال له: يا محمّد، ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾، وهذه تسليةٌ لقلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فعندما ذهب صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الطّائف، أغروا به غلمانهم ليلقوا عليه الحجارة ويشتموه فما كان منه إلّا أن قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي وهواني على النّاس، أنت أرحم الرّاحمين، إلى من تكلني؟! إلى عدوٍّ يتجهّمني؟ أم إلى قريبٍ ملّكته أمري؟ إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي»([1]).

الآية رقم (25) - وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ

﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾: الفرق بين يسمع ويستمع: قد تسمع وأنت لا تهتمّ ولا تقصد السّمع؛ لأنّ حاسّة السّمع بالنّسبة للإنسان هي أوّل أدوات الإدراك، هي آلةٌ موجودةٌ في جسم الإنسان لا تغيب، حتّى في حالة النّوم الإنسان يسمع لكنّه لا يرى، قال سبحانه وتعالى عن أصحاب الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف]، حتّى ناموا تلك النّومة الطّويلة، فمنع الله تبارك وتعالى آليّة السّمع من العمل، صوت الهواء والرّياح ونباح الكلاب عند الكهف، كلّ هذا مُنع عنهم حتّى ناموا تلك الرّقدة الطّويلة.

إذاً السّمع آلة إدراكٍ لا تتعطّل في الإنسان عند النّوم، وعندما يستمع الإنسان أي هو يقصد أن يسمع وأن يفهم هذا الكلام، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ [محمّد]، إذاً يقصد الاستماع إليك ليسمع ما تقوله من آيات القرآن الكريم.

الآية رقم (24) - انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ

﴿انظُرْ كَيْفَ﴾: على أمرٍ لم يأت بعد، لكن الله سبحانه وتعالى ليس لديه زمنٌ، فعندما يتحدّث عن أمرٍ أنّه سيحدث فإنّه حدث، يخرج من الزّمن، مثل قوله جلَّ جلاله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النّحل: من الآية 1]، كيف أتى وأنت تستعجله؟ الجواب: لأنّ الله سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿كُن﴾، فيكون خارج الزّمن، والزّمن مخلوقٌ من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فعندما يقول: ﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾: أي اعلم يا محمّد كيف كذبوا يوم القيامة، وكأنّه ينظر إلى ذلك. عندما قال للنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾  ]الفجر[، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل]، هو لم يكن أيّام عادٍ ولا أيّام أصحاب الفيل؛ لأنّه كان في بطن أمّه في عام الفيل، (ألم تر)؛ لأنّ الرّؤية من الحواسّ، وهي أشدّ الحواسّ إثباتاً، أكثر من السّمع، رأيت أم سمعت؟ فعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾؛ لأنّ ربّ الحواسّ الّذي خلقها هو أصدق منها، فإخبار الله سبحانه وتعالى لك أصدق من عينيك، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾، ولو كان القائل غير الله سبحانه وتعالى لقال: (ألم تسمع كيف فعل ربّك بعاد)، (ألم تسمع كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل).

إذاً إخبار الله سبحانه وتعالى أصدق من رؤية عينيك، ومن هنا جاءت هذه الآية: ﴿انظُرْ﴾ أي وكأنّه ينظر.

﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾: أي أنّ شركاءهم والّذين أشركوا فيهم حتّى الحجارة تقول: عبدونا، ونحن عبادٌ لله، فحتّى الحجارة تسبّحه وتعبده سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾  [الإسراء].

الآية رقم (23) - ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

الفتنة هي الاختبار، والفتنة بحدّ ذاتها لا تكون شرّاً، لكن نتيجة الفتنة تكون إمّا شرّاً وإمّا خيراً، وقد يأتي معنى الفتنة بالسّير على رأي ضالّ.

فالفتنة هي اختبارٌ لها وسائلٌ متعدّدةٌ، وتطلق على الشّيء الّذي يستولي على الإنسان بالباطل، يقال: هذا يفتن أو يفتن بين النّاس.

﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾: كانت نتيجة الاختبار بأنّهم قالوا يوم القيامة: بأننّا ما كنّا مشركين، هم كذّبوا، ويحاولون حتّى في هذه اللّحظات أن يقسموا: ﴿وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾، إذاً تبرّؤوا، ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة].

الآية رقم (20) - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: الكتاب هو التّوراة.

﴿يَعْرِفُونَهُ﴾: أي يعرفون النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويعرفون صدق بلاغه صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: “والله إنّي لأعرف محمّداً، ومعرفتي لمحمّدٍ أشدّ من معرفتي لابني”، وذلك من جرّاء الأوصاف الّتي جاءت عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التّوراة.

﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾: الخسارة هي ضياعٌ لرأس المال، أمّا خسارة النّفس فهي لا تعوّض، فهم خسروا أنفسهم؛ لأنّهم قدّموا شهواتهم في هذه الحياة الدّنيا على النّعيم الدّائم والباقي في الآخرة.

هؤلاء خسروا أنفسهم من جرّاء كفرهم، ومن جرّاء صدّهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الهداية جاءتهم، وهذه الهداية هي هداية دلالة: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: من الآية 9]، يهدي النّاس جميعاً للّتي هي أقوم، فإذا أخذت بهداية الدّلالة وسرت بها فقد آمنت، وإن لم تأخذ يزيدك الله سبحانه وتعالى بعداً.

﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: هم من جرّاء خسرانهم لأنفسهم لا يؤمنون، وليس لأنّ الله سبحانه وتعالى كتب عليهم عدم الإيمان.

الآية رقم (19) - قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ

اختلف الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم مع المشركين حول قضيّةٍ عقائديّةٍ أساسيّةٍ متعلّقةٍ بالإيمان والكفر، بالإيمان والإشراك، بتعدّد الآلهة أو بعدم وجود آلهةٍ، عندما يختلف الإنسان مع الآخرين المناوئين له يطلب حكماً وبيّنةً للخلافات، والشّهود هم إحدى البيّنات، فتصوّروا أنّ الله سبحانه وتعالى هو الشّاهد وهو الحكم وهو المنفّذ، هذا معنى قوله جلَّ جلاله: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾، الله عزَّ وجلّ يشهد على صدق أنّه لا إله إلّا هو.

هذا الإيمان العميق في قلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أراد أن يرسله إلى النّاس وأن يبلّغهم إيّاه من خلال رسالته، رسالة الخير والرّحمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ]، فهو مبعوثٌ للبشريّة جمعاء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، فما كان لرحمة السّماء أن تكون وسيلةً لشقاء النّاس.

الآية رقم (18) - وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

هو القاهر القدير الحكيم الخبير، والخبير هو الّذي يضع الأمور في نصابها.

﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: غالبٌ على أمره، لا يترك الأمر للأسباب والمسبّبات، مع أنّه رتّب سبحانه وتعالى الكون والخلق بأسبابٍ ومسبّباتٍ، وجعل واسطةً بين الشّيء والشّيء، الأرض واسطةٌ لاستقبال النّبات، والإنسان واسطةٌ بين أبيه وابنه… إلخ، ربط هذه الأسباب، لكنّه القاهر فوق عباده، يخرق الأسباب متى شاء وأينما يشاء، ليُعلن طلاقة القدرة الإلهيّة في أمورٍ يراها الإنسان في مختلف مناحي الحياة فقد يقع الإنسان من مكانٍ مرتفعٍ ويقوم صحيحاً لم يمت، وتجد آخر يتعثّر بسجادةٍ فيقع ويموت، وتجد إنساناً يقول الأطبّاء: لا أمل من شفائه فيشفى.. إذاً هناك خرقٌ لنواميس الكون ولأسباب الكون في كلّ فترةٍ من الفترات حتّى يعلم الإنسان بأنّ الله سبحانه وتعالى هو القاهر فوق عباده.

الآية رقم (17) - وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ

الضّرّ: هو ما يصيب الكائن الحيّ ممّا يُخرجه عن استقامة حياته، في صحته أو في حاله أو ماله أو رزقه أو عطائه، فالآلام منبّهاتٌ للنّعم، فالإنسان صحيحٌ، فإذا مرض تنبّه لنعمةٍ غفل عنها، وعن الشّكر عليها، وهي نعمة الصّحّة، قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النّاس، الصّحّة والفراغ»([1])، الآفات والآلام كلّها منبّهاتٌ للنّعم، لذلك لحظة الكرب يقول الإنسان: يا ربّ، ويلجأ ويفزع إلى الله جلَّ جلاله، الطّبيب لا يشفي، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشّعراء]، أنت مأمورٌ بالعلاج، وبالذّهاب إلى الطّبيب، ولكنّ الشّافي هو ربّ الطّبيب وليس الطّبيب، لذلك تجد الكثيرين من الأطبّاء يؤمنون بالله سبحانه وتعالى من خلال ما يرونه من معجزاتٍ في خلقه، ويعلمون بأنّ الشّفاء ليس بأيديهم، هم يشخّصون المرض ويعطون الدّواء ويقولون: الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، كما قال الشّاعر:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه

 

إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
        حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ

الآية رقم (16) - مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ

﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾: طالما أنّ الإنسان أسلم أمره لله سبحانه وتعالى، وجعل قياد أمره له جلّ وعلا، وجعل طاعة الله سبحانه وتعالى نصب عينيه، فقد رحمه.

﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾؛ لأنّ رحمة الله سبحانه وتعالى قريب من المحسنين، كما قال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: من الآية 56]، الإنسان يذهل من بلاغة القرآن الكريم، بعقلنا البشريّ نعتقد أنّها يجب أن تكون: (قريبةً من المحسنين)؛ لأنّ رحمة مؤنث، لكنّه سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾؛ لأنّه يريد أن يقول لك: بأنّ الله سبحانه وتعالى هو القريب، وهو الرّحيم.

﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾: الفوز الواضح البيّن إذا صُرف عنه العذاب؛ لأنّ الآية الّتي قبلها: ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، من يصرف عنه العذاب يومئذٍ فقد رحمه، أي أنّ الرّحمة وقعت لمن صُرف عنه العذاب، وهذا هو الفوز المبين.

الآية رقم (14) - قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ

﴿أَغَيْرَ﴾: الهمزة هنا همزة إنكار، مثال: أتسبُّ أباك؟! فأنت تُنكر على هذا الإنسان أنّه يسبُّ أباه، فهذه الهمزة استنكارٌ وليست همزة استفهامٍ.

﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾: استنكارٌ وتوبيخٌ ولومٌ، تستنكر أن يتّخذ النّاس وليّاً غير فاطر السّماوات والأرض.

﴿أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾: عندما تقول: وليي الله سبحانه وتعالى، فأنت تجعل أمرك بين يديّ الله جلّ وعلا، فهو سبحانه وتعالى لا يعتريه الأغيار، هو قويٌّ ويبقى قويّاً، وهو حيٌّ ويبقى حيّاً، وهو كريمٌ ويبقى كريماً، وهو قادرٌ ويبقى قادراً، فإن جعلت وليّاً غير الله سبحانه وتعالى قد يكون قويّاً وبعد ذلك يضعُف؛ لأنّه عالم أغيار، قد يكون غنيّاً وبعد ذلك يفتقر، قد يكون موجوداً وقد لا تجده في أيّ وقتٍ، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه بأنّه هو الوليّ، وجعل الإنسان يسلّم أمره له سبحانه وتعالى.

الآية رقم (13) - وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

﴿وَلَهُ﴾: الهاء تعود لله سبحانه وتعالى، اللّيل والنّهار هما ظرفا الزّمان.

﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ﴾: أي له سبحانه وتعالى السّاكن، وكذلك له جلَّ جلاله ما يتحرّك بالكون، فكلّ متحرّكٍ يؤول أمره إلى السّكون؛ لأنّه لا يستطيع أن يبقى متحرّكاً باستمرار، فالإنسان يتحرّك في النّهار ويسكن في اللّيل، فهو لا يعمل أثناء النّوم، وكذلك عقله لا يعمل أثناء النّوم إلّا لسبع ثوانٍ تقريباً، لكن عمليّاً جسده ساكنٌ، فالله سبحانه وتعالى له ما سكن في اللّيل والنّهار، وله ما تحّرك باللّيل والنّهار.

وقد يكون المراد من كلمة: ﴿سَكَنَ﴾: ما حلّ في اللّيل والنّهار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: من الآية 35]، في اللّغة العربيّة: له ما سكن معناه: إمّا توقّف عن الحركة أو حلّ في المكان.