الآية رقم (54) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾: أي يتراجع عن الإسلام، وجواب الشّرط: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ هذا احتياطٌ مناعيٌّ بأنّ الله سبحانه وتعالى أخبر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأنّ هناك من سيتراجع عن الإسلام، وفعلاً حدث ذلك في أيّام الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، كالأسود العنسيّ في اليمن الّذي تراجع عن الإسلام في ذلك الوقت وقُتل، ومسيلمة الكذّاب في عهد الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ارتدّ وادّعى النّبوّة، وقُتل في أيّام أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه، وكذلك طليحة وسجاح في ذلك الوقت، إذاً الله سبحانه وتعالى أعطى احتياطاً مناعيّاً فقال مسبقاً في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾، وهؤلاء المرتدّون لن ينقصوا المؤمنين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يأتي بقومٍ يحبّهم ويحبّونه، طالما أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّهم فمن الطّبيعيّ أنّهم يحبّونه، فهو جلّ وعلا يحبّ التّوّابين, ويحبّ المتطهّرين, إذاً الفعل من قِبَلك والمحبّة من الله تبارك وتعالى على عملك، وحسب العقل البشريّ كان بالإمكان أن تكون الجملة: (يحبّهم الله)، لكنّه قال: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وهذا دليلٌ على إعجاز القرآن الكريم، فبالعلم الكاشف يعلم سبحانه وتعالى بأنّ هؤلاء سيكونون على تقوى وعلى صلاحٍ، وبأنّهم سيحبّون الله عزَّ وجل فيحبّهم الله جلَّ جلاله.

الآية رقم (65) - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ

بشكلٍ عامٍّ الإيمان والتّقوى أمران متلازمان، فلا يكفي أن تقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا تقوم بوظائف الإيمان، فتكون كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات]، والإيمان لم يرد في القرآن الكريم إلّا ومعه العمل الصّالح أو التّقوى، فإن لم يجتمع الإيمان مع التّقوى يعني هذا بأنّ الإيمان غير محقّقٍ، وأنّ الإيمان هو قولٌ باللّسان فقط.

﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾: تكفير السّيئات هو محوها، وكلمة (التّكفير) الّتي ترد في القرآن الكريم ترد بمعنى السّتر، والمعنى هنا: لسترنا عنهم سيّئاتهم.

﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: فكانت نتيجة تكفير السّيئات أن يدخلوا جنّات النّعيم.

الآية رقم (55) - إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ

﴿وَلِيُّكُمُ﴾: الّذي يتولّاكم بالعناية والرّعاية والحفظ.

يكفيك أن يكون المولى سبحانه وتعالى هو من يتولّاك بالرّعاية والعناية، وأن يكون إلى جانبك في أوقات شدّتك ومحنتك.

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ: والصّلاة عماد الدّين، من أقامها فقد أقام الدّين، ومن تركها فقد هدم الدّين؛ لأنّ الصّلاة هي صلةٌ مع الخالق، وخُلُقٌ مع الخَلق، والصّلاة لا تسقط في حالٍ من الأحوال، فمن لم يستطع قائماً فليصلِّ قاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فليصلّ مستلقياً، وإن لم يستطع مستلقياً فليصلِّ بعينيه، ويقول :: «العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفر»([1]).

﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ: إيتاء الزكاة هو ازدياد حركة النّاس من أجل الخير للغير، زدت من مجهودك ليزداد مدخولك، فتزداد حصّة المحتاجين من الزكاة.

﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ: الرّكوع هو الخضوع.

 


(([1] سنن التّرمذيّ: كتاب الإيمان، باب ترك الصّلاة، الحديث رقم (2621).

الآية رقم (66) - وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: يُعبّر عن المال بالأكل، وليس فقط عن الطّعام، فإذاً هو تعبيرٌ عامٌّ وجامعٌ، فعندما يقول:

﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي نزلت عليهم الخيرات من فوقهم, فالماء الّذي ينزل من السّماء هو الّذي ينبت الزّرع وهو الّذي يحيي الضّرع.

﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: أي من الأرض وما تخرج من معادن وذهبٍ ونحاسٍ وبترولٍ ونباتاتٍ, فلو أبقى الإنسانُ الصّلاح على صلاحه وأخذ بما أرسل الله سبحانه وتعالى: ﴿لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ لجاءهم ما يؤدّي إلى استمرار الحياة من خلال ما ينزل من رزقٍ من فوقٍ أو من تحت الأرض، والله سبحانه وتعالى جعل الإنسان يستطيع أن يبقى بلا طعامٍ ثلاثين يوماً، وبلا ماءٍ ثلاثة أيامٍ، وبلا هواءٍ نفساً واحداً، فممكن أن يحتكر البشر الطّعام فتصبر عن الطّعام ثلاثين يوماً، وتصبر عن الماء ثلاثة أيامٍ؛ لذلك هناك من يستطيع أن يحتكر الماء لكنّه أقلّ ممّن يحتكر الطّعام؛ لأنّ الإنسان بحاجة الماء أكثر، أمّا الهواء فلا يستطيع أحدٌ احتكاره إلّا الله سبحانه وتعالى، فلا يستطيع أحدٌ أن يقول: سأمنع عنك الهواء.

﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾: هذا قانون صيانة الاحتمال، فمنهم أمّةٌ مقتصدةٌ أو جماعةٌ مقتصدةٌ، وهم الّذين يسيرون في السّبيل القاصد، أي في السّبيل الّذي يوصل إلى الغاية.

الآية رقم (56) - وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ

من يتولّ الله ورسوله حتماً هو الغالب؛ لأنّ الّذي يتولّاه هو الغالب الّذي لا يُغلب، ولكن المهمّ أن تُبادر أنت، فالفعل الأوّل بيدك، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمّد].

﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ: أي الجماعة الّذين يمثّلون منهج الله سبحانه وتعالى، فالفئة المؤمنة ستنتصر، ولكن هذه ليست قاعدةً، ففي معركة أُحُد كان الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم معهم في المعركة، ولم يحقّق جيش المسلمين الانتصار؛ لأنّهم خالفوا أمر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، فليس معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمّد: من الآية 7ٍ، بأنّ المؤمن لن يتعرّض للابتلاءات والانكسارات، وإنّما يتبعها دائماً النّصر الّذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عندما قال عزَّ وجل: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الرّوم: من الآية 47].

الآية رقم (67) - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾: والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمله أن يبلّغ عن الله سبحانه وتعالى، فعندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

أي استمرّ في التّبليغ مهما عادوك ومهما آذوك ومهما ظلموك ومهما قاتلوك.

﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾: لا يمكن للرّسالة أن تتجزّأ، فنأخذ منها ما نريد ونترك ما لا نريد, وعلّة المسلمين في العالم أنّهم يتعاملون مع القرآن الكريم حسب مصالحهم، يأخذون الإباحة ويدعون الإلزام، فمن المباح أن يتزوّج الرّجل أكثر من امرأة، ولكنّ الإلزام أن يكون هناك عدلٌ وألّا يؤذي زوجته الأولى، فيجب أن يعمل بالإلزام ثمّ يأخذ بالإباحة، والقضيّة نفسها بكلّ الأوامر، فأوّل ما يصبح هناك ميراثٌ يسأل فوراً عن حصّته، وهو مكلّفٌ بالنّفقة على أولاد أخيه فيترك الإلزام ويأخذ الإباحة هذا هو معنى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فيجب أن تكون الرّسالة كاملةً متكاملةً.

الآية رقم (57) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاة اليهود ومشركي قريش أي ألّا تكون العلاقة معهم على حساب القيم والأخلاق التي جاء بها الإسلام.

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: الإيمان يحتاج إلى تقوى، وتحديد معنى التّقوى كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذّاريات]، وكما حدّدها الإمام عليّ كرم الله وجهه هي: (الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والاستعداد ليوم الرّحيل), فيجب أن تعمل بكلّ القيم الأخلاقيّة والضّوابط الإيمانيّة الموجودة حتّى تكون تقيّاً.

الآية رقم (68) - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

لستم على شيء حتّى تقيموا ما جاءكم بالكتب السّماويّة.

﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾: أي كلّ ما نزل إليك من القرآن الكريم يزداد به اليهود كفراً وطغياناً، ويزدادون بأساً وحقداً وحسداً وتآمراً عليك يا محمد.

﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾: أي لا تحزن لأنّهم هم من اختاروا الكفر، فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحزن عليهم؛ لأنّهم لا يهتدون.

الآية رقم (37) - يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ

يتمنّون الخروج من النّار، ولكنّ العذاب مقيمٌ؛ أي لهم إقامةٌ دائمةٌ لا يفارقونها ولا تفارقهم إطلاقاً.

الآية رقم (48) - وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾: الخطاب هنا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

﴿بِالْحَقِّ﴾: والحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر، وطالما أنّه من الحقّ سبحانه وتعالى فهو حقٌّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو حقٌّ، نزل عليه القرآن الكريم.

﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾: إذاً هو مصدّقٌ لما بين يديه من الكتب السّماويّة السّابقة ومهيمناً عليها. والقرآن الكريم هو آخر الكتب السّماويّة، وطالما أنّه آخر الكتب فيجب أن يكون مهيمناً على كلّ ما سبقه لمعالجة كلّ الأدواء الّتي كانت عبر الأزمان، فهو أمينٌ وشاهدٌ وحاكمٌ على كلّ كتابٍ قبله.

﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾: فاحكم يا محمد بين النّاس، عربهم وعجمهم، أميّهم وكتابيّهم بما أنزل الله سبحانه وتعالى إليك في هذا الكتاب العظيم.

الآية رقم (38) - وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

القرآن الكريم عربيٌّ، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف]، وعند الوقوف على هذا النّصّ القرآنيّ نجد أنّ القرآن يخاطب هنا البشريّة كلّها وليس العرب فقط، والعروبة ليست حالةً عنصريّةً كما يقول بنو إسرائيل: إنّهم شعب الله المختار، فاللّغة العربيّة بالنّسبة لنا هي الوعاء الحضاريّ لكلّ الشّعوب الّتي انتمت للإسلام، وهي اللّغة المقدّسة؛ لأنّها الوعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، قال :: «أحبّوا العرب؛ لأنّي عربيّ والقرآن عربيّ وكلام أهل الجنّة عربيّ»([1])، واللّغة العربيّة فيها ميّزاتٌ كثيرةٌ، ومعانٍ كبيرة، نزل بها القرآن الكريم فهي مقدّسةٌ بقداسة كتاب الله عزَّ وجل.

وهنا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا

تقدّم لفظ السّارق عن السّارقة، وأنهى الله تبارك وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ إنّ معظم من يقوم بالسّرقة هم رجالٌ، لذلك قدّم الذّكر على الأنثى، أمّا عندما قدّم الزّانية على الزّاني في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النّور: من الآية 2]؛ فلأنّ كلّ عمليّة زنا تبدأ بالإغراء.

الآية رقم (49) - وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾: وهنا تأكيدٌ لما تقدّم من الأمر بذلك. فقد كان اليهود يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحكاماً مخففةً عن الحكم الشّرعيّ، ويحاولون الاحتيال على ما جاء في التّوراة وتحريفها.

﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾: أي احذر أعداءك اليهود أن يدلّسوا عليك الحقّ، فلا تغترّ بهم، فإنّهم كذبةٌ كفرةٌ خونةٌ.

﴿فَإِن تَوَلَّوْا﴾: عمّا تحكم به بينهم من الحقّ، وخالفوا شرع الله سبحانه وتعالى.

﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾: فاعلم أنّ ذلك كائنٌ عن قدر الله سبحانه وتعالى وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذّنوب السّالفة الّتي اقتضت إضلالهم ونكالهم.

﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾: كثيرٌ من النّاس خارجون عن طاعة ربّهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف]، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: من الآية 116].

الآية رقم (39) - فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾: جاءت هذه الآية بعد الآية المتعلّقة بعقوبة السّرقة، إذ لا بدّ من التّوبة، ولا يمكن للإنسان أن يسرق أو يزني ثمّ يقول: أتوب إلى الله بعدما أرتكب الذّنوب، فالتّوبة الصّحيحة الصّادقة لا تُقبل من الإنسان إلّا بإصلاح ما أفسده، مع النّدم، وعدم مقارعة الإثم مرّةً أخرى، فهي: دعوةٌ متكرّرةٌ لإصلاح ما أفسد والكفّ عن الخطأ، والنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يقول: «كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوّابون»([1])، والخطّاء هو الّذي يُكثر من الخطأ، وهذا من طبيعة بني آدم، وجاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذاً تكثر ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([2])، المهم بالنّسبة للأعمال بالشّريعة الإسلاميّة هو النّيّة، فعند ارتكاب الخطأ لا بدّ من تحقيق العقوبة، ولا بدّ من التّوبة وإصلاح ما أُفسِدَ، فإن كانت التّوبة صادقةً وعاد الإنسان وأخطأ فباب التّوبة مفتوحٌ باستمرارٍ، أمّا التّوبة مع وجود النّيّة بالعودة إلى الخطأ فهذه ليست بتوبة؛ لأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يحتال على علم الله سبحانه وتعالى ولا على قدرته.

﴿وَأَصْلَحَ﴾: لا بدّ من إعادة الشّيء المسروق إلى أصحابه، فإن لم يستطع فعليه أن يؤدّي لصاحبه ثمنه، أو يعدّه كالدّين ويوثّق حقّ صاحبه بعقدٍ، وتوثيق الحقوق أمرٌ ضروريٌّ في الإسلام حتّى لا تضيع. ومن يرتكب جرماً لا يمكن إصلاحه، فعليه التّوبة الصّادقة والنّصوحة لله تبارك وتعالى وعدم مقارعته للإثم، ولكن إن كان فيه ضررٌ على الغير أو ظلمٌ للغير فلا بدّ أن يتحلّل من جريمته وذنبه مع الغير، وعندها يتوب الله جلّ وعلا عليه، وإن لم يحقّق شروط التّوبة فلن يتوب الله عزَّ وجل عليه.

﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: والتّوبة تكون للجاني والرّحمة للمجني عليه.

 


(([1] المستدرك على الصّحيحين: ج 4، ص 272، الحديث رقم (7617).
(([2] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

الآية رقم (50) - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾: هناك فارقٌ بين الجاهل والأمّيّ، فالأمّيّ الّذي لا يعرف تعلّمه فتستقيم الأمور، أمّا الجاهل فهو يعرف قضيّةً مخالفةً للواقع ومخالفة للحقّ ويتشبّث بها، ولا يريد أن يتخلّى عنها مهما بيّنت له الحقّ، فهذا أصعب بكثيرٍ من الأمّيّ؛ لأنّ الأمّيّ يمكن أن تعلّمه وتصلح حاله بالعلم أمّا الجاهل فلا، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، فهم تركوا التّوراة الّتي أنزلها الله سبحانه وتعالى وأخذوا من أحكام الجاهليّة.

الآية رقم (40) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾: هذا استفهامٌ تقريريٌّ، وجوابه أن تقول: بلى، أعلم.

﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: فكلّ ما في الدّنيا هو ملكٌ لله عزَّ وجل.

﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾: قدّم الله عزَّ وجل العذاب على المغفرة، ودوماً تأتي رحمة الله عزَّ وجل ومغفرته قبل عذابه سبحانه وتعالى، ولكن هنا قدّم الله تبارك وتعالى العذاب على المغفرة؛ لأنّ التّعقيب كان على جريمة السّرقة، فعند ارتكاب الجرم يأتي العذاب أوّلاً ومن ثمّ المغفرة، والغاية هنا ليست هي القطع، بل الرّدع عن ارتكاب الجريمة.

﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: مشيئة الله سبحانه وتعالى مطلقةٌ، وهو سبحانه وتعالى قادرٌ على كلّ شيءٍ، وهو تبارك وتعالى قادرٌ على أن يعذّب من يشاء وقادرٌ على أن يغفر لمن يشاء، وكلّ شيءٍ خاضعٌ لملكيّة الله تبارك وتعالى وقدرته وعلمه.

الآية رقم (51) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

سبب النّزول: قيل: نزلت في عبادة بن الصّامت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول; فتبرأ عبادة رضي الله عليه من موالاة اليهود، وتمسّك بها ابن أبيّ وقال: إنّي أخاف أن تدور الدّوائر.

وكان هذا التّحذير الإلهيّ للمنافقين في المدينة المنوّرة الّذين كانت ولايتهم الحقيقيّة لليهود يصطفّون معهم ضدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتّالي فموالاتهم انتماءٌ لليهود وليس للمسلمين.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾: لأنّهم ظلموا فلم يكن لهم هداية معونةٍ من الله سبحانه وتعالى، أمّا هداية الدّلالة فهي لكلّ البشر.

الآية رقم (41) - يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

كلّ الأنبياء خوطبوا بالاسم، إلّا النّبيّ محمد : فقد ذكره الله سبحانه وتعالى بصفته كقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [الأنفال: من الآية 64]، ولم يقل: يا محمد، بينما عند خطاب الأنبياء قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: من الآية 35]، ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: من الآية 46]، ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا﴾ [هود: من الآية 76]، ﴿قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: من الآية 144]، ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: من الآية 55]، ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾]مريم[، ﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: من الآية 12]؛ لأنّ النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو الرّسول الخاتم؛ ولأنّ الرّسالة الّتي جاء بها هي الرّسالة الخالدة إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها، وهذا مقامٌ عظيمٌ لرسول الله : أنّ الله سبحانه وتعالى لا يخاطبه باسمه مباشرةً.

الآية رقم (42) - سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾: أي أنّهم اعتادوا أكلَ الحرام، والسّماع للكذب والتّجسّس والتّحريف للكلام، فإن جاؤوك يا رسول الله فلك الخيار إمّا أن تحكم بينهم أو تعرض عنهم، فإن أعرضت فلن يضرّوك؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى حافظك من النّاس، وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل ولو كانوا أعداءك، والعدل بالنّسبة للإسلام هو الأساس، والله تبارك وتعالى يحبّ التّوّابين ويحبّ المقسطين والمحسنين، ولا يحبّ الظّالمين.

الآية رقم (43) - وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

هذه الآية تتبع الآية السّابقة، فعند قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، فترك المولى سبحانه وتعالى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخيار في أن يحكم بينهم بما في التّوراة، أو أن يُعرض عنهم ولا يُعطي أيّ حكمٍ.

﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾: أي كيف يرضاك حكماً من لم يؤمن بك.

﴿وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾: التّوراة غير المحرّفة التي وردت فيها أوصاف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ﴾: يعرضون بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، فقد كانوا يأتون إلى رسول الله : ليأخذوا بعض الكلام ويحرّفوه عن مواضعه كما جاء في الآيات السّابقة، أو أنّهم يريدون حكماً مخفّفاً لحكم الزّنا أو بعض الأحكام الشّرعيّة الّتي وردت في التّوراة، ويأخذون من رسول الله : ما يحتالون به على شرع الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى يقول في تذييل الآية: ﴿وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ فهم كاذبون وليسوا بمؤمنين؛ لأنّ المؤمن هو الّذي يأخذ بما أنزل الله سبحانه وتعالى ويتّبع ما يحكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول الله جلّ وعلا في القرآن الكريم: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النّساء]، يقسم سبحانه وتعالى بذاته العليّة، وأصعب قضيّة بين النّاس هي الشّجار، ولكن حتّى الشّجار عليهم أن يحكّموك وأن يرضَوا بما حكمتَ به يا محمّد.

الآية رقم (33) - إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: الحرب على الله سبحانه وتعالى هي الاعتداء على سلطته سبحانه وتعالى في التّشريع، وعلى الصّنعة الّتي صنعها والّتي هي الإنسان، فقانون صياغة الصّنعة هو للصّانع، والصّانع هو الخالق، والخالق هو الله تبارك وتعالى، أمّا بالنسبة للحرب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهناك وصفان:

1- في حياته: عندما حاربه أعداؤه.

2- بعد انتقاله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الرّفيق الأعلى، فالحرب هنا هي الحرب على تشريع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومن المعلوم وكما قلنا سابقاً: إنّ الله سبحانه وتعالى منح الرّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم سلطة التّشريع بالنّسبة للأحكام وبيان القرآن الكريم، وقد حصّن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا التّشريع بقوله: «إنّ كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد، من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار»([1])؛ لأنّ كلام الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو تشريعٌ، وهو كلامٌ يوحى، فلا نستطيع أن نفصل الرّسول عليه الصّلاة والسّلام عن الرّسالة، هذا أمرٌ مهمٌّ جدّاً، فالقرآن الكريم يعطي الأحكام الإجماليّة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: من الآية 43]، ولكنّه لم يبيّن ما هي الصّلاة، وما أحكامها، وكيفيّة إقامتها وفرائضها وسننها…، وهذا ماحدّده الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم.