الآية رقم (73) - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

أمر الله سبحانه وتعالى بضرب الميّت القتيل ببعض أعضاء البقرة الّتي ذبحت. ويريد الله سبحانه وتعالى أن يربّينا من خلال القصّة ولا يريد أن يسلّينا. وحين ضربوا الميّت بالبقرة الميّتة قام القتيل وقال: إنّ ابن أخيه هو من قتله، وعاد ومات ثانية، ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: يريكم أموراً خارقة لعلّكم تعقلون، فالقرآن الكريم يخاطب العقل.

وديننا دين العقل والعلم، وهذا تفسير علميّ، والله سبحانه وتعالى لم يطلب منّا إيماناً إجباريّاً، بل يأخذ بعقولنا بالدّليل والبرهان.

الآية رقم (57) - وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

يذكّر الله عزَّوجل بني إسرائيل بنعمه ومننه وأفضاله عليهم، وقد فضّلهم ليس لأنّهم شعب الله المختار كما يزعمون، بل بكثرة ما ابتلوا وبقدر ما تاب عليهم وبكثرة ما أنزل عليهم من الأنبياء عليهم السلام. وقد كانوا مع سيّدنا موسى عليه السَّلام في الصّحراء حيث لا ماء ولا نبات، فظلّل الله سبحانه وتعالى عليهم الغمام ليقيهم من حرارة الشّمس القاسية حيث لم يكن لديهم ما يظلّلهم، فجاء الغمام رحمة من الله عزَّ وجل كما أنزل عليهم المنّ والسّلوى طعاماً يأتيهم من غير جهد منهم.

﴿الْمَنَّ: نوع من الحلوى يشبه النّقط الحمراء تتجمّع عند الفجر على أوراق الشّجر وهو موجود على الأغلب في العراق، ويأتي النّاس في الصّباح الباكر ويفرشون الملاءات البيضاء تحت الشّجر ويهزّون الشّجر فينزل عليها المنّ، وطعمها حلو مثل العسل وهضمها سهل.

أمّا السّلوى: فنوع من الطّيور، يقال: إنّها طائر السّمّان، كانت تتجمّع أمامهم بكثرة فيأخذونها ويذبحونها ويأكلون لحمها.

وهذا الغذاء من الطيّبات كان يأتيهم بكلمة ﴿كُنْ وليس بأمر: افعل، والله سبحانه وتعالى يمنّ علينا غالباً بكلمة افعل: (ازرع، احرث، ابذر…) وهي من عطاء الله أيضاً، أمّا المنّ والسّلوى فقد رزقهم الله سبحانه وتعالى إيّاها بكلمة: ﴿كُنْ﴾، أي ليس مطلوباً منهم أن يفعلوا أيّ شيء للحصول عليها، فيصيبوها دون جهد.

﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: إنّ من يجحد النّعمة لا يظلم الله، بل يظلم نفسه، أنت تظلم غيرك إن أنت جحدت نعمة قدّمها لك، لكنّك لا تظلم الله سبحانه وتعالىإذا جحدت نعمه؛ لأنّ الله عزَّوجل لا يحتاجك، بل أنت الّذي تحتاج الله سبحانه وتعالىفي الدّنيا وفي الآخرة، والإنسان يعيش في عالم أغيار متبدّل، اليوم هو في صحّة وغداً مريض، اليوم هو في غنى وغداً هو فقير، اليوم هو شابّ وغداً في شيخوخة، حيّ اليوم وغداً ميّت، والنّعمة لا تدوم لإنسان فإمّا أن يتركها أو تتركه، وليس هناك حلّ ثالث، وليس هناك إنسان لازمته النّعمة أبداً.

هل تستطيع أن تبقى شابّاً أو حيّاً أو صحيحاً دائماً؟ لا تستطيع، إذن أنت أغيار لا تستطيع أن تظلم الله عزَّوجل مهما جحدت، ولكنّك تظلم نفسك إن عصيت.

الآية رقم (41) - وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ

﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ يقصد من التّوراة، والمقصود هنا هو أن يؤمنوا بالقرآن الكريم الّذي جاء مصدّقاً لكلّ الرّسالات السّماويّة السّابقة.

وقد بشّر بهذه الرّسالة سيّدنا عيسى عليه السَّلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصفّ[. فهم كفروا بكلّ الأنبياء، وكذّبوا كلّ الأنبياء، وخرجوا على كلّ الأنبياء. وموكب الرّسالات هو موكب واحد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشّورى: من الآية 13[، والدّين لا يمكن أن يكون سبباً للتّفرقة؛ لأنّ الدّين واحد، والإله واحد. والله عزَّوجل أراد الرّحمة للنّاس جميعاً، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء[. وأيّة دعوة تحرّض على بقيّة البشر بغضّ النّظر عن انتماءاتهم.. لا أصل لها، لأنّ الدّين دعوة إلى التّكاتف والمحبّة والخير للجميع.

﴿وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: استخدم الخطاب القرآنيّ هنا كلمة: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ؛ لأنّ بني إسرائيل شعب مادّيّ، ولا يفهم إلّا بالخطاب المادّيّ كالبيع والشّراء، فقرّب الفكرة إلى أذهانهم من الجانب الّذي يفهمونه، والدّنيا كلّها ثمن قليل لمخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الإنسان ابن أغيار، لا يستمرّ على حال واحدة، فاليوم صحيح وغداً مريض، واليوم حيّ وغداً ميّت، والدّنيا زائلة، ومهما كان الثّمن فهو قليل إلى جانب النّعيم الخالد والدّائم في الآخرة، وعمر الإنسان كلّه قليل بالنّسبة إلى الخلود في الآخرة، فمن يغامر بهذه التّجارة الخاسرة وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ]الصفّ[. والتّجارة الرّابحة هي التّجارة الّتي تبني فيها لتزداد، وتزرع لتحصد، ولا تبني لتفنى، وفي الدّنيا أنت تبني للفناء أنت ومالك، وكان سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه يقول: (نعم الخادم المال، وبئس السيّد المال)، فلا تصبح خادماً للمال، وهو الّذي يجب أن يخدمك.

﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: وهنا أيضاً قدّم المفعول به؛ لأنّ التّقوى لا تكون إلّا لله عزَّوجل. والتّقوى هي جوامع كلّ خير. وعبّر سيّدنا عليّ عن التّقوى بقوله: (التّقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والرّضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرّحيل).

وعندما نقول: اتّق الله، أي اتّق صفات الجلال من الله، واتّق صفات غضب الله كي لا تدخل النّار، وكي تكون من السّعداء الفائزين.

الآية رقم (72) - وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ

كان في بني إسرائيل رجل غنيّ ليس له أولاد يرثونه، وله ابن أخ، فجاء في اللّيل وقتله من أجل المال من غير أن يراه أحد، وحمل جثّته إلى قرية أخرى، ووضعها أمام بيت من بيوت القرية الثّانية، ليلصق تهمة قتله بأصحاب البيت، أو بأهل القرية جميعاً، فيدفعوا ديّته بحسب العرف السّائد في ذلك الوقت، أو يأتي أربعون رجلاً منهم فيحلفون بأنّهم لم يقتلوه، فنفى أهل القرية الأمر، وصار كلّ طرف ينفي التّهمة عن نفسه: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَاوكبر الخلاف بين القريتين فلجؤوا إلى سيّدنا موسى كي يسأل ربّه عن القاتل، فقال لهم: بأن يذبحوا بقرة. وهناك قصّة إيمانيّة أخرى، وهي أنّ رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان يملك بقرة صغيرة، وليس له إلّا ولد صغير، وزوجته ضعيفة، وأراد أن يترك هذه البقرة لولده، فقالت له زوجه: كيف يرعاها ويعتني بها وهو ما يزال صغيراً؟ فقال لها: سأتوكّل على الله وأستودعها عنده وأتركها، وحين يكبر ابني قولي له: بأن يتوكّل على الله ويستردّها. وهكذا أطلق البقرة في المراعي متوكّلاً على الله، فلمّا كبر الولد بعد عشرين سنة قالت له أمّه: حان الوقت كي تسترجع البقرة الّتي تركها لك أبوك، قال: وكيف أسترجعها، وأين أجدها؟! قالت: أبوك توكّل على الله واستودعها عنده، وأنت توكّل على الله واسترجعها. فقال: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ردّ إليّ ما استودعه أبي، فهداه الله سبحانه وتعالى إليها، وكانت لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك صفراء فاقع لونها، تنطبق عليها المواصفات الّتي ذكرها الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل، وذلك ببركة صلاح والده، فصلاح الآباء يسري إلى الأبناء وينتفعون به، فاشتراها القوم منه بقدر وزنها ذهباً؛ لأنّ حاجتهم إليها شديدة، وليس هناك بقرة أخرى بهذه المواصفات.

الآية رقم (56) - ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

أخذت الصّاعقة شعب بني إسرائيل فماتوا، ثمّ بعثهم الله سبحانه وتعالى من بعد موتهم. أمّا سيّدنا موسى عليه السَّلام فلم يمت، بل أغمي عليه من شدّة تجليّات الله سبحانه وتعالى على الجبل، ثمّ أفاق، ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ  ]الأعراف: من الآية 143[، وقد تاب من طلب ذلك مرّة أخرى.

وكانت المعجزات الحسّيّة تتكرّر في زمانهم، وكان الله سبحانه وتعالى يميت أمامهم أناساً ويحييهم كي يثبت لهم البعث بمثالٍ ملموسٍ، ونجد ذلك في أمثلة عديدة مثل قصّة الّذي ﴿مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ] البقرة: من الآية 259[، والأرجح أنّه عُزير، وكذلك سيّدنا عيسى عليه السَّلام كان يحيي الموتى بإذن الله، أي بأمر ﴿كُنْ  الإلهيّة. وهكذا بعث الله سبحانه وتعالى شعب بني إسرائيل من بعد موتهم بطلب وإلحاح من سيّدنا موسى عليه السَّلام الّذي كان يخشى انقطاع نسلهم إذا ماتوا جميعاً.

الآية رقم (40) - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنّه أنزل آدم وحوّاء إلى الأرض بعد هبوطهما من جنّة التّجربة، وزوّدهما بالتّجربة العمليّة من خلال الشّجرة الّتي نهاهما عنها، وأزلّهما الشّيطان فأخرجهما ممّا كانا فيه، وبيّن الله سبحانه وتعالى لهما أنّ إبليس عدوّ لهما ولأولادهما، وطمأنهما بأنّه جلَّ جلاله سيرسل لهم الرّسالات هدايةً ودلالة على الطّريق المستقيم المؤدّي إلى الجنّة الّتي سيخلّدون فيها. فمن تبع طريق الهدى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وفجأة وبعد هذه المشاهد (مشاهد آدم وزوجه وهبوطهما إلى الأرض) انتقلت الآيات مباشرة إلى خطاب شعب بني إسرائيل متجاوزة جميع الأنبياء والأمم الّتي سبقت بني إسرائيل. وهذا من إعجاز القرآن وعظمته، فقد أراد الله سبحانه وتعالى من موكب الرّسالات أن يعطي أمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم أبلغ درس، بالإضافة إلى العداوة الّتي سيجدونها من بني إسرائيل مثل عداوة إبليس لبني آدم.

وبنو بني إسرائيل تتوزّع قصصهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم لما فيها من العبر البليغة، وسنجد في قصصهم البغي، والفساد، وسفك الدّماء، وحبّ المال، وأكل الرّبا، والحسد، وتحريف الكلم عن مواضعه، والأمراض المختلفة، والجحود.. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يعطي الدّروس والعبر لأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم من خلال مثال هذا الشّعب. ومن أمّة بني إسرائيل ستكون العداوة والفساد، وقد بنوا دولتهم العنصريّة متستّرين باسم نبيّ الله (يعقوب) عليه السَّلام فسمّوها: (إسرائيل)، وهو منهم بريء، هذه الدّولة الظّالمة الّتي تبثّ أحقادها وسمومها على الأمّة الإسلاميّة، وتستولي على المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين. وفي تاريخنا الإسلاميّ، ومنذ خيبر وحتّى يومنا هذا نرى أصابعهم خلف كلّ بلاء يُصيب أمّتنا، ونرى أيديهم في كلّ الأحداث الّتي نواجهها، فهم الدّاء على وجه هذه الأرض.

ولذلك حين أراد الله سبحانه وتعالى أن يعطينا مثالاً عن موضوع الرّسالات، ضرب المثل ببني إسرائيل، فمن هو إسرائيل؟ ولماذا قال الله تبارك وتعالى ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟ إِسْرَائِيلَ هو يعقوب عليه السَّلام ومعنى اسمه في العبريّة عبد الله المصطفى، (إسرا): تعني العبد المصطفى، و(ئيل): تعني الرّبّ والإله.

ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام.

وقد رُزق إبراهيم عليه السَّلام بولدين:

– إسماعيل عليه السَّلام وكان من نسله نبيّ العرب محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم

– وإسحاق عليه السَّلام: وابنه يعقوب عليه السَّلام، ومن نسله يوسف والأسباط، ومن نسلهم موسى وهارون وداود وسليمان وعيسى وزكريّا ويحيى عليهم السَّلام.

فلماذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟ فحين يُخاطب الله النّاس جميعاً يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وحين يفرض تكليفاً على المؤمنين يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواوحين يقول سبحانه وتعالى: ﴿يا بَني آدَمَ يذكّرنا بتوبة سيّدنا آدم عليهم السَّلام، وبنعمة الله عليه في التّوبة، وجعل باب التّوبة مفتوحاً لنا، كي تستقرّ المجتمعات وتصلح الحياة، فالمجرم إذا أغلقت أمامه أبواب التّوبة فإنّه يمعن في إجرامه، ويزداد إجراماً، فشرّع الله سبحانه وتعالى التّوبة لتعود العباد إلى جادّة الحقّ والصّلاح. وحين يقول: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يذكّر بني إسرائيل بوصيّة أبيهم يعقوب عليه السَّلام الّذي فارق الدّنيا وهو يوصي أبناءه بلزوم الدّين القويم: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة[، وأصدق ما يكون الإنسان في وصيّته حين يكون قريباً من نهاية حياته على فراش الموت، فهو يقدّم خلاصة تجاربه، ويكون صادقاً مخلصاً؛ لأنّه مقبلٌ على ربّه وعلى الدّار الآخرة، فلا يتلفّظ إلّا بأصدق وأبلغ وأدقّ العبارات.

وكانت وصيّة يعقوب لأبنائه هي التّمسّك بالإسلام: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: من الآية 132[.

فإذاً يريد الله سبحانه وتعالى في خطابه لبني إسرائيل أن يذكّرهم بهذا النّبيّ الجليل الّذي هو والد يوسف عليه السَّلام, وقد اتّخذوه شعاراً لدولتهم العنصريّة الإرهابيّة المجرمة، وستاراً لإجرامهم وفسادهم كما يفعل الإرهابيّون الّذين يتّخذون الإسلام شعاراً لهم، والإسلام بريء منهم، وهؤلاء لا إسلاميّون؛ لأنّ الإسلام دين الاعتدال والوسطيّة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ]البقرة: من الآية 143[، والمتطرّفون أعداء الإسلام، كما أنّ اليهود اليوم بتطرّفهم وعنصريّتهم وعدوانيّتهم أعداء يعقوب عليه السَّلام.

ويُخاطب الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل فيذكّرهم بأبيهم يعقوب، كما يذكّرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم. وتأتي المخاطبات الإلهيّة لهذا الشّعب بما يهوى ويحبّ، فبنو إسرائيل شعب مادّيّ، يحبّ النّعم، فيذكّرهم الله سبحانه وتعالى بالنّعم قبل المنعم، فيقول لهم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.

أمّا حين يخاطبنا نحن فإنّه يذكّرنا بالمنعم قبل النّعم، فيقول لنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا  ]الأحزاب[. وهناك فارق كبير بين أن تذكر النّعمة لأنّك متعلّق بها، وبين أن تذكر المنعم لأنّك متعلّق به، وذكر الله دواء، وذكر غيره داء، وقد جاء في الحديث القدسيّ الّذي رواه مسلم أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنّ الله عزَّوجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا ربّ، كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده…»([1])، وهذه تسلية للمريض؛ لأنّ من فقد نعمة الصّحّة يرقّ قلبه فيعيش مع المنعم، ونحن نتعلّق بالمنعم وهو الله سبحانه وتعالى، ونذكر الله سبحانه وتعالى قبل ذكر النّعمة. فما هي النّعمة؟ قد تأتي النّعمة في صيغة المفرد، وتكون مخبوءة بنعم كثيرة: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ]إبراهيم: من الآية 34[، مثل الماء: فهو نعمة أيّما نعمة، وبه ترتبط كلّ النّعم، من إحياء الأرض، وإنباتها، وإخراج الثّمر، وسقاية الظّامئين.. فما هي النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؟ هي نعمٌ كثيرة ومتعدّدة، وأهمّها وأعظمها كثرة الأنبياء المرسلين إليهم، وهم احتاجوا إلى هذا العدد الكبير من الأنبياء ليس لأنّهم أعظم شعب، ولا لأنّهم شعب الله المختار، ولكن لاستعصاء أمراضهم، وكثرة ذنوبهم، وليست كثرة الأنبياء والمرسلين فيهم مزية لهم. إنّ كثرة الأدواء تستدعي كثرة الدّواء، وهذا الكمّ الهائل من الأنبياء يُشبه حالة المريض الّذي استعصى مرضه، فجاؤوا له بمجموعة من الأطبّاء.

﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ: العهد الّذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليهم في التّوراة هو أن يتّبعوا سيّدنا محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم الّذي ذكر عندهم في كتابهم، كما أخبر سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] البقرة[، وقد سأل سيّدنا عمر رضي الله عنه عبد الله بن سلام -وهو من علماء أهل الكتاب، وقد أسلم-: أتعرف محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم كما تعرف ولدك؟ قال ابن سلام: نعم، وأكثر. فهذا العهد موجود في التّوراة.

وقد يكون العهد هو عهد الفطرة الأوّل، الّذي أخذه الله على سيّدنا آدم عليه السَّلام يوم أن كانت ذريّته في صلبه، وكلّ مولود يولد على الفطرة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا [الأعراف: من الآية 172[. وقوله سبحانه وتعالى﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْيعني أنّ الأمر بيدنا دائماً، فيقول لنا تبارك وتعالى في كتابه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ]البقرة[، ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ] محمّد: من الآية 7[، وفي الحديث القدسيّ: قال رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: «يقول الله عزَّوجل من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيّئة فجزاؤه سيّئة مثلها أو أغفر، ومن تقرّب منّي شبراً تقرّبت منه ذراعاً، ومن تقرّب منّي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بِقُرابِ الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة»([2]). وفي هذه الآية يقول سبحانه وتعالى لبني إسرائيل: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ  ويكون ثوابكم الجنّة، أي آمنوا بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم واتّبعوه واتّبعوا النّور الّذي أُنزل معه، ولو كان نبيّكم موسى حيّاً زمن بعثة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ما وسعه إلّا أن يتّبعه. وقد كان اليهود في المدينة وفي شبه جزيرة العرب في زمن تنزيل القرآن الكريم، وكانوا أشدّ النّاس عداءً للإسلام والمسلمين، وكانوا سبب الفتن والمؤامرات والأذى وكلّ ما لحق بالمسلمين عبر عصور التّاريخ.. وهم الّذين ألّبوا الأحزاب في غزوة الخندق.. ونقضوا العهود مع رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، كما فعل بنو قينقاع والنّضير وقريظة.. وفي خيبر.. وغيرها، حتّى وصلنا إلى يومنا هذا.. ابحثوا عن الفتن والتّحريض والزّيف والإجرام في أحداث التّاريخ كلّها تجدوا وراءها بني إسرائيل، وها هي دولتهم اليوم تنظر إلى العرب والمسلمين على أنّهم العدوّ الأوّل لها.

﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ : قدّم المفعول به على الفعل للحصر، أي لا ترهبوا غيري؛ وإظهاراً لأهميّة المتقدّم وهو الله جلَّ جلاله.

والرّهبة هي الخوف، والخوف لا يكون إلّا من الله عزَّ وجل، والإنسان في حياته يخاف ممّا يتوقّع، ويحزن على ما وقع، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ولا يجتمع في قلب العبد مخافتان، فإمّا أن يخاف الله، وإمّا أن يخاف من خلق الله. فإذا أنت خفت من الله سبحانه وتعالى خافك كلّ شيء، وإذا خفت من البشر خفت من كلّ شيء.


(([1] صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب فضل عِيادة المريض، الحديث رقم (2569).

(([2] صحيح مسلم: كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب فضل الذّكر والدّعاء والتّقرب، الحديث رقم (2687).

الآية رقم (71) - قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ

﴿لا ذَلُولٌ: غير مروّضة، وغير ممرّنة، لا تستخدم في الحرث ولا في السّقاية ولا في الزّراعة، وليس فيها أيّ عيب أو نقص، حسنة المظهر، ليس فيها عضو ناقص، فأعطاهم الله سبحانه وتعالىمواصفات لا يمكن أن يجدوها بسهولة، وقد لا تجتمع إلّا في بقرةٍ واحدة في المنطقة كلّها، ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ.

وقد جاءهم بالحقّ من المرّة الأولى وهم يعلمون أنّه نبيّ يأتيهم بالحقّ من عند الله عزَّ وجل وكلّما سألوا ازدادت الشّروط، وصار من الصّعب إيجادها، وأخيراً وجدوها ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ: يعني في حالةٍ من التّردّد، وهذا طبع شعب بني إسرائيل، يفاوضون ويريدون ولا يريدون، يوقّعون على اتّفاقيّة أو لا يوقّعون، وهذا حالهم حتّى يومنا هذا، والمراوغة طبع لهم، وهذا الوصف يدلّ على دقّة التّعبير القرآنيّ في وصف طباع بني إسرائيل.

الآية رقم (55) - وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ

بعد كلّ تلك المنن والنّعم من الله عزَّوجل، وبعد أن تاب الله عليهم قالوا لسيّدنا موسى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وهذه هي النّظرة المادّيّة لبني إسرائيل. ومن عظمة الله سبحانه وتعالى أنّه غيب: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ  ]الأنعام[، ولا يكون الإيمان بالمشاهدة الحسّيّة، ولا يسمّى إيماناً ما كان بالأشياء الحسيّة، فنحن لا نؤمن بالموجود المحسوس، فمثلاً لا أقول: أنا أؤمن بوجود هذا القلم الّذي في يدي، فهذه حقيقة، ولكن لو قيل لي: إنّ هناك قلماً خارج هذا المكان، فقد أومن بذلك وإن كان غائباً عن حواسّي إذا لمست وشاهدت كتابات وأنا في طريقي إلى هنا ولمست نتائج معيّنة تدلّ عليه، ولله المثل الأعلى، فهذه الأمثلة لتقريب الفكرة إلى الأذهان. فالإيمان لا يكون بشيء موجود أمامي فهذا شيء موجود بالعلم، أمّا الإيمان فإنّه يكون بما غاب عن حواسّي.

والله سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ]الذّاريات[، والآيات الدّالّة عليه كثيرة، ومنها هذه الرّوح الّتي لا ندركها ولا نراها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي  ]الإسراء: من الآية 85[،  وهناك كثير من الموجودات لا نراها ولا ندركها، وهذا لا يعني أنّها ليست موجودة، ففي الجوّ من حولنا جراثيم كثيرة لا نراها لكنّها موجودة ونلمس آثارها ويمكن رؤيتها بالمجاهر.. وهم يريدون الإله شيئاً مجسّداً أمامهم يرونه بالعين، فطلبوا رؤية الله سبحانه وتعالىجهرة بشكلٍ واضح ومحسوس، فقال عزَّوجل: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، وقد يقول قائل: إنّ سيّدنا موسى عليه السَّلام أيضاً طلب رؤية الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ]الأعراف: من الآية 143[، فما الفارق بين طلبه وطلب بني إسرائيل؟ والجواب: هو أنّ موسى عليه السَّلام قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ، فطلب الرّؤية من الله سبحانه وتعالى، هو يؤمن به، ولم يجعل الرّؤية شرطاً على الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ولا تمكن رؤية الله سبحانه وتعالى في الدّنيا؛ لأنّ جسد الإنسان وحواسّه لها إدراكات محدودة تحكمها. واستعدادات الجسد في الدّنيا تختلف عن مقاييس رؤيته في الآخرة، وقد قال سبحانه وتعالى في وصف أهل الجنّة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ]القيامة[.

وقد اخترع الإنسان آلاتٍ تريه ما لا تراه العين المجرّدة، فالنّظارات يستخدمها إذا ضعف بصره فيرى من خلالها بشكل جيّد، والله سبحانه وتعالى قادر على كلّ شيء، وكان يستطيع أن يُري وجهه الكريم لسيّدنا موسى، لكنّه أراد سبحانه وتعالى أن يؤدّب موسى عليه السَّلام فقال له: ﴿لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ]الأعراف: من الآية 143[.

﴿لَن تَرَانِي: فلا تطلب رؤيتي، ولكن انظر إلى أثري: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ]الأعراف: من الآية 143[، فلم يستقرّ الجبل، وبمجرّد تجليّات الله على الجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً.

أمّا بنو إسرائيل فقد قالوا: ﴿يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وسيّدنا موسى عليه السَّلام لم ينكر الإيمان بالله سبحانه وتعالى عندما قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ]الأعراف: من الآية 143[، إذ هو يؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى، وبسبب محبّته لله تعالى أراد أن يكرم نفسه، وقد أكرمه الله سبحانه وتعالىب أن جعله كليماً له، فأراد الرّؤية، وطلب ذلك في تأدّب كبير وكان دقيقاً في طلبه: (أي إن تفضّلت أنت يا ربّ) ولم يقل مثلاً: اجعلني أنظر، فهو يعلم أنّ الرّؤية لا تكون إلّا من الله سبحانه وتعالى وبكلمة ﴿ كُنْ ، لكنّ الأمر قد حسم فلا أحد يرى الله عزَّوجل في هذه الدّنيا ولا حتّى الأنبياء عليهم السلام

الآية رقم (39) - وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

وسيكون هناك فريقان في الآخرة: فريقٌ في الجنّة: وهم المهتدون الّذين يتّبعون هدي الأنبياء والمرسلين، وما يأتون به من كتب سماويّة. وفريقٌ في النّار: وهم الّذين كفروا وكذّبوا بآيات الله سبحانه وتعالى. فهناك ثواب وعقاب بناءً على ما جاء من أوامرَ ونواهٍ.

وفي قانون البشر لا بدّ من رادع من العقوبات، كي يمنع النّاس من ارتكاب المحظورات، فالمختلس يُسجن، والمتأخّر عن دوامه يُقتطع جزء من راتبه، والمتغيّب يُفصَل… وهكذا.

كذلك الله عزَّوجل قد وضع العقوبات على المخالفات، وما دامت هناك عقوبة، فهناك: (افعل ولا تفعل)، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. الآية هي المعجزة، وكلّ آية من آيات القرآن معجزة. وهناك آيات علميّة، وآيات تدلّ على الله عزَّوجل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ  ]آل عمران[، فالآية تُطلق على الأمر العجيب، كما أخبر الله تبارك وتعالى عمّا جرى بين موسى عليه السَّلام وفرعون: ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ]الأعراف[. وتُطلق على آيات القرآن الكريم.

وقد أنذر الله سبحانه وتعالى من يكذّب بآياته، ولا يسير على منهجه، بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون.

الآية رقم (70) - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ

والله عزَّوجل يعطينا لمحات عن طباع بني إسرائيل الّذين شدّدوا في المماطلة، فأعطاهم الله سبحانه وتعالى مواصفات لم تكن لتنطبق إلّا على بقرةٍ واحدة.

الآية رقم (54) - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وهذه لقطات من القصص القرآنيّ الّذي شغل في القرآن الكريم قسماً كبيراً يزيد على ثلاثة أرباعه. هذه القصص يوردها الله جلَّ جلاله لتثبيت قلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ  ]هود[، ولاستخراج العبر التّاريخيّة والاجتماعيّة والقوانين الاقتصاديّة، وما يتعلّق  بحركة الإنسان في الحياة، وتلك هي القصص الحقّ. وبعد أن قصّ علينا القرآن الكريم قصّة سيّدنا آدم أبي البشر وزوجه في سورة (البقرة)، ونزول موكب الرّسالات السّماويّة على الأرض، انتقل إلى قصص سيّدنا موسى عليه السَّلام مع بني إسرائيل؛ لأنّهم أكثر الشّعوب جحوداً  للنّعم وإفساداً في الأرض وسفكاً للدّماء، ولأنّ أمراضهم دائمة متكرّرة عبر الزّمان. ومن إعجاز القرآن الكريم أنّه يركّز على شيخ أنبياء بني إسرائيل (موسى عليه السَّلام) وعلى أمّته؛ لأنّه ستكون هناك قضيّة كبرى في قادم الأيّام لأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم مع بني إسرائيل، وهذا ما نراه اليوم من انتهاكات لحرمة المسجد الأقصى واحتلالهم لقلب الأمّة العربيّة (فلسطين).

وهذه مشاهد يقدّمها الله سبحانه وتعالى لنا عن ممارسات بني إسرائيل مع نبيّهم موسى عليه السَّلام وتبدأ بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ.

﴿وَإِذْ: ظرف زمان، وكلّ حدث يحتاج إلى مكان وزمان يحدث فيه، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْيعني: واذكروا في وقت كذا حدث كذا… والخطاب لبني إسرائيل الّذين عاصروا تنزيل القرآن الكريم في جزيرة العرب. ويخاطب الله سبحانه وتعالى الأجيال التّالية كلّها من خلال خطاب الآباء زمن التّنزيل للقرآن، فالعبرة بعموم المعنى وليس بخصوص السّبب، وكلام الله يستوعب الزّمان والمكان والأجناس والإنسان على مختلف انتمائه وفكره، فبعد أن أنعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ونجّاهم من عذاب فرعون وأنجاهم من الغرق، طلبوا إلهاً ماديّاً مجسّماً. والإلحاد في العالم نشأ من التّفكير اليهوديّ، فهم يريدون إلهاً مادّياً محسوساً، يرونه بأعينهم، ويلمسونه بأيديهم، وحين غاب عنهم سيّدنا موسى لتلقّي التّوراة من ربّه وترك فيهم أخاه هارون عليه السَّلام عبدوا العجل، فقال لهم سيّدنا موسى عليه السَّلام: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم؛ لأنّ الإنسان حين لا يعبد الله لا يظلم الله، بل يظلم نفسه، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لعبادة البشر، بل يطلب العبادة من البشر كي يعطي البشر؛ لأنّك حين تعبد الله فإنّك لا تعبد غيره، فقمّة الحريّة وكرامة الإنسان تكون بالعبوديّة لله وحده، كي لا يستعبده إنسان، “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!”، وقمّة الحريّة وكرامة الإنسان أن يكون إيمانه بأنّ الضّارّ والنّافع والمعطي والمانع والمحيي والمميت هو الله سبحانه وتعالى، وأنّ مالك الملك هو الله عزَّوجل وليس أحد يساويه من البشر. وقد ألحّ سيّدنا موسى عليه السَّلام على ربّه بالدّعاء ليقبل منهم التّوبة مع أنّ معصيتهم كانت كبيرة، مثل معصية إبليس الّذي جادل ربّه قائلاً: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ]الأعراف[ أمّا معصية آدم عليه السَّلام فلم تكن استكباراً؛ لأنّه لم يردّ الأمر على الآمر، بل عصى الله بضعفه ثمّ تاب، فشرع الله سبحانه وتعالى التّوبة لبني آدم عليه السَّلام أمّا بنو إسرائيل فإنّهم عصوا باستكبارهم حين عبدوا العجل الّذي صاغوه من الحليّ، فقال لهم سيّدنا موسى عليه السَّلام:﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ، والبارئ: يعني الخالق للخلق على غير مثال سبق، وبرا السّهم: يعني دقّق صنعه ونحته وسوّاه، وذلك مثل التّسوية بدقّة: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ]الحجر[.

وقد قال موسى لقومه: ﴿فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ، أي إلى خالقكم. وشرع لهم الكفّارة وهي أن يقتلوا أنفسهم كي تُقبل التّوبة منهم، وذلك بأن يقتل من لم يعبد العجل الّذي عبد العجل، ولم يطلب منهم الانتحار، وهذه كفّارتهم، فإذا فعلوا ذلك تاب عليهم ولا يُدخلهم النّار، فتاب الله عليهم برحمته وليس بأفعالهم. فالإنسان يدخل الجنّة برحمة الله وليس بعمله، جاء في الحديث: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة وفضل»([1])، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ]النّجم[،  فالإنسان يحاسب على عمله، ولو لم يضع الله سبحانه وتعالى لنا الجنّة ثواباً للعمل الصّالح فإنّنا لا نستطيع إجباره، فبمجرّد أن جعل الله جلَّ جلاله الجنّة ثواباً للعمل الصّالح فهذا يعني أنّ الدّخول إلى الجنّة لا يكون إلّا برحمته سبحانه وتعالى، صحيح أنّ دخول الجنّة يكون بناء على العمل، لكن من رحمته تعالى أنّه جعل ثواب العمل الجنّة، ومن رحمته شرع لنا التّوبة من المعاصي، والإنسان حين يرتكب معصية لا بدّ من أن يكون هناك تشريع للتّوبة كي يتوب إلى الله عزَّوجل.

وهكذا أنعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل فشرع لهم التّوبة وحدّد لهم الكفّارة وقَبِل منهم التّوبة، فتاب عليهم، إنّه هو التّواب الرّحيم.

وهذه القصص لم يراعَ فيها التّسلسل الزّمنيّ، وإنّما هي مقاطع ومشاهد يلقي الله عزَّوجل للأمم والبشر من خلالها الضّوء على ممارساتِ بني إسرائيل وخروجهم عن الإيمان وعن النّعم الّتي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليهم.


([1]) مسند أحمد بن حنبل: مسند أبي هريرة رضي الله عنه الحديث رقم (7473).

الآية رقم (69) - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

لم يلزمهم الله سبحانه وتعالى بلون معيّن لها في بادئ الأمر، لكنّهم يشدّدون على أنفسهم، فأعطاهم مقاييس معيّنة لبقرة معيّنة.

﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾: صفرة شديدة، ولو وجدوها وذبحوها لانتهى الأمر، لكنّهم عادوا فقالوا:

الآية رقم (53) - وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

يذكّر الله شعب بني إسرائيل بمعجزة الكتاب الّذي هو التّوراة، والفرقان هو ما ورد في التّوراة للتّفريق بين الحقّ والباطل، من هنا سمّيت معركة بدر بالفرقان؛ لأنّها فرّقت بين الحقّ والباطل.

فهل كان ردّ بني إسرائيل على كلّ هذه النّعم إيماناً وعبادة وتصديقاً لما جاء به نبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وهم كانوا يعلمون أنّ ما جاء به هو الحقّ، ولكنّهم حادوا عن ذلك الحقّ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى لهم وصف نبيّه محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في التّوراة، لكنّهم جحدوا به.

والله عزَّوجل ينزل الكتب على الرّسل لإصلاح المجتمع وهداية البشريّة وسعادتها في الدّنيا قبل الآخرة، فالمناهج ينزلها الله سبحانه وتعالى لإصلاح الدّنيا والسّعادة والنّجاة في الآخرة، وفيها سعادة الإنسان في الدّنيا والآخرة، والدّين لا يطلب إلّا العطاء والخير والسّعادة للنّاس أجمعين.

الآية رقم (68) - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ

﴿لا فَارِضٌ:  غير مسنّة.

﴿وَلاَ بِكْرٌ:  والبكر هي الصّغيرة.

﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ: وسط بين ذلك.

وكان من الممكن أن يجدوها ويذبحوها وينتهي الأمر، لكنّهم عادوا فقالوا:

الآية رقم (52) - ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

ومرّة أخرى ارتكبوا ذنوباً عظيمة، وعفا الله عنهم؛ لأنّ الله عزَّوجل يريد أن يستبقي عنصر الخير في البشر، وفتح لهم باب التّوبة، فتابوا وعصوا ثمّ تابوا وعصوا. وكلّ الذّنوب الموبقة تحتاج إلى التّوبة؛ لأنّ في التّوبة دعوة للكفّ عن الخطأ، ودعوة متكرّرة إلى الإصلاح وترك المعاصي الّتي تؤدّي إلى الشّرور في أيّ مجتمع من المجتمعات، كالسّرقة وأخذ حقّ الغير والقتل والزّنا… وكلّ الشّرور الّتي تؤذي النّاس، والتّوبة مفتاح لإصلاح المجتمع، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ   ]هود: من الآية 114[، وهذا أمر عظيم جدّاً، فلا يكتفي المؤمن بالتّوبة، بل يفعل الحسنات ليكفّر عن سيّئاته. كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم  «وأتبع السّيئة الحسنة تمحها»([1])..

ويسعد المجتمع بك إن رجعت عن الخطأ، فإن أنت بقيت على ذنبك شقيت وشقي مجتمعك بك. وكما نهاك الله عن سرقة مال الغير فقد نهى الآخرين عن أخذ مالك، فالمنهج الإلهيّ دائماً هو لإسعاد البشر، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ  ]الزّمر: من الآية 53[، وقد فتح الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل باب التّوبة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولم يقل: (لعلّكم تجحدون).

فبالشّكر استبقاء النّعم بل وزيادة فيها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ  ]إبراهيم: من الآية 7[، وقد قال سيّدنا عيسى عليه السَّلام لربّه سبحانه وتعالى: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ]المائدة[،  وقال: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ لأنّ الله عزَّوجل غنيّ عنّ عذاب خلقه، ولكنّه فتح باب التّوبة لكي يشكروا لا ليجحدوا.


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب البرّ والصّلة، باب معاشرة النّاس، الحديث رقم (1987).

الآية رقم (67) - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

سمّيت سورة (البقرة) بهذا الاسم لورود قصّة البقرة فيها، وهي قصّة حدثت في بني إسرائيل زمن سيّدنا موسى عليه السَّلام لتثبيت قضيّة هامّة من قضايا الإيمان وهي البعث. والإيمان بالبعث هو أهمّ شرط من شروط الإيمان بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأهمّ عنصر من عناصره، أن تؤمن باليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، وكلّ النّاس يرون الموت لكنّهم لا يرون البعث، فهو غيب مستور مثله مثل كلّ عناصر الإيمان، من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشرّه. والرّسل قد يراهم أهل زمانهم، لكنّهم لم يُرَوا والوحي يتنزّل عليهم، ونحن نرى الكتب السّماويّة بين أيدينا، ولكننا لم نرها وهي تتنزّل، فالإيمان بالنّبوّات وبالكتب السّماويّة غيب أيضاً. والإيمان قضيّة اعتقاديّة بالمغيَّب عن الإنسان ومحلّه القلب. وهناك قصص أخرى في القرآن تؤكّد قضيّة البعث للنّاس مثل قصّة الّذي: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ]البقرة: من الآية 259[،  وكان سيّدنا عيسى عليه السَّلام -وقد بعث في بني إسرائيل- يحيي الموتى بإذن الله. وهذه القضيّة تتعلّق بالبعث بعد الموت، وقد أراهم الله سبحانه وتعالىكيف يحيي الموتى ليؤمنوا بالبعث.

وهناك فارق كبير بين القصص البشريّ والقصص القرآنيّ، ففي القصّة البشريّة نورد الأحداث كما جرت، أمّا القصّة القرآنيّة فتعطينا لقطات معيّنة لمقصد معيّن بهدف التّربية الإيمانيّة. فالقصص القرآنيّ هو أحسن القصص، وهو ليس للتّسلية، بل للتّربية، وله هدف وظيفيّ إيمانيّ، وليخدم قضيّة إيمانيّة هامّة. ولو كان كاتب القصّة بشراً فلا يمكن أن يبدأ من منتصفها كما جاء في هذه القصّة، وكذا أيَّة قصّة فيها عناصر من أحداث وشخصيّات وزمان ومكان. ولا يريد الله سبحانه وتعالى أن نتعلّق بالأحداث ولا بالشّخصيّات، لذلك هو يُبْهم الشّخصيّات، فيقول مثلاً: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ]الأعراف: من الآية 123[، وهذا لقب ملوكهم ولا ندري من هو فرعون؟ هل هو تحوتمس أم رمسيس أم غيرهما؟؟ لا ندري؛ لأنّ فرعون ليس هو المقصود لشخصه؛ ولأنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد أن نتعلّق بالقصّة ولا بالشّخصيّات بل بالعبر، وهذه القصّة القرآنيّة تخدم قضيّة إيمانيّة تتعلّق بالبعث، وتتعلّق بممارسات شعب بني إسرائيل؛ لأنّ البشريّة في كلّ أزمنتها القادمة بعد نزول القرآن الكريم ستعاني الكثير من هذا الشّعب، وها نحن اليوم نرى كيف تآمروا على الأمّة العربيّة والإسلاميّة، ومزّقوها دويلات، واحتلّوا المسجد الأقصى، واعتدوا وفعلوا الكثير من الإيذاء للمسلمين. وهنا قال سيّدنا موسى عليه السَّلام لقومه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.

والقوم: يقصد بهم الرّجال؛ لأنّ الله عزَّوجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ  ]الحجرات: من الآية 11[، وحين قال قوم موسى له: أتتّخذنا هزواً؟ استعاذ بالله أن يهزأ بهم؛ لأنّه نبيّ مكلّف من قبل الله سبحانه وتعالى، وهو الّذي أمره أن يبلّغهم هذا الأمر، ولا يمكن أن يكون هازئاً بهم.

وحين يأتي الأمر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر، وإذا جاء من متساويين فهو التماس، أمّا إذا جاء من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء ورجاء.. وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بأمرٍ على لسان نبيّهم موسى عليه السَّلام فحاول بنو إسرائيل أن يتهرّبوا من تنفيذ هذا الأمر فقالوا لموسى عليه السَّلام: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فهو نبيّ لا يمكن أن يهزأ بهم، والله سبحانه وتعالى هو الّذي أمره أن يبلّغهم إيّاه فهو أمرٌ إلهيّ، وهم يعلمون أنّه نبيّ، وقد عاشوا معه عمراً ومرّوا معه بمراحل كثيرة، ورأوا منه المعجزات الكثيرة، عندما ضرب بعصاه البحر.. وعندما اخترقوا معه البحر، وعندما أنزل عليهم المنّ والسّلوى.. وعندما رأوا كلّ الآيات البيّنات المعجزات الواضحات… وهذه صورة شعب بني إسرائيل ومماطلاتهم في مفاوضاتهم مع العرب، وكلّ مواصفاتهم نجدها قد وثّقتها هذه الآيات.

وهكذا في قضيّة البقرة، أرادوا أن يتملّصوا من هذا الأمر فأخذوا يماطلون ويسألون عن مواصفات البقرة، ولو جاؤوا بأيّة بقرة وذبحوها لأجزأتهم، لكنّهم شدّدوا فشدّد الله جلَّ جلاله عليهم، فزادت الشّروط بازدياد أسئلتهم.

الآية رقم (51) - وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ

لماذا واعد الله عزَّوجل موسى أربعين ليلة؟ ألم يكلّمه حين كان في جانب الطّور؟ فلماذا واعده ثانية في المكان الّذي كلّمه فيه؟ الجواب: أنّه واعده مرّة ثانية؛ لأنّه في اللّقاء الأوّل لم يعطه المنهج، وهناك سور تصف مناجاة الطّور الأولى بإسهاب أكثر… مثل سورة (طه): ﴿طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ]طه[، (ونحن نسعد بالقرآن بفضل الله، ولن نشقى، ونسعد بتفسيره ولا نشقى بإذن الله)، ﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى]طه[، وكلّ هذه المناجاة لا تتعلّق بالمنهج (التّوراة)، بل فيها تكليف لموسى عليه السَّلام وإمداد له وإخبار بالنّبوءة، ولفت النّظر إلى العصا الّتي سيكون لها دور كبير فيما بعد، مثل ضرب الحجر وضرب البحر. وهذا تكليف، ولم يعطه المنهج وقتها، بل أخبره بالنّبوّة، وكلّفه بأن يذهب إلى فرعون ويطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل. أمّا هنا، فقد واعده ليعطيه المنهج، وهو التّوراة الّتي امتنّ الله سبحانه وتعالىعليهم بها بعد أن نجّاهم من فرعون، كما امتنّ الله سبحانه وتعالى علينا نحن المسلمين بالقرآن الكريم. وكان الوعد أربعين ﴿لَيْلَةً ولم يقل: (يوماً)، ومعظم التّكاليف الإيمانيّة تأتي بقوله سبحانه وتعالى: (ليلة)، وليس نهاراً: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]القدر[، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ]الدّخان[، إلّا يوم عرفات، كي تتوزّع التّكاليف الإيمانيّة على مدار السّنة كلّها، وتوزّع العبادات يكون بحسب التّوقيت القمريّ، والقمر يظهر ويغيب في اللّيل، ورمضان يأتي في الشّتاء تارة وفي الصّيف تارة أخرى، ولو حُدّد على أساس الشّمس لجاء في وقت واحد دائماً، لكنّه يأتي في كلّ الفصول. وقد ذهب موسى عليه السَّلام لملاقاة ربّه وتلقّي المنهج، وترك مع قومه أخاه هارون عليه السَّلام فرأوا أناساً يعبدون صنماً فطلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً مادّياً (يُرى بالعين) كالأصنام.

وبنو إسرائيل رأوا كثيراً من المعجزات وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فاتّخذ بنو إسرائيل من حلّيهم ﴿عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ]الأعراف: من الآية 148[، ليعبدوه، وقد أخرجت نساء بني إسرائيل معهنّ حليّ القوم الّذين كانوا يخدمونهم، ظنّاً منهنّ أنّها من حقّهنّ، وهذا مال حرام، والمال الحرام هو وبال في أيّ شيء، ونحن المسلمون لا نكافئ من عصى الله فينا إلّا بأن نطيع الله فيه، فليسمع هذا أصحاب الجرائم والقتل. روي أنّ أبا الدّرداء رضي الله عنه بلغه أنّ رجلاً قد شتمه فكتب إليه قائلاً: “يا أخي، لا تسرف في شتمنا، واجعل للصّلح موضعاً، فإنّا لا نكافئ من عصى الله فينا إلّا بأن نطيع الله فيه”. فالمؤمن يطيع الله سبحانه وتعالىفي الخصومات، فلا يقتل ولا يغدر ولا يفجر ولا يسبي ولا يسرق… فكلّ هذه الأمور محرّمات حرمة قطعيّة في ديننا. والحرام لا يأتي منه الخير مطلقاً، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا هذه القصّة للعبرة، ويقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً، وإنّ الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال عزَّوجل ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ]المؤمنون[»([1])، فقد أمرنا أن لا نأكل إلّا طيّباً، فالحرام وبال على الإنسان، وكما أنّه وبال عليه سيكون وبالاً على ذرّيته من بعده كذلك. وقد ظلم بنو إسرائيل أنفسهم؛ لأنّهم أرادوا تجسيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بالله عزَّوجل إيمان بغيب؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ولا يُرى. فأراد بنو إسرائيل أن يجعلوا إلهاً كما يشتهون؛ لأنهم مادّيّون لا يؤمنون إلّا بما يرونه أمامهم من الأمور الحسّيّة الملموسة، لذلك طلبوا من هارون أن يجعل لهم إلهاً مُشَاهداً ليعبدوه، وهم لا يفهمون معنى العبادة وأنّ العبادة طاعة، وهذا صنم لا يأمر ولا ينهى فكيف يطيعونه؟ وهذه قمّة المعصية (أن طلبوا أن يجعل لهم إلهاً ماديّاً).


([1]) صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصّدقة من الكسب الطيّب، الحديث رقم (1015).

الآية رقم (66) - فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ

﴿نَكَالاً النّكال: هو العقوبة الشّديدة، وهذه العقوبة كانت أشدّ العقوبات؛ لأنّها جاءت بعد كلّ ما شاهدناه من معاصيهم، وبعد كلّ المراحل الّتي مرّ بها بنو إسرائيل، كانت هذه العقوبة حصيلة كلّ ما فعلوه من عصيان، وموعظة لكلّ المتّقين. والنّكول: هو الرّجوع، أي كي ترجع عن تلك الجريمة ولا تعود إليها مرّة أخرى.

ولا عقوبة إلّا بتجريم، ولا تجريم إلّا بنصّ، وهذا مبدأ قانونيّ، أي لا بدّ من وجود نصّ ينصّ على أنّ من فعل جريمة كذا فعقوبته كذا، والقرآن الكريم وضع العقوبات ليمنع وقوع الجريمة، وليس من أجل العقوبة، أي حين وضع تبارك وتعالى حدّ القطع ليد السّارق فمن أجل الرّدع والمنع، وليس من أجل القطع.

والّذين يحاولون تشويه الإسلام وأحكامه يستغلّون هذه المبادئ، ويشكّكون في قضيّة العقوبات في الإسلام، وهي في حقيقتها رادعة لمنع وقوع الجرائم

﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: أي حين يرونها في وقت وقوعها، أي: تحويلهم خلقاً وخلُقاً إلى قردة وخنازير فهم رأوا تلك العقوبة.

﴿وَمَا خَلْفَهَا: أي لما بعدها.

وحتّى في زمن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان هناك اليهود الّذين اعتدوا ومكروا وتآمروا مع المشركين على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين.

﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ: فهي موعظة لكلّ المتّقين عبر كلّ زمان ومكان، وأهل كلّ الأديان.

وليست العبرة بخصوص السّبب بل بعموم المعنى.

الآية رقم (50) - وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ يعني ظرف زمان، أي وقت وقوع الحدث.

﴿فَأَنجَيْنَاكُمْ: من الغرق وهو عذاب لم يقع، ولو قال تبارك وتعالى: ﴿نجَّيْنَاكُمْلكان المعنى أنّهم غرقوا. وفي الآية السّابقة كان العذاب واقعاً عليهم فقال: ﴿نجَّيْنَاكُمْ وهنا قال: ﴿فَأَنجَيْنَاكُمْ، وهو عذاب لم يقع.

والبحر غالباً ما يطلق على البحار المالحة، وقد يطلق أحياناً على الأنهار. وقد أنجى الله سبحانه وتعالىبني إسرائيل، وأغرق آل فرعون بالسّبب نفسه، وهذا ما لا يقدر عليه إلّا الله عزَّوجل فقد أهلك وأنجى بالسّبب الواحد. أمّا فرق البحر فستأتي آيات تُفصّل فيها وتذكر قصص لحاق فرعون ببني إسرائيل، وليس في القرآن الكريم تكرار، وإنّما هي إضاءات في القصّة الواحدة ولكن من زوايا مختلفة. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَنجَيْنَاكُمْ: تعني إنقاذهم من عذاب كاد أن يقع بهم وهو الغرق. والقصّة هنا لم تفصّل بأكثر من غرقهم، في حين توسّعت سور أخرى في قصّة غرقهم أكثر، كما في سورة (يونس) وغيرها.. فالقصص القرآنيّ يتنوّع بحسب الإضاءة الّتي يوجّهها على القصّة الواحدة، وبحسب الدّروس الإيمانيّة الّتي يريدها الله سبحانه وتعالى في كلّ إضاءة، وهذا ليس تكراراً. وهو يتحدّث هنا عن فرار موسى عليه السَّلام بقومه ولحاق فرعون وجنوده بهم، فأصبح البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من ورائهم. وفي سورة أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ]الشّعراء: من الآية 61[،  أي رأى بعضهم بعضاً رَأي العين، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ]الشّعراء: من الآية 61[، أي لحقوا بنا وأدركونا، قال موسى بكلّ طمأنينة: ﴿كَلَّا  ]الشّعراء: من الآية 62[، وبحسب المقاييس الدّنيويّة يجب أن يكون الجواب: (نعم)؛ لأنّهم رأوا فرعون وجنوده رَأي العين، لكنّ سيّدنا موسى عليه السَّلام قال بكلّ ثقة بالله: ﴿كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ  ]الشّعراء[. فأدخل نفسه في معيّة الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكّرنا بقصّة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم مع أبي بكر رضي الله عنه يوم الهجرة حين أحيط بهما في غار ثور، قال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم  «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟»([1])، وسجّلها القرآن، وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا  ]التّوبة: من الآية 40[، فما دام الله جلَّ جلاله معنا فلن يرونا؛ لأنّ الله سيعمي أبصارهم عن رؤية النّبيّ صلّى الله عيه وسلَّم وصاحبه.

فمن كان في معيّة الله فلا خوف عليه ولا يحزن، لا يخاف ممّا سيقع، ولا يحزن على ما وقع. لذلك يوصي الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يذكروه دائماً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ     ]البقرة: من الآية 152[؛ لأنّ ذكر الله سبحانه وتعالى دواء وذكر غيره داء، وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلَّم لابن عبّاس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك»([2])، فإذاً يجب أن نكون دائماً مع الله سبحانه وتعالى.

وكذلك كان سيّدنا موسى عليه السَّلام قلبه معلّق بالله، فحدثت المعجزة:
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ: تماسكت ذرّات البحر فصار هناك ما يشبه الجبلين الكبيرين على الجانبين، وفتح الله سبحانه وتعالى لهم طريقاً في قلب البحر، والبحر حين ينشقّ يبقى أثر الماء فيكون الطّريق داخله موحلاً، لكنّ الله جعله ﴿يَبَسًا﴾]طه: من الآية 77[، جاءت ريح فجعلت الأرض يبساً ليسيروا عليها، وذلك حين أمره ربّه سبحانه وتعالى بأن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر، وليس الفعل للعصا بل هي السّبب، والله عزَّوجل لم يقل للبحر: (انفلق)، بل أمر موسى عليه السَّلام بأن يضرب بعصاه البحر، وهذا يعني ربط السّبب بالمسبّب، وتعليم للبشر بأن يأخذوا بالأسباب.

كذلك السيّدة مريم البتول عندما قال لها ربّها: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا]مريم[، وليس هزّ النّخلة سهلاً، وقد لا يقدر عليه عشرة رجال، لكنّه أمرها أن تأخذ بالأسباب، فخذ أخي بالأسباب؛ لأنّ الدّنيا دنيا الأسباب، لكن عش مع المسبّب، كن مع الله واربط قلبك به. فالسّبب هو هزّ النّخلة، والمسبّب هو الله سبحانه وتعالى. فالمطلوب منك أيّها المؤمن أن تأخذ بالسّبب، فإن لم تأخذ بالسّبب، فإنّك لم تطع الله عزَّوجل بل خالفت أوامره. قال الشّاعر:

إنّ الطّبيب له علمٌ يُدِلُّ به
حتّى إذا ما انتهت أيّـام رحلته                     .
  إنْ كان للمرء في الأيّام تأخير
حـار الطّبيب وخانتـــــــــه العقـاقير
.

والشّافي هو الله جلَّ جلاله ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]الشّعراء[، وعلينا أن نأخذ بالأسباب، وهذه هي القواعد الّتي جعلها الله للحياة، وقد أخبر تعالى: أنّه خلق السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام، وهذه أسباب، وهو قادر على أن يخلق بكلمة: ﴿كُنقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ   ]يس[، لكنّه خلق الأسباب لنأخذ بها، والمطلوب أن نكون مع المسبّب. وحين أراد فرعون وجنده أن يلحقوا بموسى عليه السَّلام ومن معه بالطّريق نفسه هَمّ سيّدنا موسى عليه السَّلام أن يضرب بعصاه البحر مرّة ثانية كي يغرق فرعون وجنده، فقال له ربّه عزَّوجل ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ       ]الدّخان[، أي اترك البحر كما هو؛ لأنّ الله عزَّوجل أراد أن ينجيهم ويهلك عدوّهم بالسّبب نفسه: (بضربة العصا الواحدة)، أنجاهم وأغرق آل فرعون بالسّبب الواحد:

– فأنجى موسى ومن معه بضربة عصا.

– وأهلك فرعون وجنده بالضّربة نفسها.

وليست العصا هي الّتي ضربت، بل كلمة الله ﴿كُن هي الّتي ضربت. فالعطاء عطاءان: عطاء أنجى موسى ومن معه، وعطاء أهلك فرعون وجنده، فهاتان نعمتان.


([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة (براءة)، رقم الحديث (4386).

([2]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، رقم الحديث (2516).

الآية رقم (65) - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ

يخاطب الله سبحانه وتعالى بهذا القول اليهود الّذين كانوا في جزيرة العرب في المدينة المنوّرة وقت التّنزيل.

وقد ذُكر في القرآن الكريم يومان فقط من أيّام الأسبوع، وهما الجمعة والسّبت. وذُكر اسم الجمعة في سورة (الجمعة): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] الجمعة: من الآية 9[، والسّبت ذُكر هنا وفي سورة (الأعراف). وأيّام الأسبوع سبعة: الأحد، الإثنين، الثّلاثاء، الأربعاء، الخميس، وسُديس هو يوم الجمعة، وسُبيع هو يوم السّبت، فالجمعة والسّبت أسماء لا تتعلّق بالعدّ، بل اختلفت عن سابقاتها.

وكان تمام الخلق في ستّة أيّام، وجمعهم يوم الجمعة، فسمّي بالجمعة وثبت واستقرّ أمر الخلق في يوم السّبت، وهو يعني السّبات، وجعله عند اليهود يوم عيد وراحة لا يجوز العمل فيه، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يبتليهم ليختبر إيمانهم وطاعتهم، وكانوا يعيشون قرب البحر، ويعتمدون على الصّيد، فجعل الله سبحانه وتعالى السّمك والحيتان تكثر يوم السّبت، ولا يجوز لهم أن يعملوا يوم السّبت، فكانوا يحتالون فيضعون أقفاصاً (يرمون شباك الصّيد) يوم السّبت يتجمّع فيها السّمك، ويأخذونها يوم الأحد. والله سبحانه وتعالى لا يُخدَع بمثل هذا، وقد وردت هذه القصّة في سورة (الأعراف) في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] الأعراف[،  وهم اعتدوا على أوامر الله سبحانه وتعالى فقال لهم جلّ وعلا: ﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ.

والإنسان لا يمسخ قرداً بإرادته بل هي كلمة ﴿كُن   الإلهيّة، وبكلمة ﴿كُونُواْ تحوّل كلّ من خالف وعمل يوم السّبت منهم وعصى الله سبحانه وتعالى إلى قردة وخنازير، أي مُسخوا وانقرضوا.. ولم يشمل هذا الأمر الجميع، بل أصاب الّذين عصوا واعتدوا فقط. وهذه القصّة مشهورة عندهم يعرفها كلّ بني إسرائيل، يرويها الآباء منهم للأبناء، ولهذا قال لهم تبارك وتعالى: ﴿لقَدْ عَلِمْتُمُ وقال بعض المفسّرين: مُسِخوا خَلقاً وخُلُقاً، فصارت أخلاقهم مثل أخلاق القردة والخنازير، وجاء في آية أخرى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ]المائدة: من الآية 60[؛  لكثرة ما جحدوا وعصوا، فهذه العقوبة كانت حصيلة لكلّ ما فعلوه من قبل.