وردتْ قصّة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف، حينما سُئِلَ النّبيّ عليه السّلام عن الرّجل الجوَّال الّذي طاف الأرض، فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف]، وقد تكلّم العلماء في ذي القرنين، منهم مَنْ قال: هو قورش، ومنهم مَنْ قال: هو الإسكندر الأكبر، والقرآن الكريم لا يعنيه الشّخص وإلَّا لَذكره باسمه، فالقرآن الكريم لا يُؤرِّخ له، إنّما يريد التّركيز على الأوصاف الّتي تعني الحقّ وتعني الخَلْق، فيكفي أن نعلم أنّه إنسان مكَّنَه الله عزَّ وجلّ في الأرض؛ يعني: أعطاه من أسباب القوّة وأسباب المهابة والسّيطرة والمال، وأعطاه من الـمُقوِّمات كُلِّها: المال والعلم والجيوش، فلم يكتف بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، بل: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾[الكهف]، يعني: أخذ بالأسباب الّتي تؤدِّي إلى الخير. وسبق أنْ تحدّثنا عن تشخيص الأبطال في القصص القرآنيّ، وقلنا: إنّ القرآن الكريم لا يُؤرِّخ للشّخصيّة، ولا يُعطي لها خصوصيّة، وإنّما يريدها عامّة لتكون مثلاً يُحتذَى به، ويتمّ الاعتبار بها، وتُحدِث الأثر المراد من القصّة، فما يعنينا في قصّة ذي القرنين أنّه رجل مُكِّن في الأرض، وكان من صفاته كذا وكذا، وما يعنينا من أهل الكهف -مثلاً- أنّهم فتية آمنوا بربّهم، وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم، وضَحَّوْا في سبيلها، لا يهمّنا الأشخاص ولا الزّمان ولا المكان ولا العدد؛ لذلك أبهم القرآن الكريم هذه المسائل كلّها، كذلك لـمّا أراد القرآن الكريم أنْ يضرب مثلاً للّذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط، ولم يُعيِّنهما، وكذلك ضرب مثلاً للّذين آمنوا بامرأة فرعون، ولم يذكر مَنْ هي، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص، إنّما لنعلم أنّ للمرأة حرّيّةَ العقيدة واستقلاليّةَ الرّأي، فليست هي تابعة لأحد، بدليل أنّ نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كلّ منهما من هداية امرأته، وفرعون الّذى ادَّعَى الألوهيّة، وكان أكبر جبّار في الأرض، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان، وهي قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[التّحريم: من الآية 11].
فما يعنينا في قصّة (ذي القرنين) أنّ الله سبحانه وتعالى مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوّة والسّيطرة؛ لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحقّ، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحقّ والعدل، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: من الآية 86]؛ لأنّنا مكَّنَّاه وفوَّضناه، فاستعمل التّمكين في موضعه، وأخذ الأمانة بحقِّها، فقال: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا﴾ [الكهف: من الآية 87]؛ أي: نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا، ثمّ يُرَدُّ إلى ربّه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته جلَّ جلاله، ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾[الكهف]، وهكذا يكون دستور الحياة، دستور الثّواب والعقاب الّذي تستقيم به أمور العباد، يتابع المولى عزَّ وجلّ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف]، هذا كُلُّ ما أخْبَر الله سبحانه وتعالى به عن ذي القرنين، ويبدو أنّه وصل في تجواله العامّ إلى بلاد تظلّ الشّمس بها مشرقة ثلاثة أو ستّةَ أشهر لا تغرب؛ لذلك لم يجد لهم من دون الشّمس ستْراً يسترها؛ أيْ: ظلمة، ويتابع المولى سبحانه وتعالى ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾[الكهف]، ومع ذلك احتال ذو القرنين أن يفهم منهم ويخاطبهم؛ لحرصه على نفعهم وما يصلحهم، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه، فلمّا توصّلوا إلى لغة مشتركة، ربّما هي لغة الإشارة: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف]، ثمّ أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد، فأشعل فيها النّار حتّى احمرَّت، فقال: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾[الكهف: من الآية 96]، وهكذا صنع لهم السّدَّ الّذي يحميهم من هؤلاء القوم، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضيّة ذاتها، إنّما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوّة في ألَّا يتعرّضوا لمثلها بعد ذلك، لذلك هو أشــــــركهم في العمل؛ ليشعروا بأهمّـيّته ويتمسّكوا بالمحافظة عليه وصيانته، وهذا النّموذج الّذي تُقدِّمه قصّة ذي القرنين، هو نموذج صالح لكلّ زمان ومكان. وقد تضاربتْ الأقوال حول: مَنْ هم يأجوج ومأجوج، فمِنْ قائل: هم التّتار، وآخر قال: المغول..، ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن الكريم، إنّما المهمّ من قصّتهم أنّهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصّالح على صلاحه، وفي بناء السّدّ دروس، منها أنّ ذي القرنين لم يقف عند طلبهم في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوّهم يأجوج ومأجوج، إنّما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم، فالسّدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النّفاذ منه؛ لذلك قال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾[الكهف: من الآية 95]، لقد طلبوا سدّاً، وهو يقول: رَدْماً، لقد رقّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سدّاً على هيئة خاصّة تمتصّ الصّدمات، ولا تؤثِّر في بنائه؛ لأنّه جعل بين الجانبين رَدْماً يُعطِي السّدّ نوعاً من المرونة، ولـمّا عرضوا عليه المال نظير عمله أبى، وقال: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾[الكهف: من الآية 95]؛ أي: عندي المال الكثير من عطاء الله عزَّ وجلّ لكن أعينوني بما لديكم من قوّة.
نعود إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾: فلها علاقة بقوله جلّ وعلا: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾[الأنبياء: من الآية 93]، فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد، وأقلّ ما يقولونه في حقِّهم: إنّهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم، فدعُوكم من كلامهم، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحقّ، ويصرفون النّاس عنهم.
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾: يعني: جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكّن ولا تجد الفرصة إلّا إذا غفل أهل الحقّ وتفرّقوا فلم يردّوهم، ويأخذوا على أيديهم، ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كلّ زمان ومكان.
﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾: الحدب: المكان المرتفع، نقول: فلان أحدب الظّهر يعني: في ظهره منطقة مرتفعة، وهؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة من هضبة -كما قالوا- شمال الصّين.
﴿يَنْسِلُونَ﴾: يعني: يسرعون، ومنه نقول: انسلَّ القماش؛ لأنّ القماش مُكوَّن من خيوط طوليّة وخيوط عرضيّة، تتداخل فتكوِّن القماش، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطّول.