نقلهم الحقّ سبحانه وتعالى من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرّسول، وعدم الإيمان بالوحي، وصَمِّ الآذان عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبّههم ويلفت أنظارهم إلى أنّ هذا الكلام الّذي قابلتموه بالتّكذيب والتّشكيك كان لمصلحتكم، وأنّ كلّ شيء محسوب، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى.
﴿الْمَوَازِينَ﴾: كلمة (موازين) جمع: ميزان، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها؛ لأنّ التّقدير يقع على عدّة أشياء: على الكثافة بالوزن، وعلى المسافات بالقياس… إلخ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت، فمثلاً: المتر، وكذلك الياردة، وجعلوا للوزن معايير من الحديد: الكيلو والرّطل.. إلخ.
والموازين هنا موازين عامّة، تكلَّم عن الشّيء الّذي يَوزَن، ولم يذكر المعايير الأخرى، فكلّ شيء سيوزن بحساب دقيق عند ربّ العالمين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾[الرّحمن]، فهل هي موازين متعدّدة، أو هو ميزان واحد؟ الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرّة واحدة، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كلّ واحدٍ منهم دَوْره، بل في وقت واحد؛ لذلك عندما سُئِل الإمام عليّ -كرَّم الله وجهه-: كيف يُحاسب الله سبحانه وتعالى الخَلْق جميعاً في وقتٍ واحد؟ قال: “كما يرزقهم جميعاً في وقتٍ واحد”، فالمسألة صعبة بالنّسبة إلينا، بينما سهلة ميسورة للحقّ سبحانه وتعالى.
﴿الْقِسْطَ﴾: صفة للموازين، وهي مصدر بمعنى: عدل، كما تقول في مدح القاضي: هذا قاضٍ عادل؛ أي: موصوف بالعدل، فإذا أردتَ المبالغة تقول: هذا قاضٍ عَدْل، كأنّه هو نفسه عَدْل؛ أي: معجون بالعدل، فهذه الموازين معجونة بالقسط، وهذه المادّة: (قسط) لها دور في اللّغة، فهي من الكلمات المشتركة الّتي تحمل المعنى وضدّه، مثل: (الزّوج) تُطلق على الرّجل والمرأة، و: (العَيْن) تُطلَق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وعلى الذّهب والفضّة، كذلك: (القِسْط) نقول: القِسْط بالكسر بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[المائدة: من الآية 42]، ونقول: القَسْط بالفتح يعني: الظّلم، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾[الجنّ]؛ أي: الجائرون الظّالمون.
والقِسْط بمعنى العدل كما جاء في هذه الآية.
﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾: فلا تظلم نفس حتّى مجرّد شيء، ولا حتّى مثقال حبّة خردل.
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾: والخردل: مثال للصِّغَر، للدّلالة على استقصاء كلّ شيء، ولا يزال الخردل هو المقياس العالميّ للكيلو، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن، وقد أتى بها القرآن الكريم منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزّمان.
ومعنى: ﴿أَتَيْنَا بِهَا﴾؛ أي: لهم أو عليهم، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله عزَّ وجلّ لا يظلمهم، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير، وإنْ كانت عليهم علموا أنّ الله جلَّ جلاله يستقصي كلّ شيء في الحساب، وحَبّة الخردل تدلّ مع صِغَرها على الحجم، وكلمة مثقال تدلّ على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن، ثمّ يُعقِّب سبحانه وتعالى على هذه المسألة:
﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾: فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبط لمعايير الحساب، ولا يظنّنّ أحدٌ أنّ مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن يصل فيها إلى الدّقّة الكاملة مهما أخذ من وسائل الحيطة، فنحن بشر، أمّا المعيار والقسط والحساب فهو لله عزَّ وجلّ، وهذا معنى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[الأحزاب: من الآية 39].
﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ فيكفي أنّ الّذي يضع الميزان، ويحاسب النّاس هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه سبحانه وتعالى هو الخالق، والمنعم، والعدل، والحقّ.